تأثيرات المسلمين في ليفربول .. من أحمد المراكشي إلى محمد “مو” صلاح
يشير إسماعيل نخوذة في وقت ما في منتصف الثمانينيات إلى وجود شاهد قبر مع نقش عربي، قبر مهمل يقع في زاوية بعيدة من الجزء الإسلامي من المقبرة في بريستون بإنجلترا. كان محمد، الأب الراحل لإسماعيل، يعمل في ذلك اليوم مع متطوعين آخرين لتطهير المنطقة المثقلة بالعليق. تقول العبارة العربية على شاهد القبر: “آه أيها الراحل الذي سيبقى ذكره إلى الأبد”، بينما يقول النقش الإنجليزي أسفل الشاهد المكتوب باللغة العربية: “هنا نعيد رفات البقايا الفانية لأحمد بن إبراهيم من مراكش بالمغرب، الذي توفي يوم 24 يناير 1906، عن عمر يناهز 60 سنة”.
يقول نخوذة، الصحافي المحلي الذي ولد ببريستون: “عندما رأى والدي الشاهد الحجري بدأ يفكر حقا في سبب وجوده هناك، ويتساءل عن هوية هذا الرجل. كنا دائما منجذبين إلى القبر ونريد أن نعرف من هو دفينه”. لقد دفن بن إبراهيم على هامش الفناء، وهو قسم كان مخصصا للفقراء وغير الخاضعين لمراسيم الدفن المطابقة للطريقة المسيحية، خلافا للأقسام المخصصة للأنجليكان والكاثوليك. سرعان ما لاحظ المتطوعون المسلمون في ذلك اليوم أن قبر أحمد لم يكن موجهًا نحو مكة المكرمة.
ظل شاهد القبر وبن إبراهيم نفسه لغزا، خاصة بين المسلمين المحليين، الذين وصل عددهم اليوم إلى حوالي 15000 من بين 140.000 من سكان المدينة، لكن حياة بن إبراهيم بقيت حبيسة منزل نخوذة، حيث كان محمد الذي جاء إلى إنجلترا من الهند يتأمل مع إسماعيل حياة ورحلة هذا “الرجل العربي الوحيد”، كما يقول نخوذة.
قبل بضع سنوات، قرر نخوذة ككاتب محترف ومؤرخ هاو التحقيق في الأمر، ما وجده يكشف الفصل الآخر من قصة الإسلام في بريطانيا الفيكتورية، قصة ذات صلة غير متوقعة بالحاضر من خلال الرياضة .اتضح أن بن إبراهيم كان بهلوانيا محترفا.
تقف اليوم منطقة ليفربول الحضرية، حيث تقع بريستون، بالقرب من الطرف الأقصى الشمالي، كعمود من أعمدة التنوع، وهي مدينة معترف بها عالميا كواحدة من أكثر المناطق الحضرية ودية وانتقائية في العالم؛ كما أنها مدينة يقيم بها أحد أشهر سكانها الحاليين، وهو رياضي محترف، محمد “مو” صلاح، نجم خط الوسط لكل من نادي ليفربول لكرة القدم في الدوري الإنجليزي الممتاز، والتشكيلة الوطنية لمنتخب بلده الأم، مصر.
عندما بدأ نخوذة بحثه لم يجد السجلات المحلية لبن إبراهيم، لكن عبر الإنترنت، أضاء أرشيف الصحف البريطانية شاشته؛ لقد وجد مراجعات ومقالات وإعلانات ما بين سنتي 1895 و1915، حول مجموعة من البهلوانيين المسافرين من المغرب، فرقة أحمد إبراهيم. نشرت النتائج التي توصل إليها نخوذة على تويتر، واستخدمتها صحيفة “الصورة الأسيوية” التي يوجد مقرها بلانكشاير في قصة عن تاريخ القبور الإسلامية المبكرة في المنطقة.
توصلت جولي كنيفتون، كاتبة في مقبرة بريستون، من نخوذة بمزيد من المعلومات حول دفن بن إبراهيم، وأكدت أنه دفن في الجزء الخارجي من المقبرة، تحت رقم 305 على وجه الدقة. والأهم من ذلك، كما يقول نخودة، أوضحت جولي أن جميع قطع القبور تم حفرها من الشرق إلى الغرب .ربما يفسر هذا سبب وجود أقدام أحمد في اتجاه الغرب، كما يقول، بدلا من اتجاه مكة المكرمة.
وأظهرت السجلات أيضا أن قطع القبور قد اشتراها تشارلز هاتشينسون، وهو حداد من بريستون، وزوجته ماري آن هاتشينسون؛ وفي وقت لاحق تم دفنهما في القطع المخصصة لهما، ليس في القسم الأنجليكاني ولكن بالقرب من بن إبراهيم. كان عنوان منزل أسرة هاتشينسون بالنورث روود (الطريق الشمالية)، رقم 72، هو أيضا عنوان شهادة وفاة بن إبراهيم. تساءل نخوذة: كيف يمكن أن يقوم تاجر مثل هاتشينسون بتقاسم منزل مع بهلواني أجنبي ومسلم؟ هل كان الهوتشينسون من بين حفنة بريستون من المسلمين الإنجليز؟.
قاد بحث نخوذة إلى عبد الله كويليام، زعيم ما كانت تعرف مطلع القرن العشرين بالجالية المسلمة متعددة الجنسيات السريعة النمو في ليفربول. لقد كانت حقبة أصبحت فيها ليفربول واحدة من أكثر المدن كثافة سكانًية وأسرعها تصنيعا في بريطانيا.
يقول نخوذة: “لفهم أحمد بن إبراهيم حقا عليك أن تفهم مجتمع كويليام”.. كما يوضح، يعتقد الكثير من الناس في ليفربول اليوم أن لاعب كرة القدم النجم مو صلاح، بصفته من المشاهير المسلمين، هو فريد من نوعه، “لكن هناك خلفية وتأثيرا إسلاميا معروفا في ليفربول يعود لفترة طويلة جدا، قبل محمد صلاح”. أشار رون جيفز، المتخصص في التاريخ الإسلامي البريطاني ومؤلف الإسلام في بريطانيا الفيكتورية، إلى أنه قبل وبعد أن أصبح زعيم الجالية المسلمة المبكرة في بريطانيا، كان كويليام يكرس “واحدة من أنجح الممارسات القانونية في شمال غرب إنجلترا (حياة وأزمنة عبد الله كوليام منشورات كيوب،2009).
بعد قيامه برحلة إلى مدينة طنجة بالمغرب سنة 1887، أصبح كويليام مسلما وغير اسمه الأصلي، ويليام هنري، إلى عبد الله، الذي يعني “خادم الله”، وفي السنة نفسها أسس مسجد ليفربول والمعهد الإسلامي، اللذين يوجدان اليوم تحت التأهيل من طرف جمعية عبد الله كويليام. كانت ليفربول طوال حياته تتوسع لتصبح القلب النابض للشحن عبر المحيط الأطلسي في بريطانيا، وواحدة من أكثر الموانئ ازدحاما في الكومنويلث البريطاني بأكمله.
جذبت أرصفة الموانئ هذه المهاجرين من جميع أنحاء العالم، وأصبحت ليفربول المدينة الرائدة في الهجرة في إنجلترا.
تتكون الجالية المسلمة في ليفربول من الوافدين الجدد والزوار من جميع أنحاء العالم، بما يشمل دولا في شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا وجنوب آسيا وغيرها وهو ما يكفي، على حد وصف صحيفة لندن صنداي تلغراف، فمع المعتنقين المحليين للإسلام سنة 1896م أصبحت ليفربول “مركز” الإسلام “في الجزر البريطانية برمتها”.
اجتمع المعتنقون الجدد للإسلام كمجتمع قصد الصلاة أيام الجمعة، وأيام احتفالهم بالعطل والمناسبات، وشاركوا في المحاضرات والمناظرات المسائية وانضموا إلى النزهات وما شابه ذلك؛ كما حضروا حفلات الزفاف والجنازات لبعضهم البعض. وعندما لم يتمكن كويليام من الحضور لجنازة البهلواني كتب عنه وعن مراسيم جنازته في صحيفته، الهلال؛ ووصف بن إبراهيم بأنه “مسلم صادق” كان يواضب على مسجد ليفربول قصد الصلاة؛ كما أشار أيضا إلى أنه ترك “زوجة اعتنقت الإسلام” وهي إحالة لم يتمكن نخوذة حتى الآن من إرفاقها باسم أو مصدر آخر. كما وصف كويليام “الحياة النشطة” لبن إبراهيم بعد “السفر في أوروبا لسنوات عديدة مع شركة من البهلوانيين وصناع الفرجة العرب الأذكياء” فرقة أحمد إبراهيم.
رغم أنها ليست رياضة تنافسية بالمعنى المنظم مثل كرة القدم، إلا أن العروض البهلوانية في زمن بن إبراهيم كانت أعمال سيرك متخصصة تنافست مع ذلك على الجماهير لكسب هيبتها. كانت تلك العروض لا تشمل البهلوانيين فقط، ولكن كانت أيضا غالبا ما تشمل الموسيقيين والراقصين والسحرة والمصارعين وغيرهم من صناع العجائب.
جاء عدد كبير من البهلوانيين من المغرب. يقول العياشي الحبوش، الأستاذ في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بالمغرب، إن هناك أسبابا لذلك.. يقترح أن هؤلاء البهلوانيين فعلوا أكثر من مجرد الترفيه عن الجماهير وإسعادها: لقد ساعدوا في تغيير علاقة بريطانيا الأوسع بالعالم.
يقول الحبوش: “لقد اعتدنا على التفكير في أن البريطانيين كانوا معجبين بالآخر الثقافي، وكانوا كذلك”. “لكن تجربة الفرق البهلوانية المغربية تحكي قصة أخرى قصة لقاء وتبادل بين الشرق والغرب”؛ ثم وصف البهلوانيين المغاربة على وجه الخصوص بـ “العرب البدو” أو “العرب المغاربة” في الصحف البريطانية، مثل الأزمنة والعصر وزئبق بريستول، وكانوا مشهورين بالأهرام البشرية واستخدام فرجة البنادق والسيوف والخناجر على خشبة المسرح. وكما يصف الحبوش “كانت العروض جسدية تتقاطع فيها الأساطير مع الأجهزة الميكانيكية التي تتناسب تماما مع معنى الفضول الشرقي وقدرة العصر الفيكتوري على تحويلها إلى صناعة ثقافية تقوم على الفرجة الإثنية”. ففي حين أن هذه الصناعة الثقافية لعبت دورا في تكريس العديد من الصور النمطية العرقية ذات النزعة الاستعمارية، إلا أنها “خلقت أيضا مجموعة جديدة كاملة من اللقاءات العبرثقافية المختلفة التي تحدت الخطاب الثقافي البريطاني القائم على الثنائيات العرقية ذات الطبيعة الهرمية”.
يتابع الأستاذ ذاته بأن أول بهلواني مغربي معروف هو سيدي أحمد أو موسى، وهو زعيم ديني، كان يعيش في جبال الأطلس الصغير في جنوب المغرب في القرنين الخامس والسادس عشر؛ وقد قام أتباعه بأداء مزيج من الرياضة والفن استعدادا للحرب والعمل. ويشير الحبوش إلى أن أهراماتهم البشرية كانت تستخدم في الأصل لاكتشاف السفن الحربية البرتغالية القادمة من آفاق المحيط الأطلسي.
يتابع الحبوش: “منذ البداية تم استخدام هذه الأهرام البشرية لمقاومة الغزو المرتقب من لدن القوى الأجنبية المتربصة بالسواحل المغربية”، تاريخيا، يقول، كانت رياضة البهلواني أو الأكروبات مناهضة للاستعمار”. وفي وقت لاحق “أصبحت هذه الرياضة وسيلة لكسب لقمة العيش في العالم الذي تهيمن عليه القوى الاستعمارية بشكل متزايد. كان البهلوانيون المغاربة المعروفون لدى عامة الناس باسم ‘أولاد سيدي أحمد أو موسى’ يقدمون عروضهم للجمهور في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا، كعروض مشبعة بالرؤية العرقية في أزمنة الاستعمار”.
بصفتها عروضا للآخر الإثني والعرقي، كما يصفها الحبوش، كان يتم استقبالها بإثارة كبيرة. ذكرت صحيفة أخبار لندن التوضيحية أن “إنجازات البهلوانيين المغاربة المستحيلة” كانت “تستقبل ليلاً بصيحات من البهجة المندهشة”. يقول الحبوش إن العديد من البهلوانيين المغاربة وجدوا في النهاية مجتمعات أوروبية وبريطانية للاستقرار فيها كمقيمين ومهاجرين، إذ واصلوا تحدي الصور النمطية وشرعوا في عملية طويلة تستهدف إعادة تعريف المواقف الاستعمارية من خلال الاندماج في المجتمعات المضيفة. وكان هذا هو التأثير المبكر للمسلمين في ليفربول الذي مازال مستمرا حتى اليوم.
يقول نخوذة: “يقف أحمد كمثال على كيفية عيش رجل ضمن أقلية مسلمة في إنجلترا”، ويؤكد أن ليفربول هي “مكان فريد في بريطانيا، مدينة لديها أناس دافئون. إنها مدينة ترحب بالجميع بالفعل، وكرة القدم هي الجليد على الكعكة”، ويضيف أن ابنه مشجع “متشدد” لليفربول ومحمد صلاح. “لكنني لا أريد أن أقول إنه لم تكن هناك صعوبات”.
يقول نخوذة: “بخصوص محمد صلاح وصلاته بالناس الذين يعرفهم في جميع أنحاء العالم يدل ذلك حرفيا على وجود إرثً إسلامي هناك. ترك ‘الملك المصري’ المحبوب والمعشوق من قبل المشجعين في جميع أنحاء العالم، والبالغ من العمر 28 سنة، بصماته على ليفربول منذ انضمامه إلى الفريق سنة 2017. أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد سنة 2019 كيف ساعد صلاح، كلاعب كرة قدم مشهور، في ربط الصلة بين المجتمعات الإسلامية وغير المسلمين، ليس فقط في ليفربول، ولكن أيضا في بريطانيا ككل. وقد أطلقت الدراسة على ذلك اسم ‘تأثير محمد صلاح’”.
قام الباحثون بتحليل ما يقارب 15 مليون تغريدة من مشجعي كرة القدم في المملكة المتحدة 8600 في ليفربول ووجدوا أن تعرض غير المسلمين لصلاح أثار المزيد من الاستجابات الشاملة للمسلمين وحتى الأقليات البريطانية الأخرى؛ كما ساهم في انخفاض جرائم الكراهية وأعمال التعصب الأعمى في ليفربول ومحيطها بنسبة 19 في المائة، وانخفاض في التغريدات المعادية للمسلمين بين مشجعي ليفربول بنسبة 53 في المائة.
وأشارت الدراسة إلى أن التأثير لا يقتصر على صلاح: فحتى المشاهير الآخرين “الذين يتمتعون بصفات مثل القدوة يُعتقد منذ فترة طويلة أنهم يشكلون المواقف الاجتماعية”.
يمتد دور صلاح، الذي لعبه على مسرح أكبر بكثير من مسرح بن إبراهيم، أيضا إلى المجتمع المدني الذي كان جزءًا منه لمدة أربع سنوات؛ لقد أصبح فاعل خير بار، حيث عمل مع شركاء مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومؤسسة فودافون، وهو سفيرها لمدارس الشبكة الفورية، التي تربط الشباب اللاجئين بفرص التعليم الرقمي. يقول أندرو دونيت، مدير مجموعة فودافون لأهداف التنمية والتجارة المستدامتين والمقاولات: “يشاركنا محمد صلاح شغفنا بأهمية التعليم باعتباره لبنة محورية للتنمية الشخصية والمجتمعية”.
ولكن قبل وقت طويل من تأثير محمد صلاح كان هناك بن إبراهيم وفرقة أحمد إبراهيم يضعان الأساس لمثل هذا التأثير. يقول نخوذة: “من الصعب تحديد تأثير أحمد على بريستون أو سكانها”. “بالنسبة لنا نحن المهاجرين من الجيل الثاني والثالث الذين يعيشون في المملكة المتحدة تساعدنا قصة أحمد على التواصل مع ثقافتنا في الماضي والآخرين الذين سبقونا، والآخرين الذين سبقوهم، ولديهم قصص لا نعرفها”.
يرى محمد علي، وهو مواطن من بريستون وأخصائي اجتماعي وناشط في العلاقات بين الأديان، شخصيات مثل بن إبراهيم وصلاح كوكلاء لمجتمع مدني أقوى.. يقول: “يحتاج الناس فقط إلى مزيد من الوقت للتعرف على بعضهم البعض”. “بينما مازلنا ندرك أهمية المهاجر اللاحق للمجتمعات المسلمة من جنوب آسيا، يذكرنا أفراد مثل أحمد بتاريخنا الأعمق في المملكة المتحدة”.
ويزيد علي أنه يرى هذا بين صحافيي بريستون وأصحاب المتاجر والمطاعم وغيرهم ممن يلعبون أدوارا قيادية حيوية في الحفاظ على مجتمع صحي متنوع. “ليس المسلمون المشهورون فحسب، بل المسلمون العاديون مثلي أو والدي أو ابنتي أو حتى أحمد بن إبراهيم هم الذين يساعدون في تجسيد التعدد الثقافي في البلاد”.
يبدو الأمر كما لو أن تأثيرات بن إبراهيم وصلاح هي مجرد غيض من فيض من هرم ليفربول البشري.
المصدر: هسبريس