اخبار السودان

حرب جنرالات السودان.. الأساس الخاطئ «10»

 

حرب جنرالات السودان..   «10» 
الأساس الخاطئ

مهدي رابح

(( ان المنتصر في الصراع الطويل من اجل السيطرة علي الدولة يجب ان يعرف هدفه بوضوح، وأن يسعي اليه في صرامة وقسوة وليس بأيّ وسيلة أخري.))

مقتطف من تصريح د. عبد الوهاب الأفندي، الاسلاموي المعروف والملحق الاعلامي لسفارة السودان في لندن حينها وممثل لحكومة انقلاب يونيو 1989م “ثورة الإنقاذ الوطني” خلال منتدي ابسالا بالسويد… أغسطس (آب) من العام 1991م.
…………………………………………………………………………
قصدت افتتاح هذا المقال بالمقتطف اعلاه, والذي يمثل محاولة غير متقنة لتبرير الانتهاكات المروعة التي ارتكبها نظام “الإنقاذ الوطني” في نفس تلك الفترة والتي يمكن ان تُقرا في سياق التأسيس النظري لما سيليها حتي ما بعد سقوطه عام 2019م, والصادرة من قبل الدكتور عبد الوهاب الافندي, الاسلاموي المعروف كونه يمثل احد الوجوه التي تعطي المراقب الحالي وغير المتعمق جيدا في الشأن السوداني انطباعا مخادعا بالاعتدال, ذلك بهدف توضيح طبيعة أيديولوجيا الإسلام السياسي الحقيقية وان تبدلت تمظهراتها الخارجية او حاملي خطابها, ثم للولوج لاحقا لتقييم موجز لحجم التشوهات السياسية, الاقتصادية والاجتماعية التي تسبب فيها التنظيم الاسلاموي منذ دخوله المعترك السياسي السوداني نهاية ستينات القرن الماضي وخلال استيلائه علي الحكم بالقوة لمدي ثلاثة عقود منذ عام 1989م, والتي مثلت الأساس الموضوعي لما وصل اليه السودان اليوم من وضع كارثي, ذلك بالطبع دون اغفال لدور عناصره المباشر في اشعال فتيل حرب 15 ابريل 2023م وسعيهم الحثيث في الأشهر التالية لاستمرارها مهما يكن الثمن.

جاء الفكر السياسي الاسلاموي كنتاج وامتداد لما سمي بالصحوة الإسلامية, والتي يمكن ان نرجع جذوره الي بدايات القرن التاسع عشر كرد فعل علي الصدمة المدوية التي اصابت العالم الإسلامي الغارق حينها في قرون من العزلة والتكلس العلمي والمعرفي, او ما سمي بعصور الانحطاط, ذلك عقب استيقاظه على دوي اصوات مدافع جيش نابوليون وهو يكتشف البون الشاسع الذي يفصله من العالم الغربي الناهض بعيد عصر التنوير وعلي اعتاب الثورة الصناعية والتي مثلت الحملة الفرنسية علي مصر 17981801م اهم لحظاتها بما جلبته من أسلحة متطورة واختراعات مستحدثة ومعارف جديدة كليا.

يمتد عصر الانحطاط في تقدير محمد عابد الجابري كما ذكر ضمن مشروعه الفكري المهم “نقد العقل العربي” منذ ما بعد الامام الغزالي مباشرة 10581111م , حيث عرّف الجابري في كتابه المشار اليه الأنظمة المعرفية التي شكلت بنية العقل العربي، وأشار إلى الازمة التي تسبب فيها تصادم وتداخل ثلاثة من تلك الأنظمة أي البيان والعرفان والبرهان واعتبر أن شخصية أبي حامد الغزالي تجسد هذا التصادم والتناقض, والذي تجلى في أزمته الروحية المذكورة في كتابه “المنقذ من الضلال” والتي أفقدته توازنه مرتين. كما أشار الجابري إلى مرحلتين متمايزتين في العقل العربي: الأولى، تمتد من بدايات عصر التدوين من العصر الجاهلي إلى لحظة الغزالي التي كان فيها العقل العربي فاعلا منتجا. والثانية، ما بعد لحظة الغزالي والذي ابتدأ فيها ما أسماه بالتداخل التلفيقي بين النظم المعرفية الثلاث وأصبح العقل العربي فيها جامدا لا يخرج عن التكرار والاجترار.

ربما اكثر الحقب تعبيرا عن ذلك الجمود هو القرن السادس عشر الميلادي ، ففي حين كان ليوناردو دافينشي يرسم لوحة الموناليزا 1503م ويقدم اختراعاته المذهلة, و اميريكو فيسبوتشي يرسم خارطة جديدة للعالم تحوي أراضي الأمريكيتين 1507م، وكوبيرنيكوس يضع نظريته التي صدمت العالم القديم واثبتت ان كوكبنا ليس مركزا للكون 1539م، و جاليلي يخترع اول ثيرموميتر 1589م قامت جموع من الغاضبين في عامي 1511م و1534م بتحطيم المقاهي في كل من مكة و القاهرة أثر صدور فتاوي متعددة بتحريم شرب وصناعة وبيع القهوة Coffee من كبار “العلماء” كالشيخ الحنفي والسيد البليدي والشيخ الدمياطي والشيخ عمر الطحلاوي وغيرهم ممن تصدروا منابر تلك الحقبة في المدينتين اللتان كانتا وما تزالان تمثلان مركزي الاشعاع الديني والمعرفي العالم العربي والإسلامي.

بُني تيار الصحوة الإسلامية في الأصل حول محاولة الإجابة علي التناقض المركزي بين الوعي الذاتي الاستعلائي للامة “خير امة”* و مدي ضعفها وتخلفها عن ركب الأمم علي ارض الواقع, وكانت الإجابة التبسيطية المتاحة هي ابتعاد المسلمين عن الدين الصحيح والسلوك القويم, وهو ما اطلق حراكا ثقافيا كبيرا يسعي الي استعادة امجاد الماضي التليد والي ربط النهضة المستقبلية الممكنة واستعادة ريادة العالم بالرجوع الي الجذور, الي الأصل, عبر التقوى والالتزام بالشريعة وبالقيم والأخلاق من منظور ديني سلفي وإعادة اسلمة المجتمع والدولة هذا بجانب اعتماد بعض السمات الخارجية التي ارتبطت بالثقافة العربيةالإسلامية كاللباس والمصطلحات، والفصل بين الجنسين, كل ذلك داخل اطار مفاهيمي يعتمد علي تفسير قرآني محدّد ويرسخ من الايمان القاطع بحتمية سيادة الامة الإسلامية علي الأرض “ليستخلفنهم في الأرض”**.

يذكر محمد رشيد رضا في كتابه “الوسطية”: (والحق أقول إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس، حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

بينما يذكر سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن”: (وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض، ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية, إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها).
سبق محمد رشيد رضا وسيد قطب, وهما من اهم مفكري الإسلام السياسي دعاة اخرين لنهضة الامة من ابرزهم الشيخ جمال الدين الافغاني 18381897م وتلميذه الشيخ محمد عبده 18491905م بينما أسس حسن البنا 19061949م تنظيم الاخوان المسلمين ذو التطلعات السياسية المعلنة, لكن علي عمومه فقد تأثر الفكر الاسلاموي السياسي بسياق التغيرات الجيوسياسية العميقة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتزامنت مع ارتخاء القبضة الاستعمارية وتطلع الشعوب المستعمَرة للانعتاق, واتسم بمنظور تحرري حاد وانعزالي رافض ومشكك في الاخر المختلف ولا يتبني مفاهيم التعدد الفكري والسياسي والديموقراطية الليبرالية, عمقته لاحقا مأساة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية “النكبة” 1948م والهزائم المتتالية التي منيت بها الدول العربية, وهو ما عبرت عنه غالب اعمال المفكرين الاسلامويين, للذكر وليس للحصر أمثال الجزائري مالك بن نبي والهندي أبو الاعلي المودوي والنبهاني وغيرهم.

لكن يمكن اجمال العقيدة السياسية الاسلاموية بانها عقيدة تدعي امتلاك الحقيقة الوحيدة والمطلقة, والوصاية الأخلاقية علي الاخرين, بالاخص أصحاب المعتقدات او الافكار المخالفة, ومثلها و العقائد السياسية الدوغمائية الأخرى يؤمن المنتمون اليها بحتمية حدوث طفرة في لحظة تاريخية ما , تتخطي فيها الجماعة المؤمنة حقيقة تناهي قدرات الانسان واستحالة سيطرته علي مجري التاريخ وتحديد نتائجه مسبقا, او ما يمسيه الفيلسوف الكبير ايمانويل كانط بشروط الإمكان Conditions of Possibility , والوسيلة الي تحقيق ذلك هو ظهور شخصيات ملهمة باستطاعتها استشراف المستقبل , تقوم بقيادة طليعة ثورية “جهادية” وتنجح في تطويع عناصر صناعة التاريخ باستخدام القوة القاهرة ممهدة السبيل نحو قطف الثمرة الأخيرة “المقدّرة” والمتمثلة في سيادة هذه الجماعة علي العالم حتي تتمكن من القيام بمهمتها النبيلة في ربط قيم الارض بقيم السماء “الذين ان مكنٓاهم في الأرض”***.وهو ما يجعل من استخدام العنف ضد المعارضين لهذه المسيرة المقدسة ضرورة بما انهم يقفون في طريق ما يعتبرونه المشيئة الإلهية.
ولضمان اكبر قاعدة سياسية واجتماعية داعمة ورغم أصوله السلفية السنية التي لا تخفي علي احد فقد اتخذ الفكر الاسلاموي منهجا فقهيا شموليا Comprehensive الي حد كبير لتخطي معضلة الاختلافات الفقهية القديمة والعميقة بين الفرق الاسلامية الاساسية، كالسنة والشيعة والخوارج والمعتزلة المتصوفة ومذاهبها المختلفة التي تفوق المئات، والتي تصل بعديد منها حد تكفير الآخر وجواز إهدار دم المنتمين اليه. بل وبهدف ربط الماضي العظيم بالحاضر واضفاء درجة من المصداقية علي ادعاء القدرة علي استعادة النهضة والريادة تبني ارث بعض الفلاسفة والعلماء والأدباء القدامي الذين عرفوا بوجهة نظرهم المخالفة للتيار العام او النقدية لبعض المفاهيم الدينية الأساسية “ابو العلاء المعري وبن حيان وبن سينا وبن رشد وبن الراوندي والرازي وبن المقفع”. ما جعل منه علي المستوي الديني خليطا غير متجانس بينما ظل متماسكا سياسيا بما ان الفكرة الجوهرية تتمحور أساسا خول سيطرة مجموعة “مختارة” علي مقاليد الحكم واستخلافها في الأرض.

بناء على الإطار المفاهيمي السابق وباستخدام تفاسير مختارة للنصوص المقدسَة يتبني الإسلامويين فرضية ان الإسلام ليس ديانة تخص الفرد المسلم فقط بل هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي متكامل يصلح لبناء مؤسسات دولة لكنها في هذه الحالة بالطبع دولة “خلافة” دينية اممية عابرة للحدود الجغرافية وللنظام الدولي المعترف به.
وهو في حقيقة الامر إعادة انتاج مستحدثة لعين الفرضية التي استندت عليها أنظمة الخلافة الإسلامية المتعاقبة واخرها العثمانية لترسيخ شرعية حكمها. ففي كتابه المرجعي “الإسلام واصول الحكم …بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام” الصادر عام 1925م استطاع العالم الازهري والقاضي والوزير لاحقا، الدكتور علي عبد الرازق، تقويض هذه الفرضية والدفاع عن الحكم المدني , ناكرا حق الخلافة الإسلامية، ورافضا إضفاء القدسية عليها، باعتبارها مكوناً من مكونات عقيدة الإسلام، مبرهنا على انها اختراع تاريخي ودنيوي خالص، لا شأن له بصحيح الدين، فلم تكن يوماً فرضاً إلهياً، ولا واجباً شرعياً. مقارِناً بين قيادة الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وزعامة الملوك، ناقداً أدلة الفقهاء على الخلافة، وعلى وجود بناء واضح ومعتمد للدولة في الإسلام، وانتهى إلى التمييز بين الشريعة والسياسة، مُحدِداً وظيفة الأولى برعاية مصالح البشر الدينية، والثانية بجلب وحماية الأغراض والمصالح الدنيوية التي “جعل الله الناس أحراراً في تدبيرها” ودفع المضار. ففي تفسيره يخلص الدكتور علي عبد الرازق ان الله قد ترك للبشر إدارة شؤونهم الدنيوية والاجتماعية، وفق ما توصلوا إليه عبر التجربة، وما اكتسبوه من خبرة وحكمة أخلاقية تحفظ مقاصد الشريعة، دون أن تؤول من وسائلها القديمة ما يُعطّل المقاصد ذاتها ويؤكد: “إنّ الحكم والقضاء ومراكز الدولة هي خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرّفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى إحكام العقل، وتجارب الأمم”.

لم تخرج تجربة الاسلامويين السودانيين عن الفرضيات والاطر المفاهيمية المذكورة ولم تُضِف مساهماتها الفكرية الشحيحة الكثير الي ارث الفكر الاسلاموي الموجود اصلا, بل كانت حركتهم السياسية تعبيرا منصفا لهذه الايديولوجيا الشمولية والاقصائية, والتي تتبني ضرورة استخدام أدوات القهر من اجل الوصول الي قمة السلطة وفرض مشروعها علي المجتمع وتحقيق أهدافها السياسية. والتي اعتمدت علي عين النظرة التحررية الانعزالية مستبدلة العدو المستعمِر بالمشروع الشيوعي الناهض في المشهد السياسي السوداني منذ مطلع الستينيات من القرن. وظلت بعض مفاهيمها الاساسية تتناقض بدرجة او بأخرى مع منظومة القيم الإنسانية المعاصرة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. و تستثمر الإمكانات الهائلة الكامنة في العاطفة الدينية للبسطاء في بلد متدين الي حد بعيد تتفشي فيه الامية بصورة كبيرة. الأخطر من ذلك انها استخدمت مفهوم التفويض الإلهي القديم قدم التاريخ الإنساني المدون , لكن ليس لفرض شرعية حكم ملكي كما هي العادة بل لحكم جماعة تدعي ان الله اختصها بالحكم للقيام بمهمة مقدسة علي الأرض يقودها زعيم كانت اول الخطوات التي أخذها عقب تدبيره الانقلاب العسكري في الثلاثين من يونيو 1989م و بعد القمع المفرط حد الاغتصاب والتصفية الجسدية للمعارضين هو تكوين ما سمي بالمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي , كمنصة دولية جديدة قد تسمح له يوما تحقيق حلمه بقيادة العالم العربي والإسلامي وربما ابعد من ذلك!.
………………………………………………………………………..
((المشايخ انما يتحدثون عن الدين بحسبانه منهجا شخصيا لا يعني أحدا غير الفرد في خاصة امره مع الله, لكن الدين اليوم اصبح نظاما سياسيا واقتصاديا وثقافيا يعني العالم كله ولا بد من ان يشترك في معرفته المسلم وغير المسلم.))

مقتطف من لقاء الدكتور حسن الترابي, الأمين العام للمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي عام 1992م في برنامج وجها لوجه التلفزيوني لدي زيارته الولايات المتحدة الامريكية مع المذيعين عباس متولي وحافظ الميرازي.
…………………………………………………………………………
*الآية 110, سورة آل عمران
**الآية 55, سورة النور
***الآية 41, سورة الحج

يتبع…

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *