دفعني مشهد الصمود الأسطوري لغزَّة كمدينة ليست ككُلِّ المُدُن إلى إعادة قراءة كتاب (مُدُن تحت الحصار) للمؤلِّف (ستيفن جراهام) الَّذي استهله بما يلي (ليست المدينة مجرَّد موقع، وإنَّما هي الوسط الرئيس للحرب ـ وسط مرِن شِبه سائل لا يتوقف بل يتدفَّق أبدًا). بهذا الوصف الدقيق للأهمِّية الاستراتيجيَّة للمدينة يبرز أسباب حصار المُدُن وفقًا للمنظورَيْنِ الأميركي والإسرائيلي، وكيفيَّة تعاملها مع قوى مقاومة الاحتلال في العراق وفلسطين وغيرهما، لتطويعها لِتصبحَ في مرمى النيران، وصولًا إلى عسكرة الحياة؛ باعتبارها ساحات صراع محتملة.ويرى المؤلِّف أنَّ التنظيم المَدني العسكري الجديد يتغذَّى بتجارب أساليب في الاستهداف والتكنولوجيا في مناطق الحرب، مِثل غزَّة أو بغداد.
تُشكِّل هذه العمليَّات تجارب على الأرض للتكنولوجيا والتقنيَّات الحديثة، كما يعتقد المؤلِّف. وهذه المقاربة الَّتي حاول المؤلف أن يتوقفَ عِندها هي: أنَّ القادة الأميركان في العراق أكَّدوا على ضرورة تنسيق ((ساحة المعركة)) الكاملة للمدينة؛ أي معالجة البنية التحتيَّة المَدنيَّة والاقتصاد المِنْهار و((التطبيق المراقب للعنف)) في محاولة لفرض الأمن في المدينة (الفلوجة نموذجًا). حيث إنَّ الجيش الأميركي وجدَ استحالة شديدة في التفريق بَيْنَ المقاوِمين والمَدنيِّين كما يجري في غزَّة ومُدُن الضفَّة الغربيَّة الآن.ويُشبِّه جراهام المدينة بالقلعة تستند إلى منطقتيْنِ: منطقة من حقيقة مادِّيَّة (جدران وأسوار)، فضلًا عن منطقة يُفترض أنَّها واقعيَّة (معنيَّة بالتحرُّكات أو تدفُّق المعلومات والاستخبارات). وكجزء من (التدمير الخلَّاق) الجذري الَّذي أحدثته حرب العراق يقول مؤلِّف كتاب (مُدُن تحت الحصار) كان يُفترض أن يبرزَ نموذج جديد من المُدُن تحت الأنقاض وستحفل ببنى تحتيَّة أمنيَّة، ترتكز على استراتيجيَّات تحديدًا مع محاولة إعمار بغداد كأرخبيل يشمل عشرة جيوب، تحوطها على نمط فلسطين جدران مضادَّة للانفجار.ويسلِّط المؤلِّف الضوء على بناء نَحْوِ مئة مدينة عَبْرَ العالَم بعيدًا عن ممرَّات حاضرات الأرض الرئيسة، هذه الإنشاءات الَّتي تقوم على أطراف المُدُن غير الظاهرة تمامًا، وفي المناطق الريفيَّة تتركز في صميم قواعد عسكريَّة وأراضي تدريب يقع معظمها في الولايات المُتَّحدة. ونوَّه المؤلِّف إلى التكامل بَيْنَ المُجمَّعات الصناعيَّة والأمنيَّة والمُجمَّعات الصناعيَّة العسكريَّة لـ»إسرائيل» والولايات المُتَّحدة إلى حدٍّ أصبحت ككيان واحد ومتنوِّع وعابر للحدود الوطنيَّة. ويخلص مؤلِّف كتاب (مُدُن تحت الحصار) إلى القول «ما يجذب دائمًا في الحرب هو، حتَّى مع الدَّمار والمجازر (يُمكِن أن تقدّمَ إلينا ما نتوق إليه طول الحياة، يُمكِن أن تعطيَنا هدفًا، ومعنى، وسببًا لنحيا) ولكن ليس على حساب آمال وتطلُّعات الشعوب في التحرُّر والأمل بحياة آمنة ومستقرَّة بعيدة عن حرب التجويع وقتل المَدنيِّين» كما يجري في غزَّة كمدينة ترفض أن تكُونَ تحت حصار وحشي وظالم.