كتاب يرصد التاريخ القانوني للمغرب الروماني
سعيٌ إلى “نفض الغبار عن المغيَّب من تاريخ المغرب القديم” أثمرَ كتابا جديدا مهتما بتاريخ المؤسسات السياسية والإدارية والقانونية في قديمِ تاريخ البلاد عهدَ الاحتلال الروماني، صدر بعنوان “الوضعية القانونية لمدن موريطانيا الطنجية”، للباحث هشام إبورك.
وينبه الباحث إلى أن “الوضع اللاتيني لمدن موريطانيا الطنجية لم يكن محط اهتمام كبير، إذا ما قورن بالرعاية التي نالها على مستوى الإمبراطورية برمتها”، بل و”تعرض إقليم موريطانيا الطنجية الروماني إلى إجحاف كبير من قبل العديد من الدارسين، رغم الموقع الإستراتيجي والمكانة الهامة التي احتلها ضمن أقاليم الإمبراطورية الرومانية الممتدة”؛ كما يوضح أن الوضعية القانونية لمدن موريطانيا الطنجية “لم تكن سوى آلية أساسية من آليات سياسة الرومنة التي وضعتها روما، وحرصت على تطبيقها وتحقيقها بالمجال المغربي القديم على المدى البعيد، وذلك من خلال تجنيد هذه الوضعية القانونية، وكذا القوانين البلدية المنظمة لها كقاعدة أساسية وأولية نحو رومنة عميقة”.
ويورد الكتاب أن سياسة روما في فرض الرَّومنة الشاملة اعتمدت التدرج “وفق سيرورة منظمة ومحكمة”، بدأت برَومنة الأسماء، مرورا بالرومنة القانونية، وانتهاء بالرومنة الثقافية التي “تظهر ملامحها بمختلف ميادين الحياة البلدية اليومية لمدن الإقليم” الذي يهتم البحث بدراسته.
ولم يكن من الممكن لسياسة الرومنة هذه أن تتحقق، وفق المؤلف، “دون اعتماد سياسة انتقالية وبينية” سماها الباحث مسار “اللَّيتنة”؛ التي “سعت من خلالها السلطات الرومانية إلى انتقال سلس من الوضع القانوني الأجنبي إلى الوضع القانوني الروماني، حيث تم الإبقاء على مميزات ومقومات الهوية المحلية كخطوة أولى، وإدخال السمات اللاتينية كمرحلة ثانية، وذلك في سبيل تثبيت الصبغة الرومانية كمرحلة أخيرة، وبالتالي تحقيق الغاية الكبرى المتمثلة في الرومنة الكاملة”.
لكن رغم ذلك شكلت القبائل المغربية القديمة “شوكة في حلق الإمبراطورية الرومانية طيلة القرون الثلاثة الأولى للميلاد، ورمزا لمقاومة سياسة الرومنة، سواء منها القانونية أو الثقافية، بل يمكن اعتبارها مشروع كيان سياسي مستقل”.
وقدم الكتاب مثالا بـ”قبيلة الباكوات” التي كانت “أبرز نموذج عَصِي على السلطات الرومانية خلال القرنين الثاني والثالث للميلاد، ما أرغمها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات خلال فترات زمنية عديدة، كما تشهد على ذلك معاهدات السلام التي أفصحت عنها النقائش”، وهو ما عملت بسببه روما على “استمالة زعماء هذه القبائل وضمان ولائهم، وذلك من خلال منحهم المواطنة الرومانية، كما هو الشأن بالنسبة لبعض زعماء قبيلة الباكوات، طيلة القرنين الثاني والثالث للميلاد، وكذا رومنة أبنائهم عبر استقدامهم إلى روما وتعويدهم على الحياة الرومانية وتقاليدها وعاداتها”.
“وإذا كانت الوضعية القانونية لمدن الأقاليم الرومانية الغربية نالت حظا وافرا من الدراسة والبحث، من لدن الباحثين، فإن شمال إفريقيا الروماني شهد عموما غياب دراسات تتعلق بتطور الوضعيات القانونية للمدن بشكل واضح طيلة الفترة الإمبراطورية، حيث اكتفى الباحثون بالحديث عن أنواع المدن من مستوطنات وبلديات وتلك التي تربطها علاقات واتفاقيات مع روما”، يورد المصدر ذاته.
ويتابع الكتاب: “كان لزاما علينا الانتظار إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين، تاريخ ظهور أولى الدراسات حول الوضعيات القانونية لمدن شمال إفريقيا الروماني، وضمنها مدن موريطانيا الطنجية ولو بشكل باهت مستفيدة من التطور الكبير الذي عرفه ميدانا الأركيولوجيا والإبيغرافيا بفضل الوثائق المهمة التي تم العثور عليها”.
هذه العقود الأخيرة عرفت “اهتماما واسعا من قبل الباحثين بظاهرة التمدن في العصر القديم، ولم يقف الأمر عند المدينة فحسب، بل شمل أيضا نظمها القانونية والسياسية والإدارية المختلفة، وكذا علاقة السلطات العمومية المحلية بالحياة البلدية، وذلك في محاولة لفهم بنيات المدن”، وهو ما ساعدَت “الأبحاث الأثرية والوثائق الإبيغرافية التي تم اكتشافها إلى حد الساعة” في مضاعفة الاهتمام به، “بغية بناء تصور عام لماهية الوضعية أو الوضعيات القانونية للمدن، التي تراوحت بين المدينة الأجنبية والمدينة البلدية والمدينة المستوطنة”، حسب البحث ذاته.
ومن حيث الخط الزمني، ارتبطت هذه الدراسة بـ”فترة مفصلية من تاريخ المغرب القديم” هي “فترة إخضاع المجال الموريطاني بعد مصرع ملكه بطليموس على يد الإمبراطور كاليكولا (3741)، وتقسيم خلفه الإمبراطور كلود لهذه المملكة إلى قسمين: قسم شرقي عاصمته قيصرية وسماه موريطانيا القيصرية، وقسم غربي عاصمته تنكِي وسماه موريطانيا الطنجية”.
وتركّز هذه الدراسة مجاليا على الرقعة الجغرافية لإقليم موريطانيا الطنجية الذي يحده شمالا البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي غربا، ونهر ملوية شرقا، ومدينة سلا جنوبا.
ويرى المؤلَّف أن الوضعية القانونية لمدن موريطانيا الطنجية من الإشكاليات التاريخية “التي مازالت تثير العديد من النقاش بين الباحثين والمتخصصين، فرغم المعطيات التي توفرها النصوص الأدبية اللاتينية والوثائق الإبيغرافية إلا أنها تبقى غير كافية وتحتاج إلى مزيد من الإضاءة”.
وسبيل هذه الإضاءة هو “الأبحاث الأثرية” التي يمكن أن “تفك شيفرة الوضعية القانونية والإدارية للعديد من المدن والتجمعات السكانية بموريطانيا الطنجية خلال العهد الإمبراطوري”، ومن هنا حديث الكتاب عن الحاجة إلى “العثور على قانون بلدي خاص بإحدى مدن الإقليم”؛ لأنه “قد يَحُلُّ جملة من الإشكالات، وعلى رأسها مسألة الوضعية القانونية للمدن”، وتنبيهه إلى حاجة “سياسة الرومنة القانونية لمدن إقليم موريطانيا الطنجية” للمزيد من “الدرس والتحليل واستنطاق خباياها”.
المصدر: هسبريس