اخبار السودان

حرب من هذه؟ وما هي أهدافها؟ .. خراب سوبا «3»

 

حرب من هذه؟ وما هي أهدافها؟

خراب سوبا

«3»

الباقر العفيف

مقدمة

ناقشنا في الحلقة الثانية من هذه السلسلة سردية الكيزان المضللة عن الحرب وأسبابها وأهدافها، والتي يبنون عليها دعوتهم للوقوف مع الجيش ودعمه بشتى السبل فيما أسموه “حرب الكرامة” الوطنية. فقد بَيَّنا خطل تلك السردية وتهافتها. في هذه الحلقة نناقش أطروحة أخرى تشترك مع سردية الكيزان في موضوع “دعم الجيش” والطعن في “شعار لا للحرب” ولكن لأسباب مختلفة تتلخص هذه الأطروحة في الآتي:

• أن الجيش على علاته يمثل مؤسسة الدولة وأن انهياره يعني انهيار الدولة.

• إن الدعم السريع عبارة عن مليشيا عابرة للحدود وأنها بطبيعة نشأتها ليست لديها قضية وإنما هي مرتزقة تقاتل من أجل المال. وكل مقولات قادتها عن الحكم المدني الديمقراطي مجرد هراء يجب ألا يلقي أحد له بال.

• هذه الحرب ليست بين مليشيا الدعم السريع والجيش. إن التوصيف الصحيح للحرب هو أنها حرب المليشيا ضد الدولة. والدولة هنا تعني الجيش، والبوليس، وبقية الأجهزة الأمنية، وكذلك الأرض والشعب.

• أي حديث حول الحرب يجب أن يبدأ من الجرائم الهائلة والمريعة وغير المسبوقة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع.

• إن انتصار الدعم السريع يعني تسييل الدولة وهي ترجمة لعبارة liquidation of the state. أي نهاية الدولة الحديثة المعروفة.

• إن انتصار الدعم السريع سيؤدي لتأسيس مملكة آل دقلو.

• إن شعار لا للحرب يستبطن، على الأقل عند البعض، تأييدا خفيا للدعم السريع لا يستطيع أصحابه البوح به لأسباب يجيء تفصيلها في متن المقال.

• تحميل مسؤولية الحرب للكيزان والفلول ليس صحيحا وهو تعبير عن فوبيا الكيزان أو الكيزانوفوبيا.

• تتحمل الحرية والتغيير جزءا من مسؤولية الحرب من خلال اعترافها بالدعم السريع في الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا والاتفاق الإطاري.

محامون عظام وقضية خاسرة

هذه الأطروحة تتبناها كليا أو جزئيا مجموعة من الكتاب الرصينين، الذين يتمتعون بمصداقية عالية وجمهور واسع من القراء والمتابعين. يقف على رأس هذه المجموعة صديقي العزيز محمد جلال هاشم، شفاه الله ورعاه وأعانه على التصالح والرضى بما أصابه، كما وتشمل عبد الله علي أبراهيم ومعتصم الأقرع، وأخيرا انضم إليهم قصي همرور والواثق كمير، بالإضافة إلى بعض الجذريين، وبعض الكارهين للحرية والتغيير، لعل أبرزهم الأكاديمي العتيد د. عشاري أحمد محمود، الرجل صاحب التاريخ الناصع، والذي أُصِيبَ مؤخرا بشيء ما جعله أشبه برجل “يملأ عِبَّه بالحجارة ويَطَقِّع من طرف”.

يطلق على مثل هذه المجموعة من المثقفين، إذا التقت على الدفاع عن قضية ما، لقب “الفريق الحلم” أو the dream team، بيد أنهم تولوا قضية خاسرة بكل المعايير، ألا وهي قضية الدفاع عن الجيش، والدعوة لدعمه، وبالضرورة دعم الحرب إلى أن تتحقق هزيمة الدعم السريع، مما يضعهم أمام امتحان الأخلاق والحصافة السياسية والمسؤولية المجتمعية. والقضية الخاسرة تجعل المحترف يبدو هاويا من شدة تهافت حججه، كحال أصدقائنا المحترمين هؤلاء.

القاسم المشترك

ولعل القاسم المشترك بين هذه المجموعة هو الموقف الناقد، وعند بعضهم المعادي والكاره، لقوى الحرية والتغيير، وتحميلها مسؤولية الكثير من المصائب التي حاقت بالبلاد والعباد، منذ انتصار الثورة. هذا النقد وهذه العداوة لقوى الحرية والتغيير بلغت درجة حجبت معها الدور الرئيسي الذي لعبه الكيزان عبر دولتيهم العميقة والموازية في إفشال الانتقال. والقاسم المشترك الأخر بين هذه المجموعة هو الموقف الناقد والمعارض للاتفاق الإطاري. بيد أن هناك أمر آخر مهم، ألا وهو عدم إدراك الحجم الحقيقي للخراب الذي ألحقه الكيزان بالبلاد، على جميع الأصعدة، خلال ثلاثين عاما انفردوا فيها بالحكم واحتكروه دون منازع ودون معارضة. وإغفال الأثر الهائل الذي لعبته أيديولوجيتهم المناهضة للدولة الوطنية الحديثة في “تسييل” الدولة السودانية بالمعنى الحقيقي الذي نلمسه بأيدينا ويحسه كل فرد منا ويحيط بنا من جميع أقطارنا ويشكل واقعنا كله. وأكبر أدوات تسييل الدولة هي:

• صناعة المليشيات وتفريخها، وتعهدها، وتسليحها، ومشاركتها في جميع جرائمها والتستر عليها بحيث لم يُحاسَب أحدٌ من أفرادها أو أفراد الأجهزة النظامية وغير النظامية الأخرى على أيِّ جريمة أقترفت. كما ولم تظهر الحقيقة حول أي من الجرائم والمجازر التي ارتكبتها هذه الأجهزة وميليشيتها طيلة عهد الكيزان.

• إضعاف جميع مؤسسات الدولة وإفراغها من محتواها، وتحويلها إلى صَدَفَة خاوية، وإنشاء دولة كاملة موازية تقوم بالوظائف الحيوية للدولة كلها.

• الإخلال بتراتبية ومهنية المؤسسات النظامية، وذلك بإنشاء أجسام عسكرية جهادية موازية ذات سلطة سياسية جعلت ضباط الجيش والشرطة الكبار يتملقون كبار وصغار المجاهدين، والكيزان المتعصبين خوفا وطمعا.

• الإخلال بتراتبية ومهنية الخدمة المدنية بنفس القدر الذي جرى به الإخلال بتراتبية القوات النظامية. ومن علامات هذا الإخلال أن كثير من الحكام والمدراء والسفراء الذين لا ينتمون للتنظيم يعملون حسابا شديدا لمرؤوسيهم من الكيزان أصحاب السابقة في التنظيم ويسعون لاسترضائهم حتى لا يكتبوا عنهم التقارير لشيوخهم. فعلى سبيل المثال شهد بذلك مبارك الكودة عندما كان معتمدا في الحيصاحيصا حين كان والي الجزيرة العسكري سليمان محمد سليمان. حكى الكودة أنه كان من المستحيل على الوالي أن يذهب من مدني للخرطوم أو يعود منها دون التوقف في الحيصاحيصا لزيارة معتمدها، الكودة، وتملقه بتقديمه عليه في الصلاة والطلب منه أن يدعو له.

• إضعاف المجتمعات بإثارة الفتن فيما بينها، وتسليحها وتوظيفها في شن الحرب ضد بعضها بعضا، كما شهدنا ذلك في دارفور وجنوب كردفان ونشهده الآن يجري في جميع أنحاء البلاد.

• القضاء على استقلالية الأجهزة العدلية وأجهزة إنفاذ القانون بدرجة أضعفت ثقة الناس فيها، وأيأستهم من اللجوء إليها.

ومن القواسم المشتركة بين كتابنا هؤلاء، بالإضافة لإغفال أيديولوجيا الكيزان، وعدم إدراك البعد الحقيقي لتخريبهم للدولة، هناك إهمال تاريخهم الطويل، وخصوصا منذ ستينات القرن الماضي عندما سيطر الترابي على التنظيم وحوله “لخليط من الجريمة المنظمة والدين” بحسب توصيف بن لادن لهم. إن الناظر في السجل التاريخي لتنظيم الكيزان، سيجد أن هذه الحرب تمثل تتويجا طبيعيا لهذه المسيرة النكوصية الشريرة، وحصادا خبيثا للفتن التي كانت تزرع فيها عبر السنين. إن هذه المسيرة الدموية، إن لم نوقفها في آخر تجلياتها المتمثلة في هذه الحرب، فسوف تؤدي لتمزيق بلادنا إلى دويلات متناحرة. وتؤدي بشعبنا إلى الانزلاق في هاوية سحيقة ما لها من قرار، تدشن دخوله في ليل مظلم وطويل the abyss.

الدكتور محمد جلال هاشم

في هذه الحلقة سأناقش صديقي الدكتور محمد جلال هاشم بصفته الأكثر تنظيرا وتقعيدا لأطروحته والأكثر نشاطا في نشرها بشتى وسائل النشر. يبدأ محمد جلال بالتفريق بين الجيش والدعم السريع بناء على التشكيل والهيكلة وليس بناء على العقيدة. فالجيش فيه أسلحة مختلفة مثل سلاح الطيران والمدفعية والمهندسين والبحرية والمظلات وخلافه، لكن المليشيا ليس لها هذه الأقسام. وحتى لو تحصلت عليها فإن ذلك سوف لن يصنع منها جيشا. فالجيش ينسق بين كل هذه الأسلحة عندما يخطط لمعركة في حين المليشيا ليس لها مثل هذه الخبرة، فمنهجها الحربي هو “أضرب وأهرب” .Hit and run وبعد أن يثبت هذه النقطة كحقيقة fact يبني عليها حقيقة أخرى وهي أن “هناك كيزان في الجيش”، ولكنه يقلل من شأن هذه القضية بقوله فهذا مما يمكن إصلاحه “ممكن نشيلهم زي ما شلنا عمر البشير”، “ولكن الجيش كمؤسسة باقي”. ويضرب لنا مثلا للتدليل على مؤسسية الجيش بقوله “مثلا البرهان لن يستطيع تعيين ابنه قائدا للجيش مثلما فعل حميدتي الذي عين أخاه قائد ثاني للمليشيا”. ويمضي محمد جلال للقول إن المليشيا ليس لديها حاضنة اجتماعية في السودان، فحواضنهم الاجتماعية توجد في النيجر ومالي. لذلك يمكن أن يقرر البرهان حلهم بسهولة. وحسب كلماته “لو حلاها البرهان هسه بتتحل”. هذا ملخص الأطروحة التي يبني عليها دعوته لدعم الجيش ضد الدعم السريع.

هل الجيش مؤسسة؟

أما فكرة أن الجيش هو مؤسسة الدولة وأن انهياره سيعني إنهيار الدولة فهي فكرة تبسيطية تتجاهل التحولات العميقة التي حدثت في الجيش وفي طبيعة الدولة خلال حكم الإنقاذ الطويل والتي أفقدتهما صفة المؤسسية. فللمؤسسية في الجيوش معايير معروفة هي احتكاره للسلاح، والولاء للدولة والوطن، والحياد السياسي، والمهنية والعقيدة الأخلاقية المبنية على القانون الإنساني الدولي وخضوعه للسلطة المدنية الديمقراطية. لم يكن جيشنا عبر تاريخه محققا لأهم معايير المؤسسية، ولكنه على الأقل كان محتكرا للسلاح وكان مهنيا لدرجة معقولة، وكان ولاؤه للدولة والوطن. وقد حاولت حكومة مايو في أول عهدها أن تحول عقيدة الجيش من الولاء للدولة ليصبح ولاؤه للحزب الحاكم، ولكنها لم تحقق نجاحا يذكر. وعندما تحالف الكيزان مع النميري في المصالحة الوطنية عام ١٩٧٨، بدأوا العمل الجاد في أسلمة الجيش، وذلك بانتداب العشرات من ضباطه سنويا للمركز الإسلامي الأفريقي، الذي يديره الكيزان، للتحضير في الدراسات الفقهية، حيث جرى تجنيد هؤلاء الضباط في تنظيمهم العسكري. لذلك لم يكن غريبا أن جميع قادة الانقلاب كانوا ممن انتدب لهذا المركز، الذي أصبح اسمه لاحقا “جامعة أفريقيا العالمية”. وبعد سيطرتهم على مقاليد الحكم في عام ١٩٨٩فقد اندفع الكيزان بكامل إمكاناتهم وطاقاتهم في إعمال آليات “التمكين” و”التأصيل” لتغيير الطبيعة الحيادية لجميع مؤسسات الدولة، وفي قمتها الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، وتحويلها لأذرع للتنظيم. فهل هذا مما يوصف بعبارة “نعم هناك كيزان في الجيش وممكن نشيلهم زي ما شلنا عمر البشير”؟ أم يوصف بأن الجيش كله أصبح في قبضة الكيزان؟ وأنك لن تستطيع أن “تشيلهم” إلا إذا استطعت تحطيم هذا الجيش تحطيما كاملا؟ فنحن حتى وإن صح أننا الذين “شلنا” عمر البشير، وليس لجنته الأمنية، فكم كلفنا ذلك من السنين؟ فنحن لم “نشيله” في “ضحوية” بل كلفنا ذلك ثلاثين عاما من عمر شعبنا. وهناك حقيقة أخرى هي أن مما سهّل مهمة “شيلة” عمر البشير كونه فردا واحدا رأي جيش الكيزان أنه صار عبئا فقرر التضحية، مع العمل على استمرار نظامهم ريثما ينقلب على الثورة من جديد.

الترابي والثوابت الوطنية

يرى الترابي أن هناك صراع بين النخب السياسية حول “الثوابت الوطنية”، وهذا عين ما يسميه فرانسيس دينق حرب الرؤى. فبالنسبة للترابي إن الدول الغربية اللبرالية التي استقرت سياسيا إنما استقرت بعد أن حسمت موضوع الثوابت الوطنية عبر فوهة البندقية. فالإطار اللبرالي يمثل الثوابت الوطنية لتلك الشعوب، وداخل هذا الإطار تصطرع الأحزاب السياسية بين يمين ويسار ووسط. وبنفس القدر يريد الترابي أن يحسم أمر الثوابت الوطنية في السودان بالقوة ويفرض الإطار الإسلامي فرضا لتصطرع في داخله أحزاب كلها إسلامية. وهو في ذلك يستلهم النموذج الإيراني الذي تتصارع فيه أحزاب إسلامية، إما إصلاحية أو محافظة. وعلى ضوء هذه الخلفية ربما نفهم محاولات الانقلاب الفاشلة التي قادها ضباط إسلاميون مثل انقلاب ود أبراهيم، وانقلاب رئيس هيئة الأركان الأسبق هاشم عبد المطلب، وانقلاب بكراوي، وأخيرا انقلاب البرهان نفسه. فهذه كلها انقلابات من داخل البيت الإسلامي كل يريد أن يقيم النموذج الإسلامي الأفضل الذي يرى أن إخوانه الإسلاميين الحاكمين فشلوا في تطبيقه. يلاحظ أنه لم يُقتَل أي من الضباط الذين قاموا بهذه المحاولات الفاشلة، بينما قُتِل ضباط رمضان البعثيون شرَّ قتلة. والسبب في تقديري أن هؤلاء الضباط الإسلاميين يعملون داخل الثوابت الوطنية بينما البعثيون ينازعونهم عليها، ويريدون أن يفرضوا إطارا غير إسلامي.

الشاهد في الأمر أن الكيزان استطاعوا عبر آلية التمكين من التخلص من آلاف الضباط وإحلال ضباطهم محلهم. جرى ذلك عبر ثلاثين عاما من تخريج دفعا بحالها من ضباط الكلية الحربية من أعضاء تنظيمهم، أو من المرجوين فيهم، أو من المزكيين بواسطتهم، حتى فرضوا ذلك الإطار الإسلامي داخل الأجهزة الأمنية. فالجيش كما ذكرنا مرارا وتكرارا كَفَّ عن أن يكون جيشا للسودان وأصبح ذراعا مسلحا للحركة الإسلامية، ولاؤه لها وليس للوطن. وبذلك فقد صفة المؤسسية. وبطبيعة الحال لا تقاس المؤسسية بتنوع الأقسام الحربية أو بمجرد عدم قدرة البرهان على تعيين شقيقه أو ابنه قائدا للجيش، كما يقول محمد جلال هاشم، بل تقاس المؤسسية بمعيار العقيدة والانضباط، والمهنية. فعندما تكون عقيدة الجيش وطنية بمعنى أن يكون ولاؤه للوطن لا للحزب، وعندما يكون معيار تنسم المواقع القيادية قائم على المهنية لا على الولاء، وعندما يكون هناك انضباط في التدرج الوظيفي والترقية ومنح الرتب واحتكار السلاح يصبح الجيش مؤسسيا. إن مجرد وجود الدعم السريع ومنح قياداته رتب عسكرية رفيعة من غير أساس، (رتب خلاء)، يطعن مؤسسية الجيش في مقتل. وبالإضافة لفوضى الرتب، هناك فوضى الأزياء العسكرية التي سمحت لأي كوز بأن يخرج للناس وهو في زي الجيش أو زي الشرطة أو زي الدعم السريع، وأن يضع على كتفيه أي رتبة يراها، ليمارس قهره وإجرامه على الشعب السوداني.

إن مجرد أن يخرج علينا البرهان وهو رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش ليحدث الشعب بأن هناك طرف ثالث هو الذي يقتل المتظاهرين، ليمثل أكبر دليل على عدم مؤسسية الجيش وجميع الأجهزة الأمنية. إذ كيف نفهم أن طرفا ثالثا يقتل المتظاهرين في وضح النهار دون أن تقوى الدولة على القبض عليه؟ هذا ببساطة يعني أن هذا الطرف الثالث إما أنه أقوى من أجهزة الدولة أو هو أجهزة الدولة ذاتها. وفي الحقيقة أن هذا الطرف الثالث هو “التنظيم السري” للحركة الإسلامية الذي يوجد داخل جميع هذه الأجهزة، ويمسك بمفاصلها، ويضم المجموعات التي تتلقى تعليماتها من شيوخ الحركة الإسلامية والذين يملكون سلطة سياسية تسمح لهم بالإفلات من العقاب، وتجبر الآخرين على التعامي وغض الطرف عن جرائمهم والتواطؤ معهم.

فعندما نطبق هذه المعايير الحقيقية للمؤسسية نجد أن كلا الجيش ومليشيا الدعم السريع سيان في اعتماد معيار الولاء بدلا عن الكفاءة المهنية. كل الفرق بينهما هو أن الولاء هناك للتنظيم وهنا للأسرة. فمثلما يعين حميدتي أخاه بالرضاعة في لبن الأم، يعين الكيزان عن طريق البرهان أخاهم في رضاعة لبن الأيديولوجيا. فما دام الجيش، بل الدولة كلها مملوكة للحركة الإسلامية كما شهد بذلك عمر البشير نفسه، مثلما ظهر في تسريبات قناة العربية الشهيرة، فإن قائده لابد أن يكون ولاؤه للتنظيم وليس للبلد، في حين أن الولاء في مليشيا الدعم السريع للأسرة. فالكلمة المفتاحية هنا هي “الولاء” لا الكفاءة، وفي ذلك هما سواء.

هل هناك دولة؟

في حقيقة الأمر ليس هناك دولة. فقد تلاشت الدولة منذ أن فشلت في القيام بأهم أدوارها وهي حماية مواطنيها وحفظ أمنهم، وتأمين الغذاء والدواء لهم. تخلت الدولة عن مواطنيها، فلا هي أطعمتهم من جوع ولا أمنتهم من خوف. بل بالعكس فقد تسببت في انهيار القانون وصناعة الفوضى التي حولت أجزاء واسعة من البلاد إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف. وذلك بعد أن هربت الشرطة وهي تدس ذيلها بين أرجلها، وتوارت عن الأنظار بصورة مشينة. أما الجيش فقد فشل في مهمته في حماية المواطنين وصار وكده حماية نفسه داخل حصونه ومقراته التي صارت تتساقط الواحدة بعد الأخرى في يد مليشيا الدعم السريع. وأصبح هو في تراجع مستمر. وقد أظهرت هذه الحرب حقيقة لم يكن يراها الناس وهي أن جيش الكيزان كان مدربا وماهرا في مواجهة المدنيين العزل من مواطنيه ولم يكن مستعدا لمنازلة جيوش مسلحة تسليحا ثقيلا مثل مليشيا الدعم السريع، فأداؤه الحربي البائس الضعيف يذكرنا بعبارات منصور خالد التي هجا بها النميري “فرارا في كل معركة، لوذا عند كل لقاء، متهالكا أمام كل مجابهة” فهو جيش لم يحارب سوى مواطنيه ولم يستأسد إلا على العزل منهم. هذا الجيش الذي أفسدته سياسة التمكين وحولت جنرالاته لرجال أعمال مترفين فسدة ومفسدين لا يحذقون فن القتال ولا ينزعون للسلام. أشعلوا الحرب داخل العاصمة، وحولوها لمسرح عمليات، في استهتار بالغ بأرواح ساكنيها، مما حول المواطنين الأبرياء الذين لا يد لهم في الحرب إلى ضحايا تقع على رؤوسهم الدانات والصواريخ والشظايا، تَهِدُّ منازلهم وتُقَطِّع أوصالهم، كما تتهدَّدهم المجاعة، وانعدام الرعاية الطبية، وانهيار البيئة وانتشار الأوبئة. وكما يقول المثل الهندي “عندما تصطرع الفيلة يموت العشب”. وقد أصبح سكان الخرطوم، وغيرها من المدن التي نشبت فيها هذه الحروب، العشب الذي تضرر أبلغ ما يكون الضرر من صراع الفيلة عليه. وإذا نظرنا للآثار الاقتصادية التي ترتبت على هذه الحرب نجد أنها أفقرت الطبقات الغنية والميسورة من سكان المدن المتأثرة بها، الذين نُهِبَت ثرواتهم ودُمِّرَت ممتلكاتهم من متاجر ومصانع وشركات وهي ثروات تقدر بمئات المليارات من الدولارات، انتقلت جميعها للمكونات الاجتماعية لقوات الدعم السريع.

 تحليل الحرب من منطلق جرائم الدعم السريع

يطالبنا محمد جلال بأن نبني تحليلنا للحرب على الجرائم الهائلة والمريعة وغير المسبوقة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع. وهذا طلب غريب حقا. فلماذا يا ترى نبني تحليلنا للحرب من منطلق الجرائم التي ارتكبت في ظلها؟ وهل هذه الجرائم بدعا في جرائم الحروب؟ وهل تختلف الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في الخرطوم مثلا عن الجرائم التي ارتكبتها قوات المهدي عندما أسقطت الخرطوم واستباحتها قبل حوالي ١٣٨ عاما؟ أو جرائم قوات كتشنر عندما أسقطت حكم الخليفة واستباحت الخرطوم قبل ١٢٤ عاما؟ أو عن ساير حروب الدولة السودانية في الجنوب ودارفور وجبال النوبة؟ أو حروب البوسنة والهرسك والكونقو ورواندا وليبيريا وسيراليون؟ أو ساير حروب البشر التي وصفها الشاعر بقوله:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أشأَمَ كُلُّهُم كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ

إن الأصل في جرائم الحروب هو انهيار حكم القانون وسيادة حكم الغاب حيث يأكل القوي الضعيف. فالحرب تسلب الناس الحق في الحياة وهو أعز وأهم حق من حقوق الإنسان، ثم تسلبهم الحق في الحرية، والكرامة وكذلك تسلب العرض والمال. وكلها حقوق تتفرع من الحق في الحياة. وهذا ما جعل الحرب من الخطورة بحيث يجب ألا يترك قرارها في أيد غير مسؤولة، جاهلة ومهووسة. فالحروب لا يدخلها العاقلون وعندهم خيار غيرها. ومن ثم يجب أن ينطلق تحليلنا للحرب من أسبابها وليس من نتائجها.

والحديث عن أسباب الحرب يدخلنا في طرح أسئلة بتجاهلها مؤيدو الجيش، من عينة حرب من هذه؟ ومن الذي هدد بها ثم أشعلها؟ وما هو هدفها؟ وأسئلة أخرى مرتبطة بها مثل من الذي أنشأ الدعم السريع وسلحه ومكنه من المواقع الاستراتيجية في الخرطوم؟ ومن الذي ظل يدافع عنه على طول المدى ويعاقب من ينتقده؟ وكيف تحول فجأة إلى عدو عندما رفض أن يتراجع عن الاتفاق الاطاري كما فعل البرهان؟ وكل هذه الأسئلة تقودنا لسؤال مهم وهو من الذي تسبب في انهيار القانون وتهيئة الأرض لارتكاب هذه الجرائم. والاجابات على هذه الأسئلة ستشير إلى اتجاه واحد هو أن الكيزان هم الذين أشعلوا الحرب وهم الذين كانوا على درجة من عدم الاكتراث والسبهللية، والبلادة والغباء، إن لم نتهمهم بالتآمر على الشعب وثورته، بأن اندفعوا اندفاعا أهوجا أشعلوا به حربا في عاصمتهم وكأنهم لا يعلمون ما تعني الحروب. إن كان مثل هذا التحليل هو مجرد كيزانوفوبيا فمرحبا بها، وسأعلن على الملأ بأني كوزونوفوبك وأفتخر.

الحواضن الاجتماعية

يقول الدكتور محمد جلال هاشم أن ميليشيا الدعم السريع ليس لها حواضن اجتماعية، وأن حواضنها توجد خارج السودان في مالي والنيجر. فكيف يقال إن الدعم السريع ليس له حواضن اجتماعية في السودان؟ وحواضنه قد أعلنت تأييدها له ببيانات مشهودة. ومن الواضح أن محمد جلال يقصد بالحواضن الاجتماعية المجموعات السكانية التي يمكن أن تتماهى مع الدعم السريع أو تتماهى مع الجيش. صحيح أن سكان العاصمة في جملتهم لا يتماهون مع الدعم السريع لأسباب مفهومة. بل أكثر من ذلك أنه خسر سكان العاصمة نتيجة لجرائمه الفظيعة وسلوكه الفظ. وصحيح أيضا أن سكان العاصمة يتماهون مع الجيش لأسباب تاريخية، ولكن الجيش أيضا خسر أقسام واسعة من سكان العاصمة نتيجة فشله في حمايتهم، وكذلك نتيجة جرائمه وسلوكه البشع، ونتيجة ارتهانه للكيزان. أما الدعم السريع فله حواضنه المتمثلة في القبائل العربية في دارفور وقد أعلنت تأييدها له ببيانات مشهودة كما ذكرنا سالفا. وهي التي ظلت ترفده بالمدد البشري في صفوفه، وأيضا بالفزع، وهؤلاء يقاتلون معه بدوافع الغنيمة وتحصيل الثراء السريع، وذلك بسرقة ممتلكات المواطنين. وعندما ينفي محمد جلال الحاضنة الاجتماعية عن الدعم السريع وينسبه بالكلية لحواضن خارج السودان فإن خطابه يقترب من الخطوط الحمراء، ويوشك أن يصير خطابا عنصريا. يمكن القول إن ليس للدعم السريع حواضن في الخرطوم، ولكن لا يمكن أن يقال أن ليس له حواضن في السودان.

هل يستبطن شعار لا للحرب تأييدا خفيا للدعم السريع؟

يقول أصحاب هذا الرأي أن هناك مؤيدين للدعم السريع يخافون من أن يدمغوا بعار تأييد المليشيا، وفي نفس الوقت يريدون تحصين أنفسهم، ولو قليلا، من المساءلة المتوقعة في حال انتصر الجيش انتصارا ساحقا على الدعم السريع وشرع يصفي حساباته مع “الخونة” و”الطابور الخامس”، و”الدعامة المتخفين”. ولذلك فإن هؤلاء يجهزون منذ الآن حجتهم أمام محاسبة الكيزان بأن ينتقدوا، على استحياء، انتهاكات الدعم السريع كشهادة براءة أمام جيش الكيزان المزهو بالنصر المتأبط شرا بالخونة just in case. هذا رأي الدكتور معتصم الأقرع. أما الدكتور محمد جلال هاشم فقد وضع الفكرة بصورة أكثر دبلوماسية فهو تحدث عن أن عدم تأييد الجيش يعزل الحرية والتغيير عن أن تكون جزءا من احتفالات النصر، ودعاها لتتأمل خسائر ذلك الإبعاد. وبطبيعة الحال من تلك الخسائر التعرض لانتقام الكيزان. وما أدراك ما انتقام الكيزان. إنهم لا يقتلونك وحسب، وإنما يقتلونك بأبشع طريقة يمكن أن يتفتق عنها العقل البشري. ويكفي أن نتذكر كيف قتل الطبيب علي فضل وكيف قتل الأستاذ أحمد خير.

وبطبيعة الحال لا يوجد من شق صدر الآخرين ليطلع على سرائر رافعي شعار لا للحرب ليعرف ما إذا كانوا حقا جبناء ومنافقين. ولكن مجرد هذا التفكير يشير إلى أن هذه الحرب قد أفرزت ضمن ما أفرزت مناخا للنفاق. والنفاق ليس له وجه واحد فقط ينطبق على دعاة لا للحرب وإنما له وجه آخر يمكن أن ينطبق على مؤيدي الجيش. لأنه يمكن أن يقال أيضا أن اليساريين واللبراليين والعلمانيين الذين ينامون مع الكيزان الآن ويراهنون معهم على الانتصار السريع والساحق للجيش على الدعم السريع إنما يقدمون السبت للكيزان لكي ما يأمنونهم بالأحد، خصوصا وأن الكثيرين منهم “ضايقين يدهم” منذ أيام السيخ بالجامعات وحتى بيوت الأشباح. وفي الحقيقة لقد أذهلت مواقف البعض، خصوصا محمد جلال ومعتصم الأقرع، وقصي همرور الكثيرين من قرائهم ومعجبيهم الذين رأوها تتناقض تناقضا كاملا مع كل تاريخهم في الوقوف في وجه الفاشية الإسلامية. وقد ذهب هؤلاء المعجبون المذاهب في محاولة فهم وتفسير مواقف أبطالهم. فقد جاءتني مجموعة من الشباب حينما كنت بأديس أببا أثناء الاجتماعات الأخيرة وطلبوا مني تخصيص وقت لهم لمناقشة حيرتهم من موقف الدكتور محمد جلال وزملائه. وحق لهم أن يحاروا خصوصا و أن أصدقائنا هؤلاء كانوا “كيزانوفوبك” بار إكسلانس والآن بعد أن حملتهم الحرب إلى الضفة الأخرى صاروا يصمون بها زملائهم القدامى الذين لم تجرفهم الحرب فظلوا ثابتين في مكانهم القديم، يعرفون جيدا من هو عدوهم وعدو الثورة وعدو الشعب، ومن هم كارهي الأوطان، ويعرفون أن الكيزان هم من أشعل الحرب ليعودوا للسلطة على جثة الثورة وجثة الوطن، وإنهم إذا قدر لهم أن ينتصروا بعد إسخانهم في القتل سيكونون كمن لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر في الشر المطلق والانتقام الأعمى من خصومهم بحيث يبدو تاريخهم الذي نعرف بكل بشاعته وكأنه ذكرى رحيمة أمام ما كان يمكن أن ينتظرنا على أيديهم الآثمة.

الحرب العادلة والحرب غير العادلة

والسؤال البسيط الذي يجب أن يجيب عليه مؤيدو الحرب هو هل هذه حرب عادلة؟ وإلى أي مدى يمكنهم تأييدها؟ فمثلا هل هم مستعدون لتأييدها حتى لو استمرت عشرات السنين؟ وحتى لو تحولت لحرب إثنية وقبلية مكشوفة يقتل فيها الناس على الهوية والسحنة؟ حتى ولو أدت لضياع أجيال متتالية من السودانيين؟ أو لضياع البلد قاطبة؟ وبعبارة أخرى متى يتوقفون عن دعم الحرب والجيش ويقولون لا للحرب؟

في أدبيات الحروب هناك حديث عن الحرب العادلة. وهي الحرب التي تشنها سلطة شرعية تمثل الغالبية المطلقة للشعب، عبر مؤسسات منتخبة ومستقلة، ولأسباب مشروعة ومقنعة للشعب والجنود المقاتلين، لأنه على هذه المشروعية تنبني التعبئة للحرب، ويكون هناك دافعا للقتال بروح معنوية عالية واستعدادا من الشعب للتضحية وتحمل تكلفة الحرب. وأن يكون إعلان الحرب هو الملاذ الأخير بعد استنفاد كل الوسائل السلمية. وأن تكون المنافع المرجوة من الحرب أكبر بكثير من الأضرار المترتبة عليها. وأن يكون الإعداد لها متأنيا وكاملا لا مكان فيه للصدفة والإهمال والقصور أو الاندفاع والتهور وذلك لضمان النصر وتقليل الخسائر. فالحرب أخطر بكثير من أن تترك لحفنة من الأغبياء الموتورين أمثال اللواء بكراوي ومحمد علي الجزولي وأنس عمر وعلي كرتي.

وإذا نظرنا لحرب الكيزان هذه نجدها عارية من أي من معايير الحرب العادلة. فالسلطة التي أشعلتها سلطة انقلابية لا مشروعية لها البتة. بل هي سلطة مرفوضة من الشعب الذي ظل يقاومها منذ الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١ وحتى اندلاع الحرب في الخامس عشرة من أبريل ٢٠٢٣. وحتى هذه السلطة الانقلابية على علاتها لم تتخذ قرار الحرب، بل اتخذته المجموعة الكيزانية داخل وخارج الجيش وورطت فيه السلطة غير الشرعية ووضعتها أمام الأمر الواقع. وبالضرورة لم يكن قرار الحرب أخر ملاذ بعد استنفاد كل طرق الحل السلمي. بل كان قرارا أهوجا ككل أفعال الكيزان لم يعلم به كبار قادة الجيش الذين لم يسمعوا بالحرب إلا بعد أن أسرتهم قوات الدعم السريع. وهذا من أكبر الأدلة أنه لم يُجر الاعَدّادُ للحرب إعدادا جيدا. ويكفي أن قادة الجيش والكيزان كانوا يظنون أنهم سيقضون على الدعم السريع في غضون ساعات وأيام والآن هم يعانون الهزيمة والانكسار أمام قوات الدعم السريع، مما يهدد بتحطم الجيش، وتفسخه، بعد أن مُرِّغت كرامته في التراب، وانهارت روحه المعنوية. أما الفائدة المرجوة من الحرب، وهي دمج قوات الدعم السريع قسرا، أو حلها، بصفته أكبر منافع الحرب بالنسبة للكيزان، ففائدة لا قيمة لها البتة إذا ما قورن بالأضرار الكارثية التي ترتبت على الحرب. وكل هذا يضع مؤيدي هذه الحرب أمام امتحان الأخلاق العسير، ويطعن في سلامة مواقفهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *