اخبار السودان

أسفل العالم وحروب محو الأوطان

أسفل العالم وحروب محو الأوطان

وجدي كامل

ترى ما المعيار الذي بموجبه تستحق بلدان أو مجتمعات ما أن توصف بكونها تعيش أعلى أو اسفل العالم؟ (عالم اول عالم ثالث) (عالم ما فوق التنمية ما تحت التنمية)؟.

في غالب التجارب والأحوال سيكون المعيار الحيوى لإقامة الوصف هو جودة الحياة أو المستوى المعيشي في تلك الأشكال من الوجود البشري.

فإذا ما أشارت نتائج عمل المعيار إلى الجودة الفائقة فإن ذلك لا بد وأن يعني جملة من الأسباب المعاونة، والظواهر المرتبطة بالجودة الفائقة وفي مقدمتها جودة الأوضاع الاقتصادية والخدمات الصحية، والمعيشية، وتطور التعليم، والاكتفاء الذاتي في المخرجات الزراعية والصناعية والتقنية في توفر الاستقرار العسكري والأمني وبحيث يلقي ذلك بنتيجته في أدق العلاقات والشبكات والتفاعلات الوجودية.

ولكن، وفي القراءة النقدية فإن التحسن في الأوضاع الاقتصادية على النحو المنظم المنتظم الذي يخفف من الصراعات بأوفر درجة أمر قد تفتقده حتى الكثير من المجتمعات المتقدمة بأوروبا وأميركا وكندا واستراليا ما يطعن في التكوين الثقافي الفردي العام لأفراد تلك البلدان والمجتمعات، وبحيث تعني جودة الحياة جودة خدمات وأداءات الدولة في الخطط والبرامج التنموية وضبط الدساتير والقوانين وبسط العدالة الاجتماعية، وهو ما يعني تحكم العقل الجمعي الإداري ودوره في جعل الجودة صناعة وتقنية والرفاه الاقتصادي غاية ومبتغى. فكثير من مجتمعات الجودة الفائقة وتحقق وتحقيق الرفاه لأفرادها تفتقر إلى جملة من الشروط والمحسنات الأخلاقية في مستوى الأداء الثقافي والأخلاقي، السبب الذي يكشف أحياناً عن أمراض مزمنة كالعنصرية والتفرقة على أساس المنشأ والأصل العرقي مما يقدح في التكوين الثقافي للفرد خاصةً عندما يتأمل المرء محتوى وقائع الخروقات التي تقع على صعد الجريمة كما التعدي على حريات الآخرين.

إذن صورة الجودة الفائقة في نموذج التجربة الحداثية للمجتمعات والأفراد بالبلدان المتقدمة ورغم تفوقها عند المقارنة مع المجتمعات الأخرى لا تعني بأي حال من الأحوال الكمال والأخذ بكلياتها نموذجاً يحتذى به رغم التناسق والتقارب النسبي بين تطور الأفراد والدولة.

في مقابل ذلك العالم الذي نصنفه كعالم فائق الجودة يقوم عالم منخفض الجودة متواضع في التطور الاقتصادي الإنتاجي والخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والأخلاقية مما يحط من قيمة الحياة ويصورها كمنخفض حضاري، ويعمق إساءة الإنسان للوجود بإشاعة كافة أسباب الانحطاط والموت الرمزي في تجاربه.

وتتوفر عدد التفسيرات أو الاتجاهات التحليلية لموضعة العالمين وإجراء المقارنات والمقاربات بتصويرهما كعالمين متضادين يمضيان في خطين لا يلتقيان.

ومن أوضح تلك الاتجاهات أو النظريات كالمنظومة العالمية نظرية الشمال والجنوب المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين صاحب نظرية المركزية الأوروبية والذي بذل جهوداً في إثبات كيف أن الشمال يحوز على ثروات وخيرات الجنوب بما أسسه من مراكز اقتصادية وأشكال استغلال عبر التاريخ للجنوب ممثلة في ظاهرة الاستعمار السياسي والاقتصادي.

غير أن المنتج الكولونيالي لتلك العلاقة وفي كافة الارتباطات بين دول الشمال والجنوب وبرغم عمله الدؤوب في تحسين جودة الحياة ببلدانه قد اقترف من الانتهاكات الأخلاقية ما لا يمكن مقارنته بانتهاكات أخرى عندما نهب واستولى على ثروات تلك البلدان وحولها إلى فائض قيمة وحركة صناعية ومن ثم تكنولوجية صارت تعيد إنتاج العالم الثالث في منظومات تساعد على تفريغ حيويته أكثر كلما يوم وتؤجل بالتالي صعوده ونهضته المؤملة من شعوبه المغلوبة.

أما بلدان ومجتمعات العالم الثالث (العالم الأسفل) الممثلة في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط والمشرق بصفة عامة ممن تكبدت فظائع تلك التجارب من الاستعمار ولأسباب تتصل بارتباطات معظمها بأنظمة حكم معادية لرغبات وأحلام شعوبها في التطور والوصول إلى حياة الجودة فقد بقيت في حيز النمط والتنميط بممسكات الاستبداد والقهر السياسي والاقتصادي والديني والثقافي بتواطؤ أيضاً بين أنظمة الحكم فيها وأنظمة الحكم الاستعماري القديمة والحديثة وما تربطهما من مصالح مشتركة تولدت منذ لحظات المغادرة الفيزيائية للدول الاستعمارية وجيوشها الأراضي المستعمرة، وبحيث تحولت النخب والطبقات الاجتماعية العليا بها إلى وكيلة ومسهلة للخدمات الاستعمارية قبل أن تتحول من النخب المنتهكة لحقوق شعوبها بالفساد إلى ظاهرة إدمان اللصوصية (الكلِبتوقراطية) المفرطة في وحشية النهب مع الابقاء على فقر الجودة في الحياة.

ومن اللافت توفر علاقة وطيدة بين بقاء واستمرار حكم تلك الأنظمة الوكيلة وظاهرة صناعة الحروب وإدامتها، ومنها الحروب الأهلية. فقد وجدت تلك الأنظمة في الحروب وسيلة مثلى للقضاء على تطلعات الشعوب في التغيير والتخلص من إشكال مقاومتها ومواجهاتها الساخنة لها.

السودان إحدى تلك الدول وبحيث واجه عبر ثلثي سنوات ما تلى استقلاله ظاهرة تحكم النخب الاقتصادية للاقتصاد الريعي خاصته الممثلة في نشاط بعض النخب المدنية والجيش كمؤسسة عسكرية وتحكمهما بالتماهي معاً، وبما جرى من اختلاط مصالح بينهما اتخذت فيها الروابط الحزبية جوهر ذلك الزواج المقدس عبر تاريخ ما بعد الاستقلال.

الحرب الدائرة حالياً بين مؤسسة القوات المسلحة السودانية والدعم السريع وبما وجدته من تعريف مكثف ومتعدد تبقى وفي نهاية المطاف حرب صفات الجوهر الكولونيالي للدولة ممثلة في استدامة نزعة احتكار الدولة من قبل الإخوان المسلمين بالسودان خاصةً بعد التضييق الذي مارسته عليهم ثورة الثامن عشر من ديسمبر 2018 دون أن تتمكن من إزاحتهم تماماً من مفاتيح إدارة الدولة. فهذه الحرب وفي الحسابات الكولونيالية والمركزية الأوروبية تمثل غلبة إرادة السطو والرغبة في امتلاك الثروة بإلغاء المجتمعات المحلية المتوارثة ومحاولة محوها من الوجود إمعاناً في التخلص من مهددات المقاومة الحضرية والمدنية التاريخية المناوئة في مراكزها وديموغرافيتها للنزعة الاستعمارية باسم تمكين الإسلام السياسي وما ولدتها من لصوصية مما يسهل مهمة إلحاقها كهامش اقتصادي أصيل وعضو دائم مكتمل العضوية في نادي الشعوب المنتهكة الثروات والعديمة الاستقلالية للقرار.

لكل ذلك فإن المهمة الملقاة على شعوب السودان بمؤسساتها المدنية من أحزاب وقوى مدنية تستوجب الدفاع المستميت عن الحقوق ومقاومة المحو من الوجود عبر استحداث طرق المقاومة وابتكار دروب جديدة للوحدة فيما بينها حتى لو استحق الأمر حملها كقوى مدنية للسلاح في معركة أشبه بمعركة الذئاب التي لا تستثني أحداً من الدفاع عن حقوقه ووجوده مهما كلف ذلك من الوقت والتحضير والاقناع بجدوى الفكرة.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *