السودان ومأزق التغيير والنهايات «1 2»
السودان ومأزق التغيير والنهايات «1 2»
زين العابدين صالح عبد الرحمن
يقول المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه “السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل” يقول (إن جماعة الفجر “المقصود كتاب مجلة الفجر 1933″ التي لم تتحول إلى حركة شعبية بالمعنى الأول قد حاولت ضمن منظورها الخاص أن تسد ثغرة مهمة من البناء الفكري للعالم لتلك الفئات الوليدة، وقد ركزت جهدها على بناء المثقف السوداني) جماعة الفجر استطاعت عبر صفحات المجلة أن تخلق حوارا فكريا بين التيارات السياسية المختلفة، وأيضا وسط المثقفين رغم محدودية التعليم في تلك الفترة.
ولكن الجمعيات الأدبية التي انتشرت وسط الطبقة الجديدة ساعدت على تنمية الوعي من جانب وأيضا كانت بداية لإنتاج ثقافة ديمقراطية. ومواصلة للموضوع يقول محمد أبو القاسم حاج حمد ( بإجهاض تلك التجربة ” الفجر” وصلت حركة المثقفين إلى “مأزقها التاريخي الحقيقي” فكفت عن التواصل كحركة مثقفين منفتحة على الفكر العالمي المتقدم، وكفت عن التماسك الذاتي متلاشية في بحار الطائفية، وفقدت جسورها الممدودة إلي الفئات الشعبية الحديثة) أن اجهاض جماعة الفجر حدث قبل تأسيس نادي الخريجين 1937م، وهي مرحلة جديدة لخوض التجربة الديمقراطية وسط الطبقة الجديدة التي تخلقت بعد التعليم الحديث و قادات البلاد للاستقلال.
إذا نظرنا بفحص لتلك التجربة؛ نجد أن المثقفين كانوا قد غادروا مقاعد الجمعيات الأدبية، وانقطع السجال الفكري على محدوديته بينهم، وكان من المفترض أن المرحلة الجديدة تجعل المثقفين أكثر تمسكا بقضايا الجدل الفكري، لأنه سوف يكون دافعا لتكوين مراكز بحوث و دراسات تهتم بدراسة الواقع والتغييرات التي تطرأ عليه. لكن مرحلة مؤتمر الخريجين كانت العتبة المؤدية للعمل السياسي.
النخب السياسية توقف عندها التثقيف عبر القراءة والحوار والجدل السياسي، أدى لظهور جماعات الولاءات المسنودة من البيوتات الطائفية. وهذا التحول في النخب وواقعها، نظر إليه عبد الوهاب زين العابدين الذي كان يشغل الأمين العام لـ”الجبهة المعادية للاستعمار” والذي عارض أن تتحول الجبهة إلي حزب شيوعي، بل أن تنخرط في الحركة الاتحادية، لكي تقوم بدور الإنتاج الفكري بهدف الحفاظ على قوة التيار الديمقراطي في البلاد. لكن رفض ذلك عبد الخالق محجوب وسانده في ذلك الوقت عوض عبد الرازق الذي جلس على مقعد عبد الوهاب زين العابدين. ومرة أخرى طرح عوض عبد الرازق ذات الرؤية التي كان قد طرحها عبد الوهاب زين العابدين، وقال أن الحركة الاتحادية قد بنت قاعدة شعبية كبيرة ويجب أن نكون الأداة الفكرية لهذه الحركة. ولكن المجموعة القادمة من القاهرة قد أطاحت بعوض عبد الرازق.
خروج عوض عن المجموعة بدأ الحوار الفكري يتراجع وسط مجموعة اليسار حيث أصبح هناك شخصا واحدا هو الذي يفكر للحزب. وفي ذات الوقت تراجع دور الفكر في الحركة الاتحادية. وكما قال عبد الماجد أبو حسبو في مذكراته أن الأحزاب جميعها تفتقد للمكتبة السياسية. بدأ التراجع في الحوارات الفكرية بعد الاستقلال حتى انقلاب 17 نوفمبر 1958م. حيث بدأت مرحلة غاتمة.
انقلاب عبود كان أيضا مرحلة تراجعت فيها مساحة الحرية، وتراجع الفكر بصورة واضحة حيث غابت حتى الصحف التي كانت تفتح صفحاتها للجدل السياسي الفكري، حتى جاءت ثورة أكتوبر لكي تؤسس مرحلة جديدة، ولكنها مرحلة مناكفات سياسية بين القوى السياسية وظهرت جماعة الأخوان المسلمين “جبهة الميثاق الإسلامي” التي جعلت الصراع مع الحزب الشيوعي صراعا صفريا، استطاعت فيه أن تقنع القوى السياسية بحل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان، أكبر خطأ ارتكبته القوى السياسية في تاريخها ليس فقط حل الحزب الشيوعي، ولكن لعدم احترامها لحكم المحكمة الدستورية. كانت المرحلة تشير إلي تحول خطير سوف يؤثر على مجمل العمل السياسي في البلاد. حيث توقف الإنتاج الفكري والحوار بين القوى السياسية، لكنه فتح أفاقا أخرى بالجدل الفكري الذي كان قد دار على صفحات الصحف بين عبد الخالق محجوب الذي كان متمسكا برؤية الديمقراطية الليبرالية. وبين رؤيتي عمر مصطفى المكي وأحمد سليمان اللذان كانا مؤيدين لدور البرجوازية الثورية، وهي قناعة أدت في النهاية لانقلاب 25 أكتوبر1969م، وهي ذات الرؤية التي أدت إلى انقلابات في كل من مصر والعراق وسوريا والجزائر وغيرها من القوى الريديكالية التي استطاعت أن تحدث خرقا واضحا داخل الجيوش في عدد من الدول المستقلة حديثا، وهي نتيجة لصراع الحرب الباردة. هذا الانقلاب قد قطع أوداج الحرية في البلاد حيث سمح فقط لتيار واحد أن يتنفس من خلاله الجميع. فكل فترة تصبح تراجعا عن سابقاتها.
في عهد مايو ظهرت جماعة الحزب الجمهوري بقوة، حيث فتحوا منفذا جديدا للجدل الفكري الإسلامي، في ذلك الوقت كان دور النخب المثقفة والسياسية يتراجع في إنتاجها الفكري، وظهر الكفاح المسلح مع الجبهة الوطنية كأداة للتغيير السياسي، هذه الأداة هي قاتلة للفكر والتفكير الناضج، ودائما يجتمع حولها العناصر ذات القدرات المتواضعة و الانتهازيين، ورغم دور القيادات الناضجة لكن كانت القيادات الوسطية أضعف ثقافة وفكرا، وأنها جاءت داعمة للعمل المسلح لكي تجعل من السلاح رافعة لها للوظائف القيادية التي لا تملك مؤهلاتها.
بدأ التراجع في الحقل الثقافي والأدب السياسي وتقلصت مساحة الحريات. وعقد الصادق المهدي مصالحة عام 1977م مع نظام مايو المستفيد الأول من هذه المصالحة كانت الحركة الإسلامية عبر تأسيسها للبيوتات المالية والبنوك، قد جعلتها تتمدد في الشارع السياسي وخاصة وسط الطلاب. وكانت حركتها السياسية الأكثر انتشارا لكنها أهملت الإنتاج الفكري، وهذا التحول جعلها تراهن على البعد الواحد، وعندما قامت بانقلابها 30 يونيو 1989م حلت كل القوى السياسية وصادرت الصحف وأصدرت عشرات الآلاف من خطابات الصالح العام، وهذا يعود لخلل في مرجعيتها الفكرية التي لم تتوافق مع الديمقراطية. وأيضا الجمهوريون بعد اعدام مفكرهم “الأستاذ محمود محمد طه” تراجع دورهم الفكري بشكل ملحوظ وكل الذي كتب بعد موته هو شرح للمتون، دون إضافات جديدة كأن المجتمع جامد لا يتحرك رغم أن حركة الفكر تتغيير وفقا للأحداث والتغييرات التي تطرأ في المجتمع، باعتبار أنها حركة غير ثابته، لذلك جميعا وجدوا ضالتهم حيث تخذوا الإسلاميين مادة رئيس لهم والتعاطي معها، لكن غاب التجديد الفكرى. وهي أزمة عضود. وأيضا الجمود ضرب حركة القوميين العرب من خلال الأحداث التي حدثت في كل من العراق وسوريا، كان قد بدأ نشاط الفكري كل من محمد علي جادين والصاوي ولكن الموت كان اسرع وتوقف بموتهما. الحزب الشيوعي بعد محمد إبراهيم نقد استلمته مجموعة لم تكن يوميا معروفة بنشاطها الفكري أو الثقافي، هؤلاء استطاعوا أن يقزموا دور الحزب الشيوعي ويعطلوا العمل الفكري بسبب عجزهم للتعاطي معه. كان لابد أن تنحرف البلاد للحرب بغياب الفكر. نسأل الله حسن البصيرة.
المصدر: صحيفة التغيير