وجوه رفع الحرج في الشريعة الإسلامية
إن مسالك رفع الحرج عن الأحكام الشرعية وتصرفات الشريعة عديدة ومتنوعة، ونجملها فيما يأتي:
وضع جميع الإصر والتكاليف الثقيلة التي كانت على الأمم السابقة، وذلك رأفة بهذه الأمة، وتسهيلا لأمر دينها. وبناء عليه، فإن الشريعة أبطلت كثيرا من الأحكام التي أوجبها الله على الأمم السابقة، مثل قتل النفس لصحة التوبة من أحدهم، واشتراط الصلاة في المسجد، ودفع ربع المال في الزكاة، كما حرّم على الرجل قربان زوجته ليلة الصيام، إذا ما نام واستيقظ قبل طلوع الفجر، فمثل هذا التصرف قد رفع عن هذه الأمة، قال تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} البقرة:١٨٧، وفي الجملة، فإن كل حكم تضمن إصرا فهو مدفوع عن هذه الشريعة، قال تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الأعراف:١٥٧، وقال أيضا: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} البقرة:٢٨٦.
ما حمل من التصرفات على الجواز مع اقتضاء أصلها الكلي المنع مطلقا دون التوقف على عذر، وذلك تخفيفا وتسهيلا على المكلفين ورفعا للحرج عنهم، فيما تقتضيه حوائجهم في الأحوال العادية، ويطلق الأصوليون على هذا النوع (بالمشروع على خلاف القياس)، ومثال هذا السلم الذي استثني من بيع ما ليس عند الإنسان الذي ورد فيه النهي “نهى صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان”، ومن هذا القبيل أيضا المثال الذي ساقه المازري فقال: “قد علم أن الشرع ورد بالنهي عن المزابنة، وعن بيع التمر بالرطب، وقد حصل في شراء العرية هذا المعنى، وهو بيع التمر بالرطب الذي في معنى المزابنة وفيه أيضا التفاضل، والتفاضل في التمر قد حرّمه الشرع، ونبّه على علة منع الرطب بالتمر بقوله: (أينقص الرطب إذا جفّ) قالوا: نعم، قال: فلا إذا)، وعلم أيضا أن بيع الطعام بالطعام نسيئة لا يحل، وقد حصل هنا هذا الممنوع، لأنه يستلم الرطب، ويدفع عوضه تمرا يابسا عند الجذاذ، فهذه وجوه من التحريم تصورت في شراء العرية، ومع هذا أرخص الشرع فيها لمعنى أخرجها عن أصولها”. ومثل هذه الإجارة، فهي مستثناة من أصل بيع المعدوم، وهو باطل شرعا، وسبب ذلك يعود لانعدام محل العقد وقت التعاقد، ونظرا لمسيس الحاجة إليها وحصول الحرج بمنعها، أجيزت على خلاف أصلها، حيث قال تعالى: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} الطلاق:٦، وقوله صلّى الله عليه وسلم: “ومن استأجر أجيرا فليعطه أجره”.
تشريع الرخص، في محل الأعذار المواجبة لذلك حملا للمكلفين على جهة التيسير، ونفيا للحرج المترتب عن المشقة غير المعتادة التي قد تلحقهم إذا ما التزموا بالعزائم في تلك المواقع، قال الإمام الشاطبي: “إن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه حتى يكون من ثقل التكاليف في سعة واختيار”. ولقد دلت الأدلة عموما وخصوصا على مشروعية الرخص، من ذلك قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} البقرة:١٧٣، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام:١١٩، وقوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} المائدة:٣، وقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} النساء:١٠١، وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة:١٨٤، وقوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} النساء:٤٣. وتؤكد السنة المطهرة هذا الأمر، من خلال قوله صلّى الله عليه وسلم: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته”، قال ابن عمر تعليقا على الحديث: “من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة”، ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم: “ليس من البر الصوم في السفر”، وعلق الأُبَي على هذا الحديث فقال: “أي ليس البر الكامل الصيام في السفر بل الفطر أيضا، لأنه سبحانه يحب أن تؤتى رخصه”.
ما أبيح أو شرع توسعة على العباد، مع وجود ما قد يعارضه من النصوص، ومثال ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} البقرة:٢٥٤، وقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} البقرة:١٩٨، ويلحق بهذه النصوص ما دل على إباحة التمتع بجميع أنواع الملاذ ما لم تكن حراما، وهو ما رسمه علماؤنا في قواعدهم، فقالوا: الأصل في الأشياء الإباحة، ما لم تثبت حرمتها بدليل، فهذه النصوص والقواعد وما يدخل تحتها قد يعارض بقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات:٥٦، وقوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} طه:١٣٢. فالمتأمل في هذه النصوص يجد أن إباحة الطيبات، والسعي في طلب الرزق، والتمتع بالملاذ هو من باب التوسعة على الناس حتى ينالوا حظوظهم ومآربهم، إلى جانب عبادتهم لربهم.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر