لتجاوز حصار الحرب .. «جزيرة توتي» السودانية تستبدل إذن العبور بإرث «النفير»
توتي جزيرة هادئة تتوسط العاصمة السودانية الخرطوم يربطها جسر جنوبا بالخرطوم ويتواصل أهلها غربا مع مدينة أم درمان بواسطة قوارب صغيرة تَرسُوا في منطقة (خور ابوعنجة) شرق امدرمان ويتواصل سكانها مع بحري بذات الوسيلة و إن كانت ااةتلقوارب قبل الحرب تعمل على نقل المواطنين من الصباح حتى مغيب الشمس.
الخرطوم: التغيير
وجد سكان الجزيرة الآمنة قبل اشتعال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع انفسهم في محيط مناطق الاشتباك وفي مرمي النيران “التي لا تتوقف وتجري احداثها يوميا منذ اندلاع الحرب بالإذاعة، وسلاح المهندسين، والمقرن، والقصر الجمهوري، والقيادة، وسلاح الاشارة وكبري شمبات تصلهم قذائف الأسلحة الثقيلة والخفيفة و الرصاص يملأ السحات و البيوت ومما زاد الوضع سؤء إغلاق كبري توتي بواسطة قوات الدعم السريع .
واشتهر أهالي توتي بـ(النفير) عادة سودانية أصيلة تعتمد العمل الشعبي الجماعي وهو ما اكسبهم الصمود عند الشدائد وكانت ملاحم فيضانات النيل الذي يلفها خير شاهد، فهم دائما في حالة استحداث وسائل جديدة للمقاومة.
الأن يواجه أهل توتي خطر الموت وضيق العيش ولكنهم ظلوا يبتكرون بفضل تعاضدهم أساليب جديدة للصمود عند كل محنة
التنقل أثناء الحرب
واجه أهالي توتي في الأيام الأولى للحرب صعوبة كبيرة في استغلال منافذ العبور الى الخرطوم وأم درمان وبحري وقتئذ كان كبري توتي مفتوح يستخدمه سائقي الحافلات الصغيرة التي تقلهم للميناء البري جنوب الخرطوم في اوقات معينة تنحسر فيها الاشتباكات ما يطرهم سلك طرق ملتوية عند وصولهم مدخل الكبري ناحية الخرطوم حتى بلوغهم الميناء البري جنوب الخرطوم.
وكثيراً ما واجهوا خطر الرصاص الطائش بسبب الاشتباكات وعاني أيضا تجار الخضروات الذين يذهبون إلى السوق المركزي من الحركة وفي الأسابيع الأولى للحرب استشهد تاجر خضروات نتيجة إصابته برصاص قناص عند مدخل الكبري كما استشهد شاب ورجل في ذات المكان عند محاولة عبورهم الجسر نحو الخرطوم.
ومنذ أن احكم الدعم السريع سيطرته على المقرن شمال الخرطوم، وحتى السوق المركزي جنوب الخرطوم وتراجع الجيش من منطقة قاعة الصداقة إلى منتزه المقرن ثم إلى إم درمان أصبح الامر يزداد تعقيدا و أصبح من الصعوبة عبور الكبري إلى أن وصل الأمر منع الدعم السريع عبور السيارات و الأفراد وضرب حصار على الجزيرة وعزلها عن مدن العاصمة الثلاث.
حوادث موسفة كثيرة لمواطنين حاولوا عبور الجسر بعد أن توقف منفذ أم درمان نسبة للاشتباك المتواصل فضلاً عن الدعم السريع سائق القارب واتهامه بأنه يساعد الجيش؛ اما منفذ بحري بالرغم من عمله المحدود قبل الحرب إلا انه أصبح مهما خاصة وان مواطني الجزيرة يقومون بدفن موتاهم في بحري لكن لم يستمر الامر طويلا بسبب الاشتباكات ما اضطرهم إلى دفن موتاهم داخل الجزيرة لأول مرة في مقابر صغيرة مخصصة للأطفال.
تواصل مع الدعم السريع
في الاسابيع الأولى للحرب استغل بعض أصحاب النفوس الضعيفة من خارج الجزيرة فرصة الكثافة السكانية بالمنطقة وقاموا بإدخال المسروقات من أسواق الخرطوم القريبة خاصة منطقة العربي وشارع الحرية لمحاولة بيعها، و في جانب آخر ساهم موقع الجزيرة المحاط بالنهر في الحافظ على ممتلكات أهلها وحد من سرقة السيارات ونهب المنازل.
ومع أول محاولة لـ نهب سيارة عقد سكان توتي باجتماع لحسم الأمر وتم تفويض وفد من اصحاب الرأي ممثلين لسكن الجزيرة بغية الذهاب لارتكاز الدعم السريع وطلب مقابلة القائد المسؤول وعندما سمع افراد الدعم السريع رغبة أهالي توتي بمقابلة القائد لم ينتظروا حتى يأتوا إليهم بل توغلوا الى داخل الجزيرة واستقبلوا تجمهر المواطنين في داخل الجزيرة.
وطلب الوفد من الأهالي البقاء في الجامع الكبير وإبلاغهم بما تم من اتفاق وذهب الوفد مع افراد الدعم السريع وتمت مقابله القائد الذي نفى علمه بحدوث سرقة و استبعد أن يكون الأمر تم من أفراده، وتم الاتفاق ان يظل منفذ بحري مستمرا ولكن قائد الدعم السريع رفض افساح المجال للسيارات.
وقال قائد الدعم السريع لسكان توتي : “إذا سمحت لكم هناك عدة ارتكازات سوف تمنعكم بحجة أن المنطقة أصبحت عسكرية” واتفق معهم بعدم دخول أي فرد من الارتكاز إلى داخل الجزيرة بعد صلاة العشاء وتفتيش أي سيارة خارجة من الكبري و التأكد من انها غير منهوبة، ولآحقاً تم استلام ادوية للمركز الصحي و إرجاع السيارة لصاحبها ليلا حيث وجدت بعد يوم متوقفة داخل توتي.
صافرات الفزع والنهب
كوّن شباب توتي دوريات لحماية مساكنهم وممتلكاتهم و إبتكار وسيلة سريعة بإطلاق “صافرات الفزع” عند حدوث أي تفلتات داخل الجزيرة، و رغم هذت المجهودات تمت سرقة منازل وسيارات أسر اغلبهم من ضباط معاشين من القوات المسلحة والشرطة ولم يسلم من السرقة حتى منزل وسيارات ونياشين القائد العام للقوات المسلحة إبان حكم الديمقراطية الثانية في السودان الراحل الفريق أول فوزي احمد الفاضل .
أزمة الكهرباء والمياه
لم تكن ارهاصات السلب والنهب وحدها ما أرهق مضاجع الأهالي بل أزم انقطاع الكهرباء والماء لمدة (12) يوماً في الأسابيع الأولى للحرب، من ضراوة الواقع المعاش، إلا أن “إرث النفير” الضارب في جذور الحراك الاجتماعي، كان بالمرصاد، فقهر سواعد شبابها تلك المعضلة، رغم تكلفتها الباهظة، فعمل الأهالي بتشغيل مولدات ضخ المياه في المحطة بالجازولين بتبرعات السكان والمغتربين بتكلفة تشغيلية للمحطة بلغت برميل ونصف في اليوم.
رغم بؤس الواقع، إلا أن العافية بدأت تسري في أوصال الجزيرة المكلومة بعودة التيار الكهربائي ومياه الشرب، لكن سرعان ما عاودت الأزمة تطرق أبوابها مجدداً، فالجهود التي بذلت في الأسبوع الأول من أغسطس، لم تشفع لأهل الجزيرة و أن تروي عطشها وتفارق ظلامها الدامس، بل ذهبت كل هذه المجهودات أدراج الرياح، ولكن لم يجد اليأس طريقه لعزيمة الشباب الذين يستميتون لإرجاع هذه الخدمات الضروية.
في المرة الثانية لانقطاع الكهرباء تعطل، مولد محطة المياه فتبرع أحد الخيرين من أهالي توتي بمولد كهرباء ما وفر صرف الجازولين، إلا أن طاقة المولد الكهربائية عملت على تشغيل نصف طاقة المحطة.
ودفع انقطاع المياه المواطنين للبحث عنها في الأبار ألا اغلبها طعمه (مالح) واتجه البعض الى النهر وتركيب مضخة صغيرة لتملأ صهريج ومن ثم يملأ الناس أوانيهم منها.
توتي في مرمي النيران
ولان موقعها في مرمي النيران لم تسلم توتي من وقوع الدانات والرصاص الطائش و تسببت في هدم منازل شرقي الجزيرة وجرح امرأة ووفاة طفل وشاب وتأثرت المنازل الواقعة في الجزء الغربي والشمال الغربي المقابل للإذاعة والجزء الجنوبي المقابل للخرطوم بالدانات والرصاص الطائش وأصيب مؤخرا شاب في رجليه الإثنين بمحاذاة الجهة المقابلة لمدينة بحري حينما كان يعمل مع شباب لإصلاح موتور صغير لملء خزان مياه فوق الضفة.
الحالات الصحية بالجزيرة
قام شباب توتي من المهتمين والمتخصصين في المجال الصحي بتكوين غرفة طوارئ بالمركز الصحي وفتح ابوابه لتقديم خدمات الإسعافات الأولية والعلاج والاسابيع العلاجية ضمت تخصصات الجلدية والباطنية ونساء وتوليد، وشهد المركز الصحي حالة ولادة قيصرية بواسطة طبيبات نساء وتوليد وفني تخدير من أبناء الجزيرة.
و عانى المركز الصحى بالجزيرة وغرفة الطوارئ من نقص الانسولين والاسبرين ودربات الملح وحقن التاتنوس والمستهلكات الطبية وعلاج الضغط، وسجلت خلال ثلاث أيام (٤٤) حالة شملت أطفال ونساء ورجال في حوجة ماسة الى محاليل وريدية.
و بسبب الخريف إزدادت الأمراض خاصة الإسهالات هذا مع نقص حاد في الأدوية بالصيدليات ولصعوبة العمل وخدمات المشافي قرر بعض الأفراد والأُسر السفر للولايات الأخرى مستقلين منفذ مدينة بحري عبر القوارب.
بنك الطعام والتكايا
في الأسابيع الأولى للحرب أغلقت المحال التجارية أبوابها لانعدام بضاعتها وقام بعض التجار بتوفير ما يمكن توفيره وبيعه بالمنازل.
و وللتكيف مع أوضاع الحرب فكر بعض الشباب في سد حوجه الأسر المتعففة بأنشاء بنك الطعام و تعمل فكرته على جمع التبرعات المادية والعينة من الأهالي والمغتربين وشراء مواد تموينية وتوزيعها على الاسر الفقيرة و استفادت منه أكثر من (1000) اسرة خلال الثلاث شهور الأولى بمتوسط (400) أسرة لكل شهر بتوفير مواد لكل أسرة مثستهدفة تكفي لـ 10 يوم تقريبا.
وعند تعقد الأوضاع و النقص الكبير في الطعام مع تمدد الحصار المفروض على الجزيرة أصبحت لقمة العيش صعبة للغاية بالنسبة لكثير من الناس و فكر الأهالي في إقامة مشروع ” التكايا” وهو مشروع إعداد في الطعام المساجد وتوزيعه على الأسر المتعففة و ابتداء المشروع بالمسجد الكبير وتم انشاء (10) تكايا بالجزيرة تقدم وجبات الفطور والغداء للأسر استفادت منها حوالي (2000) اسرة و ساهم المغتربين من أبناء الجزيرة في دعم المشروع الذي مازال يقدم خدماته.
تصريح المرور
مع تمدد الحرب وتحوّل الجزيرة إلى منطقة عسكرية أصبح الخروج من توتي لأي غرض سواء للتجارة او السفر أو العلاج يشكل هاجس يومي للمواطنين بسبب الارتكازات المنتشرة لقوات الدعم السريع في محيط الجزيرة خاصة من ناحية الخرطوم فيتعرض المواطنين في الإرتكازات للتحقيق و قام المنسق الأهلي مع ارتكاز توتي بطباعة (تصريح عبور) يوقعه منسوبي الدعم السريع بارتكاز توتي، وذلك بغرض مساعدة أهالي توتي في تبيان أمرهم خارج الجزيرة أثناء مرورهم بارتكازات الخارج بطريق سفرهم، ومساعدة التجار في القدرة على تأمين نقل البضائع وإيصالها لداخل توتي.
المصدر: صحيفة التغيير