الدين والتدين .. رؤية النخب الغربية وتقاطعاتها
(لو كانت هناك حياة أخرى لوددت أن أكون طيرا، أجتاز الخلود محلقا غير قلق من أن أضل الطريق، أملك آمالا متوهجة في الشرق وعشا دافئًا في الجنوب، ألاحق مغيب الشمس غربا وأثير أريجا صوب الشمال) ـ سان ماو.
(يأتي الضوء أكثر إشراقًا من الشرق، ويكون لون الغربان المضطربة أكثر حدة على الأذن) ـ ثيودور روثكي.
في مارس من عام 2014 اطلعت على دراسة مهمة للأكاديمي الإسباني هيثم أميرا فرنانديز، نشرها في الموقع الرسمي لمعهد “Elcano Royal” في موضوع: (الدين والتدين في عالم عربي متغير: تداعيات اجتماعية وسياسية). استحضر الكاتب فرنانديز، التآكل المتدرج للحركات الإسلامية عقب الربيع العربي، الذي أسقط بعض الديكتاتوريات، وأعاد بوصلة التقطيع السياسي المتحكم في السلطة إلى مدارك جديدة، مازالت تداعياتها ترخي بظلال الشكوك والتوجس إلى الآن.
وأورد الأكاديمي الإسباني، في السياق ذاته، مواطن وخلفيات تلك الشكوك، مستنتجا أنه بعد إجراء الانتخابات ووصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في سياق الاستقطاب الاجتماعي المتزايد والصعوبات الاقتصادية، تحول الاهتمام الدولي إلى خوف من احتمال ظهور أنظمة دينية استبدادية، أو من تطرف قطاعات الإسلاميين بعد ذلك، يتم إزالته من السلطة، مركزا على النفوذ المتصاعد والنشاط الإسلامي، مع ظهور أشكال غير تقليدية والتآكل التدريجي للتسلسلات الهرمية المركزية، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على العمليات السياسية.
يثير هذا التوجه حسب نظري، قلقا متزايدا للنخب الغربية، من هذا الصعود المباغت، وانتقالها من مجرد أدوات رصد وقطيعة، إلى عامل أساس في بنية التأثير والبروباغندا التي رافقت أجهزتها الاستخباراتية ومراكزها في كل مراحل صنع القرارات المرافقة لحالات الثورات واختلافها من بلد لآخر.
وهذا ما أكده المفكر السوري برهان غليون، الذي اكتوى بنيران تفتيت النخب السورية قبل قيامتها، في كتابه (عطب الذات)، مفككا ظروف وملابسات تقديم الشعوب كضحايا في محارق الحرب الداخلية، وانتشارها داخل بنية المجتمع في علاقة بمنظومة التدين وفوارقها العميقة ..
ومع أن الباحثين في الضفة الأخرى، يؤمنون بأن البناء الاجتماعي والسياسي للحركات الدينية في العالم العربي، تقوم أساسا على مذهبية الحركات التكتونية، مقتنعين تماما بأنه لا يمكن حتى الآن إلقاء نظرة على عواقبها في حجمها الكامل، على اعتبار أن الدين والتدين يلعبان أدوارا مركزية في صيرورة الحياة ومآلاتها. لهذا السبب، فإنهم يدعون إلى ضرورة التكيف مع المبادئ التوجيهية الإيديولوجية والسلوكية التي وضعها الإسلاميون أنفسهم من أجل توجيهها وفقا لاحتياجاتهم في العالم المحيط بهم، وبإتاحة تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة حدوث هذه التحولات بسرعة كبيرة وبدرجة متزايدة من التعقيد .
هناك توجه عقلاني آخر، يمثله المفكر الفرنسي إدغار موران، يلامس جوهر إدراك مفهوم التغيير في نسق الغضب العربي، أو ما يصطلح عليه بـ”ثورات الربيع العربي”، وعلاقة ذلك بمسألة الدين والتدين، عندما سئل: هل الثورات العربية، بالنسبة لكم، هي أحد المؤشرات على أن اللامتوقع يمكن أن يصبح متوقعا؟
أجاب، أن “الربيع العربي يمثل يقظة ابتدائية ستخصب المستقبل”، وأنه “حركة سلمية شديدة الأهمية”. مشيرا إلى “أن أغلب أحزاب اليسار عانت من اضطهاد الأنظمة الديكتاتورية، مما أفقدها، غالبا، التواصل مع الشعب. والإسلاميون حافظوا على هذا التواصل؛ وهذا ما جعل الناس يصوتون لصالحهم. هذا لا ينتقص من أهمية الحدث”.
لكن حكمته التي سارت بتواردها الركبان، إضافته الجديرة بالتأمل والقائلة، إن “التفكير في الظاهرة كدودة القز التي تغلق على نفسها في شرنقة لتتحول إلى فراشة. إنها تدمر نفسها كلية لتصير كائنا آخر”. مضيفا أنه “في تاريخ البشرية يبدو العالم طافحا بالتحولات. لا يحصل التحول الجديد إلا على مستوى الكوكب كله. ستتغير مجموع العلاقات والتنظيمات؛ ومن غير الممكن اليوم توقع الشكل الذي سيظهر به مجتمع العالم هذا. لقد تخليت عن فكرة الثورة لسببين”.
والأجمل أنه يرى أن “الأول يتمثل في هدف القطع النهائي مع فكرة “إلغاء الماضي كلية”. مشددا على أننا بحاجة إلى كل ثقافات الماضي، وكل مكاسب فكر الماضي. إذ أن فكرة التحول تتضمن في الوقت نفسه، القطيعة والاستمرار”. أما الثاني “فيهدف إلى تجاوز فكرة كون الثورة أكثر أصالة منها عنيفة. أحيانا لا يمكن تفادي العنف، لكن من الخطأ التفكير بكونه مشروعا وضروريا؛ لأنه يستدعي عنفا آخر”.
هذا المفهوم البديل لقراءة النصوص من الداخل، يشكل حافزا للمؤرخ والأنثروبولوجي والروائي والسوسيولوجي، من أجل التمرن على فرادة تدوير المعلومات والوثوق بصحتها، والتعامل معها.. وهذا هو الأهم بنظري.
فالغرب ونخبه، ما انفكت تطيح بكل مشروع تغييري أو إصلاحي قادم من الشرق أو بلاد العرب خاصة، ما دامت رؤيته له، حبيسة الحماية والاحتقار التصنيفي وإثارة النعرات.
ما بين الرؤيتين سالفتي الذكر، أطروحة هيثم أميرا فرنانديز، ونظرية إدغار موران، يمكن وضع مجموعة من علامات الاستدراك والتساؤل:
أولها، هل تفرض هنا مركزية النظرة الغربية للعرب والمسلمين، مشاكل وإشكاليات التآويل والقراءات المبطنة التي تحبل بها الرؤى النقدانية الغربية عبر قطائع زمنية طويلة وممتدة؟
ثانيها، لماذا تلتبس علينا فكرة الحياد الثقافي في قراءاتنا للمتون الغربية، كلما ارتجعنا فواجعنا وندوبنا الثاوية؟
ثالثها، ما مدى تأثير هذه الرؤى في علاقاتنا بالغرب ونخبه؟ وحدود هذه العلاقات وامتداداتها في النسيج السياسي والتثاقفي والاقتصادي والمالي.. إلخ.
رابعها، كيف نعيد تجسيد العبور إلى الذات، عبر هذه التداوليات والقطائع، باستقلالية وحيادية وانتقال للأفضل؟ ..
هذه بعض من تخمينات ومرائي حدسية، يمكن أن تساعد القارئ المتأمل على إعادة كتابة الحقيقة، كما يستشعرها، انطلاقا من وقوفه البين على أهم مشاهد انحسار الفهم وانغلاق مفازاته، بين النفور من الاقتراب من (الغرب) كحضارة وثقافة وإنسان، بالكلية، لا بالتقطيع والسديمية وسوء الانطباع.
المصدر: هسبريس