في محاورة الأخت العزيزة رشا عوض، مرة أخرى وأخرى وغير أخيرة!
في محاورة الأخت العزيزة رشا عوض، مرة أخرى وأخرى وغير أخيرة!
محمد جلال أحمد هاشم
في مقالتي تحت عنوان: حول ما يسمى بالبرنامج السياسي لمليشيا الجنجويد، فيما يلي نصها:
“دونما أي مزيد كلام، نقطتان حسمتا مقبولية هذا البرنامج السياسي المقدم من مليشيا الجنجويد المجرمة، إحداهما مذكورة والأخرى غير مذكورة:
النقطة الأولى المذكورة هي “… تأسيس وبناء جيش سوداني جديد من الجيوس المتعددة الحالية…”، ما يعني أن البيان (أ) ينظر للجيش السوداني كمكون عسكري ضمن مكونات عسكرية أخرى، ثم (ب) البيان يعتمد مليشيا الجنجويد التي تملكها أسرة مشكوك في سودانيتها كجيش موازٍ للجيش السوداني، ثم (ج) يريد البيان أن تكون هذه المليشيا ضمن المكونات للجيش السوداني الجديد.
وهذا جميعه مرفوض شكلاً ومضموناً، ليس من الجيش فحسب، بل من جميع قطاعات الشعب السوداني التي عانت وتم التنكيل بها من قبل هذه المليشيا المجرمة والمجردة من كل القيم الإنسانية بمستوى ما تعكسه جرائمها على الأرض التي بلغت قمتها في الغدر ثم التمثيل بجثة خميس أبكر (حاكم ولاية غرب دارفور) لدرجة رجمها بالحجارة ودوسها بسيارة تاتشر وسط تهليل رجال وزغاريد نساء هذه المليشيا المجرمة.
النقطة الثانية غير المذكورة هي مجمل الجرائم التي ارتكبتها هذه المليشيا المجرمة، وهي جرائم ترقى للتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية والاغتصاب الجماعي الممنهج، وهي بهذا جرائم لا يمكن، كما لا يجوز لأي ترتيبات قادمة لإنهاء الحرب، أو ترتيبات ما بعد الحرب، أن تتجاوزها دون النص على محاكمة مرتكبيها من حيث مسؤوليتهم الجنائية، بدءاً من أعلى القيادات نزولاً إلى أدنى درجات التنفيذ. فبدون التطرق لكيفية المعالجة القضائية العدلية المباشرة للأشخاص، دونما أي التفاف حولها بما يسمى بالعدالة الانتقالية أو خلافها دون هذا كله، فلا مجال لقبول أي أطروحة تتعلق بوقف الحرب أو معالجة تداعياتها.
وعليه، لا مجال البتة لقبول هذا الكلام العمومي الصادر من مليشيا الجنجويد المجرمة الذي ليس فيه جديد بخلاف محاولته بيع نفس الخمر المغشوشة وفي نفس القناني القديمة، بعد إجراء المزيد من الغش والتدليس”.
كتبت الأخت العزيزة رشا عوض ما يلي تعقيباً (بدون تصرف)
“”تحياتي محمد جلال، لو المعيار الذي على أساسه نحدد من يبقى ومن يذهب هو حقوق الإنسان، بهذا المعيار الجيش يذهب إلى الجحيم شأنه شأن المليشيا التي خرجت من رحمه، وها هو الجيش كعادته منذ أن خلقه المستعمر دائماً متخلف حتى عن المليشيات، مثلاً الحركة الشعبية أيام جون قرنق رحمه الله وبعد انتهاء الحرب سلمت أسرى الجيش السوداني لديها للصليب الأحمر وهي حركة متمردة في الغابة، فشل الجيش السوداني الذي عمره 100 سنة في الحفاظ على حياة أسير واحد!
الآن مليشيا الدعم السريع (كان بالصح كان بالكضب) جابت سيرة العدالة الانتقالية وهذا اعتراف ضمني بأن هناك جرائم وانتهاكات، مثل هذا الاعتراف لم نسمعه من الجيش الذي لا توجد جريمة واحدة من جرائم الجنجويد لم يرتكب مثلها بنفسه، هذا طبعاً غير أنه أنشأ وسلح ودرب الجنجويد، يعني خطايا الجنجويد تصب في ميزان سيئات الجيش لا ميزان حسناته!! ورغم كل هذه الحقائق المرة لم يطالب السودانيون الجيش بأن يختفي من الوجود، إذن ما هو المنطق في مطالبة الدعم السريع بذلك؟ طبعاً قصة دا جيش نظامي وعمرو مليون سنة دي ما عندها وزن أخلاقي، فعصابات المافيا في أوروبا أقدم من الجيش السوداني وأكثر تنظيماً منه فهل هذا يعطيها مبرر بقاء وينفي مشروعية رفضها، خلاصة كلامي كما قبلنا الجيش كامر واقع، نقبل البلاوي التي أنتجها الجيش كأمر واقع، وبصورة سلمية ومتدرجة وعقلانية يتم إصلاح ما يمكن إصلاحه وهيكلة ما يمكن هيكلته وصولاً إلى جيش مهني واحد في زمن ما في المستقبل””
*
أدناه ردي لها:
الأخت الصديقة رشا عوض، لك تحياتي!
الفرق بينهما أن أحدهما لا مكان له من الإعراب إلا داخل الدولة الوطنية التي يتعامل معها من حيث الهيمنة عليها منذ الاستقلال كامتياز له، وبالتالي لا يريد ذهابها إلى المحاق.
هذا هو الجيش الذي على استعداد لتكوين مليون مليشيا جنجويدية لضرب كل من تسول له نفسه في تحجيمه وحصره على دوره المحدد دستورياً. وهنا نفترض أنه لهذا يدافع عن بقاء مؤسسة الدولة الوطنية السودانية.
*
أما الثاني فيعمل على محق هذه الدولة وتسييلها، وهو ما أسميناه المشروع الإمبريالي لتسييل الدولة الوطنية the imperialistic project to liquidate the nation stathood في حزام السودان. هنا تخدم مليشيات الجنجويد كأداة فقط، ولو كانت مدفوعة بهوس أيديولوجي لتأسيس دولة وهمية لا يمكن أن تقوم إلا عبر تسييل خمس دول وطنية على أقل تقدير، هي مالي والنيجر وتشاد والسودان وأفريقيا الوسطى وبعض اقتطاعات من شمال نيجيريا والكاميرون. هذه هي ملامح دولة الجنيد الكبرى، وهي بالطبع دولة وهمية لن تقوم لها قائمة، ببساطة بموجب منطقها الداخلي. فأولاً، قوى الإمبريالية التي تعمل على تسييل الدولة الوطنية لن تسمح بقيام دولة وطنية اكبر حجماً في أعقاب ذلك. ثانياً، وبالمنطق، لا يمكن لأي مشروع دولة وطنية أن يتحقق عبر آليات تدمير الدول الوطنية، ففاقد الشيء لا يعطيه. وبالتالي، القوى المحلية العاملة على إنجاز هذا المشروع التدميري ليست سوى أدوات في يد قوى الإمبريالية.
هذه هي مليشيات الجنجويد المجرمة المكونة من شذاذ الآفاق العابرين للحدود من دول الجوار الغربي.
*
وبعد صديقتي العزيزة رشا عوض، الموضوع أشبه بالقصة التالية:
نحن مجموعة من التجار والتاجرات نملك سفينةً اسمها “السودان”، بها نجوب في البحار ونتاجر بما هو متاح. ولدينا طاقم من الملاحين على رأسهم ربان ويخدمون في نفس الوقت كحرس لنا. ثم إننا أصبحنا يوماً فإذا بالربان وبحارته يعلنون سيطرتهم على السفينة بما حملت من بضاعة، ثم إذا بهم يفرضون علينا طاعتهم وخدمتهم. ظللنا نعاني من ذلك والسفينة ترسو في ميناء لتقلع إلى ميناء آخر والربان وبحارته يبيعون ويشترون فيما هو ملكنا ويستمتعون بمالنا. وقد درجوا على إخفائنا عن الأعين كلما رست السفينة في أحد الموانئ. وعندما اشتدت مقاومتنا، قام الربان بعقد تحالف مع قراصنة (عابرين للحدود من دول الجوار الغربي)، ذلك لمساعدته في كبح جماح ثوراتنا. ثم حدث ما كان يتوقعه الجميع، ألا وهو أن تدور الحرب بين الربان وبحارته من جانب، وبين القراصنة (العابرين للحدود من دول الجوار الغربي). هنا اكتشفنا نحن أصحاب السفينة والمال (أي أهل الجلد والراس) أن القراصنة، للوثة تخريب وتدمير مركبة في جِبِلّتِهم، قد شرعوا في تدمير السفينة السودان وهي في عرض البحر وطوله حيث الساحل ولا قرار. هنا شرع الربان ومعه البحارة في محاولة إنقاذ السفينة بما تحمل من الغرق تجنباً للخسارة المجانية ونجاةً بأنفسهم من الغرق والهلاك. فكانوا يقيدون من القراصنة من يقبضون عليه بأقل مقاومة، ويعملون على طرد القراصنة العنيفين من السفينة بإلقائهم في البحر، ثم قتل القراصنة الأكثر عنفاً ممن كانوا يعمدون إلى قتل الجميع. فقد كان القراصنة ينكلون بنا وينهبون متاعنا وبضاعتنا المنهوبة أصلاً، ويقتلون كل من يحاول أن يمنعهم دون إغراق السفينة السودان. فالقراصنة هؤلاء كانوا بدرجة من الفوضوية الرعناء أن صدقوا أنه بمقدورهم انتشال السفينة من الماء بعد غرقها وبعد التخلص مننا جميعاً بما في ذلك الربان والبحارة.
هنا دارت مشادات كلامية حامية الوطيس بيننا نحن التجار والتاجرات مالكي السفينة والبضاعة. وانقسمت مواقفُنا إلى ثلاث مجموعات:
(1) المجموعة الأولى قالت بأنهم يجب أن يعملوا على إنقاذ سفينتهم وما تبقي من بضاعة، ذلك بالتعاون مع الربان والبحارة في سبيل القضاء على القراصنة (العابرين للحدود من دول الجوار الغربي)، وذلك يقيناً منهم أنهم سوف ينتصرون في يومٍ ما على الربان وجلاوزته من الربان، ذلك طالما أن السفينة السودان بخير ولم تغرق، فيغرقوا جميعاً معها؛
(2) المجموعة الثانية وقفت مع القراصنة عدييييييل كدا، ليس بموجب متلازمة استوكهولم، بل نكايةً في الربان وبحارته الذين ساموهم سوء العذاب واضطهدوهم، بل هم الذين كانوا السبب في قدوم القراصنة في الأساس. ولهذا ظلت هذه المجموعة تكرر وبتشفي أن على الربان وبحارته أن يذوقوا ما أذاقوه لهم. ومهما بذلت لهم المجموعة الأولى من رأي ونصح، فلم يفدهم ذلك شيئاً. وكم وكم قالوا لهم بأنهم سوف يغرقون متى ما غرقت السفينة السودان، وأن النجاةَ كل النجاةِ في نجاة السفينة من الغرق والباقي ملحوق. ولكنهم أصمّوا آذانهم وأعلنوا دعمهم المعنوي والمادي للقراصنة في تخريب السفينة السودان بما عليها من تجار وتاجرات وربان وبحارة وقراصنة وإغراقها في عرض وطول البحر؛
(3) المجموعة الثالثة انتحت لها ركنا قصيّاً من السفينة السودان وأعلنت أنها على الحياد، واصفةً هذه المعركة بأنها عبثية. وقد كانت حجتهم في ذلك أن كل طرف من الطرفين المتحاربين أسوأ من الآخر، وأنهم لا يمكن أن يساعدوا طرفاً منهما للقضاء على الطرف الآخر. وقد باءت جميع محاولات المجموعة الأولى في إقناعهم بأن هذه المعركة في ظاهرها تدور بين طرفين هما الربان وبحارته من جهة والقراصنة من جهة أخرى. لكن هذه الحرب في جوهرها تدور بين بقاء السفينة من عدم بقائها؛ وأن المعركة في جوهرها بين التجار والتاجرات ملاك السفينة وملاك البضاعة فيها، وبالتالي يجب على جميع التجار والتاجرات أن يعملوا على بقاء السفينة دون غرقها، ولو كان ذلك بأن يضعوا أيديهم فوق أيدي الربان وبحارته طالما أن ذلك يعني عملياً بقاء السفينة دون غرقها. فهذا يعني أن حلم استعادتنا لسفينتنا لا يزال باقياً طالما ظلت السفينة باقية، وأن هذا الحلم لن يصبح له أي مكان من الإعراب إذا غرقت السفينة السودان بما فيها وبمن فيها. ولكن كل هذا ذهب أدراج الرياح….. ولا زالت المعركة دائرة بين أصحاب المجموعة الأولى من التجار والتاجرات، ملاك السفينة والبضاعة، ومعهم الربان والبحارة، ضد القراصنة المخربين ومعهم المجموعة الثانية من التجار والتاجرات من ملاك السفينة وملاك البضاعة، هذا بينما المجموعة الثالثة من التجار والتاجرات من ملاك السفينة وملاك البضاعة يراقبون المعركة باهتمام شديد بالرغم من موقفهم الحيادي المعلن.
*
وبعد، أختي العزيزة رشا عوض، هذا هو الموقف من هذه الحرب كما أفهمه الآن وكما فهمته حتى قبل أن تندلع هذه الحرب منذ سنوات. هنا لدي سؤالان:
* السؤال الأول هو، بما أن هذا هو فهمي لهذه الحرب الدائرة، هل موقفي متسق أخلاقياً أم لا؟
* السؤال الثاني هو: بما أن هذا هو تصوري لطبيعة هذه الحرب، فهل تتفقين معه، وإن لم، فما هو تصورك المغاير؟
ويدوم الود والتقدير الذي تعرفينه؛؛؛
MJH
جوبا 28 أغسطس 2023م
المصدر: صحيفة التغيير