اخبار السودان

مشروعية المرافعة عن مؤسسات الدولة، ومشروعية مساءلتها معا: هذه الحرب نموذجا

قصي همرور

للأمانة، فقد قدّم عدد من كتّابنا ومثقفينا، وروّاد الرأي والفكر السياسي الوطني بيننا، مرافعات جيدة في الفترة الماضية في نقد من يمارسون مساواة غير معقولة بين الخطايا الكبيرة التي سببتها مؤسسة القوات المسلحة للدولة السودانية، وبين “الخطيّة” الأكبر التي هي وجود ميليشيا فاسدة ومفسدة بصورة متمددة في الدولة والحياة العامة. وكلما طالت مدة الحرب وتراكمت الأدلة على الطبيعة الوحشية، المنافية للدولة العصرية ولتنظيم المجتمع الحديث، للجنجويد، كلما صارت المرافعة أقوى وأوضح. هذا التمييز المهم عبّرنا عنه سابقا بأنه من المعروف أنه ليست هنالك دولة عصرية بدون قوات مسلحة، بينما من المؤكد أيضا أنه ليست هنالك دولة عصرية كفؤة تقبل بوجود جيش موازي للقوات المسلحة بصورة رسمية ولا يخضع لسلطة الدولة في أرضها، (بله أن يكون ذلك الجيش عبارة عن مليشيا تابعة لأسرة ولديها أنشطة ارتزاقية وعلاقات بزنس وشبكات سياسية خارج إطار الدولة وبتصرف في موارد الشعب والدولة). مثل هذا الوضع غير المنطقي أشبه بأن تعترف الدولة بكبرى عصابات الجريمة المنظمة فيها وتعطي بعض المناصب الدستورية المضمونة للأسرة المسيطرة عليها وتسمح لها بالاستمرار في الأنشطة التي هي جزء من هويتهم الأساسية (وهي أنشطة في مجملها خارجة عن القانون ومنتهكة للمدنيين).

ينبغي أن نفهم إذن، ونوافق، أن مشكلة الجيش (القوات المسلحة) مشكلة هيكلية، بينما مشكلة ميليشيا الجنجويد (الدعم السريع) مشكلة وجودية. الجيش بحاجة لإعادة هيكلة (تحدثنا عنها منذ ما قبل انتصار الثورة) بينما الجنجويد بحاجة لأن يزول من الوجود (بحيث لا يصبح هناك شيء اسمه الدعم السريع، أو مسميات ومنظمات وارثة للدعم السريع أو مشابهة له، لا في مؤسسات الدولة ولا في قوى المجتمع المدني أو البزنس). هذه النقطة يعرفها الثوار منذ صدحوا:
“السلطة سلطة شعب، والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل”
أي أنهم يعرفونها قبل الجيشوليس قبل قيادات الجيش فحسب، بل حتى قبل العساكر الذين كانوا وما زالوا يطيعون قيادات الجيش في قهر ومعاقبة المدنيين المخالفين، رغم تذكير المدنيين لهم بأن مصالحهم كعساكر أقرب لمصالح وطموحات الشعب إذ هم من الشعب أولا قبل أن يكونوا من الجيش ثانيا. (وهذه إحدى المناطق التي تحتاج لإعادة هيكلة في مؤسسة القوات المسلحة، فالهيكلة المفاهيمية المبنية على قاعدة الطاعة العمياء في هرمية الجيش بدل أن يكون هنالك عهد شرف جندي في الولاء للشعب وللدولة وليس للقيادة الهرمية إذا تناقضت أوامر تلك القيادة وتصرفاتها مع ذلك الولاء جرثومة ضارة ومزمنة في جسد القوات المسلحة عموما، وهذه مسألة تناولناها في كتابات وأحاديث مسبقة، منها حلقة “هيكلة الترسانة الأمنية للدولة” ضمن سلسلة “كيف يحكم السودان؟” التي أصدرتها شبكة عاين في منتصف العام الماضي).

لا ينبغي أن نختلف على أن أدنى مهمة مطلوبة من القوات المسلحة حاليا أن تتخلص من هذا المسخ الدعم السريع الذي وُلِد وترعرع تحت كنفها وعلى مرأى ومسمع منها (وصحيح أن هذه خطيّة الكيزان وقيادات القوات المسلحة، بالدرجة الأولى، لكنها مؤشر لضعف مؤسسة القوات المسلحة التي تسمح بأن تكون أداة طيّعة لأفراد كيما يهدموا هيكلها وهيكل دولتها). هذا الموقف الذي يبدو أنه “يؤيد انتصار الجيش على الجنجويد” في هذه المعركة لا ينبغي أن يُترجَم مباشرة إلى “تأييد الجيش” وفق ثنائية مستعجلة في قراءة الواقع (ووصفنا لهذه الثنائية بالمستعجلة لا يعني أننا فقط نركز على الحلول بعيدة الأمد، فحتى الحلول العاجلة تحتاج لنظرة عميقة واستراتيجية تربط جيدا بين الحلول العاجلة والحلول بعيدة الأمد، بحيث لا يكون اختيارنا للحلول العاجلة يشتغل ضد إمكانية تحقيق الحلول الآجلة أو النهائية.)

كتبنا كثيرا عن أهمية مؤسسة الدولة العصرية بالنسبة للشعوب التي تعيش في السياق التاريخي الحالي، فالدولة العصرية هي الإطار الأنجع، حتى الآن، الذي تستطيع الشعوب عبره أن تسعى للحيازة على أكبر قدر ممكن من فوائد عصر الحداثة فوائده التكنولوجية والاقتصادية والمعرفية والإنسانية كما تسعى عبره لاستخدام أدوات التنظيم الشعبي لمقاومة تمددات الاستغلال والسلطة التي هي أيضا من أعراض عصر الحداثة [فعصر الحداثة، كسابقيه، عصر متناقض وديلكتيكي]. تعرضنا لهذا الأمر كثيرا في كتابات سابقة، لكن يمكن أن نشير إلى مقالة “الدولة العصرية والسودان: لا بريدك ولا بحمل بلاك” التي نشرناها في منتصف مايو من هذا العام، كنموذج موجز.

من أجل ذلك، ينبغي للقوى المجتمعية والسياسية غير حاملة السلاح، والتي هي صاحبة المصلحة الأعلى في إنقاذ أمل الدولة من براثن الجنجويد، أن تنظر إلى مواقفها ذات الحكمة العملية بشكل عاجل وبدون ان تتناقض تلك المواقف مع إمكانيات الحلول النهائية. هنا لا نرى حكمة عملية من تقديم دعم إعلامي وأخلاقي غير مشروط للجهة الأقل شرا (القوات المسلحة)، لأن دعمنا هذا، وبهذه الطريقة، لا يقدّم ولا يؤخر في مجريات الأمور، سوى أنه يأخذ من رصيدنا الأخلاقي والسياسي الذي نحن بحاجة له في المرحلة الجاية من المعركةمرحلة المحاولة الخامسة للقوات المسلحة السودانية لبسط سيطرتها على السياسة والدولة وعلى الشعب، بعد انتصارها المكلّف جدا (والذي دفع ثمنه الشعب) على خطيّتها الكبرى: الجنجويد (وهو السيناريو الذي نريده، أي انتصار القوات المسلحة، ليس لسبب سوى أنه السيناريو الأخف ضررا على الشعب)وياله من حال لا يسر أي صديق، حال الشعب السوداني، حيث أضحت أفضل السيناريوهات الواقعية المتاحة أمامه حاليا أن تنتصر القوات المسلحة ثم نتهيأ لفترة جديدة من الشمولية العسكرية بتحدياتها ومآسيها.

لكن ما لا يستطيع أن ينكره حتى “المؤيدون” للقوات المسلحة، أن حرمة المدنيين غير متوفرة حاليا لدى أي جهة من الجهتين المعتركتين بالسلاح. فرغم أن الجنجويد أسوأ وأكثر لؤما بصورة واضحة، إلا أن القوات المسلحة في تكتيكها الحربي لم تتورّع عن التضحية بأعداد غفيرة من المدنيين العزّل كخسائر حرب؛ وهذا الواقع اعترف به حتى بعض كبار المحسوبين على “تأييد الجيش”. حاليا لا العساكر ولا الجنجويد عندهم احترام للمدنيين أو لرأي القوى السياسية غير حاملة السلاح، بل نجد أن قيادات الطرفين مستعدين لأن يسمعوا الأصوت الخارجية أكثر من استعدادهم لأن يسمعوا لأصوات من داخل الشعب.

ليس موقفا ثوريا أن يصطف أحدنا وراء إحدى مؤسسات الدولة الشرعية بدون قيد أو شرط، فالقيد والشرط الأساسي بيننا وبين مؤسسة الدولة هو أن هذه الدولة ترعى مصالحنا وأمننا وتعمل وفق طموحنا لتحقيق مستويات حياة أفضل وأوسع (والدولة ليست هي الوطن، فالدولة إطار ومؤسسات ذات استقرار نسبي لكن يمكن تغييرها، أما الوطن فهو انتماء مادي ومعنوي وهو الفضاء الذي تجري فيه ديناميات الاستقرار والتغيّر هذه كلها؛ فالانتماء للوطن مع مقاومة الدولة ممكن). والثوريون والثوار، حين يثورون، فهم يثورون في الأصل على سلطات الدولة القائمة كلها من اجل تغييرها تغييرا أساسيا يعيدها لمسار طموحاتهم، فإذا كان الثوريون يثورون على سلطات الدولة كلها، هل فجأة سيصطفون وراء إحدى مؤسساته فحسب القوات المسلحة بدون قيد أو شرط؟ وكذلك فالذاكرة الانتقائية ليست ذاكرة ثورية، لأن تحليلها للواقع ناقص بسبب انتقائيتها. لا يمكن أن ننسى، بين ليلة وضحاها، أن معظم عساكر القوات المسلحة أطاعوا قيادتها حين أمروهم بالتنكيل بالثوار حين قالوا “الجنجويد ينحل”، كما أطاعوهم عندما أمروهم بأن يفعلوا في قرى ومدن السودان في المناطق المهمشة قريبا مما فعل الجنجويد في الخرطوم مؤخرا (الأمر الذي جعل هنالك مشروعية واضحة في قيام حركات مسلحة ذات قضية ضد سلطة الدولة وضد قواتها؛ وهنا من الواضح أن شتان بين الحركات المسلحة صاحبة القضية وبين مليشيا الجنجويد، إذ من خطل الرأي الذي يدور مؤخرا مقارنة الجنجويد بالحركات المسلحة، بينما الجنجويد مليشيا أسستها سلطة الدولة للتنكيل بمجموعات المواطنين التي ظلمتها الدولة ابتداء ثم نقمت عليها لاحتضانها لحركات مقاومة مسلحة تقاوم ذلك الظلم، وبينما الجنجويد قاموا تحت رعاية الدولة وتغافل منها على جرائمهم وبينما لم تكن لديهم يوما قضية عادلة أو عقيدة وطنية إنما كانوا وما زالوا نكالا لأهل القضايا العادلة والحس الوطني المعقول). الموقف الثوري الذي قام مطالبا بتغيير شامل في طريقة عمل مؤسسات الدولة وتشكيل سلطتها، بالضرورة سيحمل موقفا يتطلب تغييرا شاملا في مؤسسات الدولة المستعملة لقمع الشعب بدل أن تُستعمل لحمايته ولتنفيذ إرادته، ألا وهي القوات النظامية (بشتى فروعها). كذلك، فالموقف الثوري في هذه الظروف مدرك لأن الطرف الغالب في الحرب (حتى لو غلبة نسبية) لن يكون لطيفا مع الذين لم “يقفوا معه” وقوفا غير مشروط في الحرب. بينما نطالب ونطمح من الجيش أن يقوم بمهمة التخلص من مليشيا الجنجويد المعتدية على الشعب والدولة (وهي مهمة من صميم مهامه الحقيقية كجيش) لا نتوقع أنه سيكون لطيفا مع الذين لم يقدموا له الولاء غير المشروط أثناء الحرب (بيد أن هنالك احتمالات قد تخفف من غلوائه)، لكن ليس في هذا جديد لدى أهل الموقف الثوري، فالجيش إجمالا لم يكن يوما لطيفا معهم، وهذا التوقّع المستقبلي لا ينبغي أن يؤثر على المواقف الحالية (بل ربما يلتفت قادة الجيش لاحقا، وبصورة انتقامية، لإحدى أكبر التجسيدات الإيجابية للثورة في السنوات الماضية، وهي لجان المقاومة؛ ولنا في تجربة لجان الأحياء في هايتي، في التسعينات، عبرة)، فالموقف الثوري إذن يقول وسيظل يقول بأنه لا بد من إحداث تغييرات هيكلية في القوات المسلحة (والقوات النظامية إجمالا)، طال الزمن أم قصُر.

[ولنلاحظ هنا ملاحظة مهمة، وليست عابرة، أن القوات المسلحة ما زالت حتى الآن تحت إمرة الضابط الكبير الذي ربما لعب الدور الأكبر بعد عمر البشير (أو ربما أكثر منه) في تقوية وتعزيز وتمدد قوات الدعم السريع، وهذا تناقض سافر لا يمكن استسهاله، فوجود هذا الضابط في هرم قيادة القوات المسلحة حتى الآن خطر على القوات المسلحة نفسها، دعك من الشعب، لكن المشكل الهيكلي المتجذر في القوات المسلحة يجعلها تقبل بهذا الوضع بكل ما فيه من تهديد وإهانة لها].

ما الذي يحصل من تقديم تأييد غير مشروط للقوات المسلحة، في الظروف الحالية، بينما أنت طرف غير مسلح وغير متحالف مباشرة مع أي من الطرفين بحيث يقدّرون قيمتك كحليف (بل متى أثبتوا أنهم يعيرون أهمية حقيقية لأي قوى مدنية وطنية تعاملت معهم باعتراف وقبول)؟ الذي يحصل هو أنك تضع نفسك في مكان أن تصبح بوقا إعلاميا غير مدفوع الأجر في ترسانة الجيش بينما لن تستطيع أن توازن بين هذا الدور وبين أدوار أخرى، بينما أنت أولى بتلك الأدوار الأخرى وهي أولى بك، في هذه الظروف الكالحةتلك الأدوار هي الاستمرار في الاستثمار في تقوية القوة الشعبية، تنظيما وفكرا، وإبراز صوتها ومنطقها، وهي صاحبة الحق الأصيل في السلطة وصاحبة المظلمة الأكبر من هذه الحرب.

[ومن ناحية أخرى، فربما يجد المرء بعض العذر، مؤخرا، لمقدمي المرافعات الكبيرة في صالح القوات المسلحة، ذلك إذ أن الحراك السياسي في السودان، ومنعطفاته، أخرج لنا في الأشهر الأخيرة شخصيات وفئات سياسية عجيبة جدا، فهؤلاء تماهوا في مواقفهم وخطابهم مع مصلحة الجنجويد بصورة مثيرة للعجب، وبصورة تجعل المرء يشك في حيازتهم على الحد الأدنى من شروط الذكاء والثبات السياسي كيما يتصدروا الشأن العام. مع ظهور هؤلاء، يصعب على المرء أحيانا أن لا يعذر مقدمي خطاب التأييد الشامل للجيش. كما يجد لهم بعض العذر أيضا وليس كله أمام تكاثر الخطاب الذي يبني جميع مواقفه ورؤاه حول ما هو نقيض للكيزان في تصوره، فكأنما لا يفكر هذا الخطاب باستقلالية وإنما ينتظر أن يعرف أين يتجه الكيزان كيما يتجه في الاتجاه الآخر، فهذا خطاب يقوده الكيزان فعليا لأنهم أهل المبادرة فيه. وعموما يالها من محنة أخرى من محن الشعب السوداني، حيث أن معظم “الأعلام والأقلام اليوم عند غير أهلها”، كما قيل في تاريخنا الحديث].

أحيانا، وفي المنعطفات الصعبة جدا من تاريخ الشعوب، قد تكون هنالك خيارات توصف بأنها “مثالية جدا” أو “غير عملية” بينما هي في الواقع عملية جدا، ونموذجية، وذات استثمار ثمين في أن لا تجعل تضحيات الشعوب ودمائها تهراق في غير طائل. مثلا: في خضم الثورة في 2019، عندما جنح البعض لمفاوضة المجلس العسكري ومشاركتهم السلطة، بحجة حقن الدماء وتقليل تكلفة الثورة على الشعب، كان وسطنا من قال إن هذا الخيار انحراف للثورة وأنه سيؤدي لزيادة التكلفة وإهراق الدماء وليس العكس، ووقتها كان من يقول هذا القول يوصف بأنه غير عملي وأنه مثالي جدا، ثم بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ شاهدنا ونشاهد بأعيننا حجم التكلفة التي خفناها من انحراف الثورة (وقد يحاجج البعض هنا بأن المفاوضة مع المجلس العسكري نفسها لم تكن هي سبب الحرب ولا سبب الانتهاكات التي جرت في الفترة الانتقالية وفترة الانقلاب عليها، ولهؤلاء نقول إن تراكمات آثار تلك المفاوضات، والتي شرعنت لتحرك وتمدد عناصر المجلس العسكري في الحياة العامة وفي مفاصل الدولة، ذات علاقة واضحة بما يحصل الآن، ومن مؤشرات ذلك أن الدعم السريع تضخم عسكريا واقتصاديا وسياسيا في الفترة الانتقالية بأكثر من تضخمه أثناء حكم الكيزان). أيضا، وفي بدايات حرب أبريل هذه، كان بعض الناس يقولون إن الجيش بإمكانه أن يحسم هذه الحرب في فترة وجيزة ونتخلص من كابوس الجنجويد إلى الأبد، بينما كان بعضنا يقول إن هذا احتمال ضعيف الورود وأن الاحتمال الأرجح أن الحرب ستستمر لفترة غير قصيرة وسيدفع المدنيون والثوار ثمنها عاليا، وقد كان. هل نحن بحاجة لتجارب إضافية لنستبين مدى خطورة تطفيف الحلول بعيدة الأمد توقا لما نحسبه حلا عاجلا؟

الحل العاجل، أو الذي يبدو عاجلا، قد يكون أحيانا مغريا، لأنه مباشر وواضح، بينما نحن أمام مشكلة كثيرة التعقيد، عالية الأهمية، ومتمددة في التاريخ والجغرافيا بصورة تتورع معها العقول الحكيمة عن تقديم وصفات تدّعي أنها جاهزة وناجزة. ومن مغريات الحل العاجل أنه يرافع عن نفسه بأنه هو المطلوب الآن بينما يمكن النظر لاحقا في الحلول الآجلة. لكن أي حل عاجل إن لم يكن من جنس الحل الآجل فهو خصم على الآجل، وتكلفته تفقد تبريرها مع الزمن، وهذا هو سبب تورع المتورعين. نعم، هنالك حلول عاجلة وحلول آجلة، لكن ينبغي أن يكونوا متجانسين، وفق رؤية لا بد أن تكون بعيدة الأمد وإلا فهي قاصرة. ثم بعد أن تكون لدينا قائمة معقولة من الحلول العاجلة والآجلة، تتوزّع الأدوار (الفكرية والتنظيمية والاجتماعية والسياسية) بين من يشتغل على العاجل وبين من يعمل على أن لا ننحرف عن مسار الآجل.

بقي أن نقول إن المشوار ما زال طويلا أمام الشعب السوداني، للأسف. هذا الشعب الذي بذل الكثير، وما زال يبذل، في سبيل تحقيق اختراق إنساني (اجتماعيسياسياقتصادي، ثقافي، وأخلاقي) هو بحاجة له بالأصالة، وكل المنطقة بحاجة له بالحوالة (إذ أن السودان لو وفّر نموذجا لهذا الاختراق فذلك سيحرّك بقية المنطقة). هذه الحرب ليست آخر المشوار، للأسف. سيعقب الحرب الكثير أيضا، لدرجة أن السيناريو الأخف وطأة وهو سيناريو التخلص من الجنجويد للأبد عبر هذه الحرب حتى لو تحقق فسيتبقى منه طريق مرهق ومؤلم ومليء بالاحتقانات والشكوك الداخلية، سواء استعددنا له جيدا أم لم نستعد؛ والأفضل أن نستعد. ويبقى هنالك أمل، ضعيف، كسير، في الزاوية هنالك، أن تدركنا معجزة لا نعرف وجهها اليوم….

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *