الحرب في السودان وفرص الحل السياسي: المستحيل الممكن أم هي الحرب الأهلية طويلة المدى
الحرب في السودان وفرص الحل السياسي: المستحيل الممكن أم هي الحرب الأهلية طويلة المدى
بكري الجاك
سأتناول في هذا المقال فرص الحل السياسي من منظور نظريات فض النزاعات من ناحية ميكانيكية مع تحليل شروط الواقع العسكري وطبيعة تطوره مع الأخذ في الاعتبار الاتجاهات السوسيولوجية التي بدأت تتخلق في شكل سرديات كبرى بعضا منها سيخلد في الذاكرة الجمعية ليؤرخ لما حدث في السودان في حرب الخامس عشر من أبريل 2023.
في السابق مثل هذه السرديات عادة يصنعها المنتصر وكمثال هجوم الجبهة الوطنية على الخرطوم في يوليو عام 1976 في محاولة لإسقاط نظام نميري خٌلّد في ذاكرة السودانيين الجمعية بأحداث المرتزقة لأن إعلام مايو قام بتصويرها كحركة مرتزقة وشكل بها السردية التي عبّرت عن إرادة المنتصر. الواقع الآن تغير كثيرا ومع دمقرطة وسائل الاتصال أصبحت صناعة السرديات الاجتماعية عملية معقدة وتتحكم فيها عوامل كثيرة من بينها المال والدعاية والمشاعر، وفي هذا لا أحد يعلم ماذا سيقول الناس عن هذه الحرب بعد عشرين عاما، في تقديري سيكون هناك حديث عن احتلال البيوت والتهجير والاغتصابات والعنف الممنهج ضد المدنيين. ولمثل هذه السرديات تأثير في فرص نجاح أي حل سياسي اذا لابد من قدر من الرضا الشعبي حول مخرجات هذه الحلول ولا يكفي في هذا فكرة السلام السلبي الذي فقط يعني وقف العدائيات، فمثلما للحرب كلفة فلابد أن يكون لها قيمة.
سأقوم أولا بعرض الخيارات المثالية لكل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع أي ما يعرف بالـ Maximum Supportable Outcome MSO وهذا يعني حرفيا الحد المثالي الأعلى الذي يمكن أن تدعمه الوقائع، وبطريقة أخرى ماذا يمكن أن يحقق أي منهما بشكل مثالي وفقا لمعطيات الواقع العسكري على الأرض مقرونا بعوامل أخرى متمثلة في الشرعية (الاجتماعية والسياسية) والقبول الشعبي والعلاقات مع بعض الدول المؤثرة إقليميا ودوليا وتطابق مصالح هذه الدول مع الحد الأعلى المثالي لكل طرف. ثم سأعرض ما يعرف بالـ Least Acceptable Outcome LOA أي الحد الأدنى الذي يمكن القبول به لكل طرف في حالة عدم تمكنّهما من الحصول على التصور المثالي. وبعد ذلك سأقوم بمناقشة ما يعرف بالـ Best Alternative Outcome For A Negotiated Agreement اي البديل المثالي لاتفاق متفاوض عليه إذا كان هناك بالإمكان أمل في تطوير مثل هذا الخيار بواسطة الوسطاء. وفي اثناء هذا العرض سأتناول سيناريوهات الحرب الثلاثة المعروفة: انتصار حاسم للجيش، انتصار حاسم للدعم السريع، وضعية غير معرّفة.
فيما يتعلق بالقوات المسلحة السودانية الخيار المثالي الغير قابل للتحقق هو دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة والتخلص من آل دقلو كمؤسسة عسكرية لها تأثير في الحياة السياسية وربما القبول بوجود اقتصادي استثماراتهم دون حصولها على أي حماية أو أفضلية من قبل جهاز الدولة الأمر الذي يمكّن الصناعات الدفاعية من احتكار تصدير اللحوم والتوسع في التعدين مما يمكنها من مواصلة بناء إمبراطورية اقتصادية تعمل بشكل مستقل عن الدولة مما يسهل لها الاستمرار في السيطرة على السلطة السياسية من خلال السيطرة على الاقتصاد وخصوصا القطاع العام الذي سيصبح “خاص” تحت امرة القوات المسلحة وحدها لا شريك لها. هذا الوضع سيمّكن تحالف المال والسلطة من بقايا النظام السابق من الحفاظ على المزايا الاقتصادية المتمثلة في توظيف جهاز الدولة كواجهة لاكتساب شرعية اجتماعية وسياسية وتوظيف هذه الشرعية لتأسيس قوة ناعمة يمكن أن تغير شكلها السياسي عدة مرات مع الإبقاء على نفس علاقات المصالح. تحقيق هذه المحصلة المثالية لابد للقوات المسلحة من نصر ساحق ينتهي بانتهاء الدعم السريع كقوة تابعة لأسرة آل دقلو وتجريده من أي مكون قبلي محدد، مع قدرتها على بسط سيطرتها على كل البلاد بما في ذلك مناطق إنتاج الثروة الحيوانية ومناجم التعدين عن الذهب. وبما أن هذا النصر غير ممكن وغير معرّف فإن الحد الأعلى المثالي MSO العملي الذي تسعى له القوات المسلحة هو تجريد قوات الدعم السريع من أي خصوصية اقتصادية واستقلالية في اتخاذ أي قرارات عسكرية أو سياسية وأن تصبح خاضعة لإرادة القيادة الموحدة للقوات المسلحة.
الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به القوات المسلحة LAO ربما يكون وجود لقوات الدعم السريع في ملفات الترتيبات الأمنية والاصلاح الأمني والعسكري مع تقليص دورها السياسي وتحجيم أو إنهاء استقلاليتها الاقتصادية مما يعني عمليا تفكيك إمبراطورية آل دقلو الاقتصادية، هذا التصور سيمكّن القوات المسلحة من التخلي عن فكرة الاخضاع مؤقتا لكن قبول هذا الأمر سيكون رهينا بمدى قدرة القوات المسلحة في لعب دور سياسي في تشكيل طبيعة السلطة والحكم في مستقبل البلاد، لذا هذا الناتج سيظل متحرك وقابل للتغيير وتحكمه عوامل الواقع المادي على الأرض ومدى قوة وتأثير حلفاء القوات المسلحة (مصر وربما قطر وتركيا).
بالنسبة لقوات الدعم السريع وآل دقلو فإن الخيار المثالي الغير قابل للتحقق هو أن تتمكن قوات الدعم السريع من لعب دور جوهري في اعادة بناء الدولة السودانية وإعادة تشكيل الجيش السوداني بصيغة تمكن أسرة آل دقلو وامتداداتها القبلية من تحولها إلى حالة أشبه بوضعية العائلات الأميرية في دول الخليج أو أسرة علي بونقو التي ظلت تتسيد المشهد السياسي في الجابون منذ ستينيات القرن الماضي، وهذا يعني احتفاظها بالثروات التي اقتنتها بالسيطرة على جهاز الدولة ويلعب دور المقاول في حرب اليمن وفي عملية محاربة الهجرة وبقية عمليات الفساد المنظم بما في ذلك الحصول على نسبة 30% من أصول منظومة الصناعات الدفاعية.
وبما أن هذا الخيار يظل ممكنا فقط في حال انتصارها في الحرب وتحقيقها نصرا حاسما يمكنّها ليس فقط إخضاع كل القوات المقاتلة عبر القوة الصلبة بل ايضا امتلاكها لقوة ناعمة تعطيها فرص القبول الاجتماعي وشرعية اجتماعية تتمثل في قبول المحكومين بشرعية الحاكم. هذا الأمر لم يعد ممكنا لصعوبة النصر العسكري الحاسم أو الحصول على القبول الاجتماعي في ظل الفظائع والانتهاكات الممنهجة التي تقوم بها قوات الدعم السريع في الخرطوم وفي دارفور مجددا وتحديدا في ولاية غرب دارفور، عليه الحد الأعلى المثالي القابل للتحقيق MSO والذي يمكن أن تدعمه حقائق الواقع المادي، يتمثل في احتفاظ قوات الدعم السريع باستثماراتها الاقتصادية وبلعب دور سياسي كبير يمكنها من حماية هذه المصالح مع الإبقاء على مساحة للمناورة حول كيفية ومواقيت الدمج والتسريح لقواتها، ببساطة هذا يعني ترتيب سياسي شبيه بالاتفاق الإطاري وهذا ما سنأتي له لاحقا.
أما الناتج الذي يمكن أن تقبل به قوات الدعم السريع أو LAO، حسب تصورنا، هو الاحتفاظ بالامبراطورية الاقتصادية لآل دقلو مع فرص مستقبلية للعب دور سياسي وترتيبات عسكرية تمنح مساحة للمناورة حول مستقبل قوات الدعم السريع وكيفية استخدامها.
أما في شأن الـ BATNA أو الخيار البديل لحل متفاوض عليه فهذا أمر يجب أن يٌدرس بواسطة الوسطاء وربما اقتراحه لأن الأطراف المتفاوضة ليس لديها القدرة ولا المعرفة بكيفية تصميم خيار بديل، وكمثال للخيار البديل يمكن أن يكون هنالك مقترح لدفع بلايين الدولارات لاسرة آل دقلو لتعويض خسائرهم وكمحفز للقوات التي تقاتل الآن لوقف القتال وتصميم عملية متكاملة برعاية دولية تشمل إعادة تأهيل المقاتلين وتسريح بعضهم وتعويض بعضهم ماليا لتشجيعهم لتغيير نمط حياتهم، وقد يتضمن هذا الخيار أيضا ضمانات لقيادات القوات المسلحة بعدم ملاحقتها عن أي جرائم سابقة إذا ما بدأت في عمليات إصلاح جوهرية وقبلت بخروج المؤسسة العسكرية من النشاط الاقتصادي والسياسي وتعاونت في عمليات إعادة بناء جيش وطني بعقيدة جديدة وفق تصورات عملية لجمهورية ثانية.
وقد يشمل هذا الخيار كذلك محفزّات للإسلاميين من شاكلة عدم الملاحقة والتغاضي عن جرائم الحق العام خلال سنين الانقاذ مع تقديم ضمانات مادية بعدم التآمر لإعاقة مسيرة الانتقال الديمقراطي على أن تتضمن شروط انخراطهم في أي نشاط سياسي مستقبلي مراجعات فكرية وأخلاقية، على أن يشمل هذا التصور إطلاق مشروع شامل للعدالة الانتقالية في كل البلاد. وحتى لا يقوم خفاف العقول من المتعجلين بوصفي بأنني من دعاة “عفا الله عما سلف” والتصالح مع الكيزان والتنازل عن العدالة مقابل الاستقرار، كل ما ذكرت في عاليه هي أمثلة حدثت في بلدان أخرى في إطار العمليات المعقدة لشراء المستقبل والتسامي فوق جراحات ومظالم الماضي، ونحن لسنا مطالبون بتقليد تجربة أي بلد آخر وبإمكاننا طرح هذا الأمر للناس ليتداولوا فيه ويقرروا فيه كمجتمعات متنوعة بقضايا مختلفة.
على ضوء ذلك ما هي الخيارات الممكنة للحل السياسي؟
ومن منظور منهجي، هناك ثلاثة مداخل نظرية في أدبيات فض النزاعات، وهي أولا winwin أي نصر نصر وهذا يعني أن كل طرف يرى أنه حقق انتصارا وفق النتائج النهائية للاتفاق السياسي والترتيبات العسكرية التي تترتب عليه، وخيار نصر نصر هو الوضع المثالي للوسطاء اذا كان بامكانهم إقناع كل الطرفين بأن المحصلة هي انتصار لكليهما وهذا عادة يتم بإعادة تعريف الغايات الكلية للطرفين وإجلاء ما يمكن أن يحدث في المستقبل نتيجة لهذه المتغيرات وبعض من الضغوط عبر التحفيز و ربما التهديد من قبل المؤثرين داخليا و خارجيا. المدخل الثاني هو winlose أي اكسباخسر و هو الوضعية التي لا يحصل فيها كل طرف على الحد الأعلى المثالي القابل للتحقق MSO و عند وصول الطرفين إلى قناعة بأنه من غير الممكن الحصول على الحد الأعلى MSO يبدأ الطرفان بالتحرك إلى منطقة وسط تحقق الناتج المقبول لكليهما، و هذا يعني ضمنيا خلق حد أدني مقبول LAO لكلا الطرفين، حيث المحصلة النهائية تتحكم فيها عوامل عدة منها الواقع العملياتي على الأرض، دور الوسطاء و دهاء وحكمة مفاوضي كل طرف بالإضافة إلى عوامل أخري مثل الشرعية و القبول. المدخل الثالث هو Loselose أي خاسر خاسر وهو ما يعني أن كلا الطرفين سوف يحصلان على ما هو أقل من الحد الأدنى المقبول لكليهما من ال LAO وهذا يحدث عادة في حالات نادرة تمكّن طرف ثالث فرض إرادة على الطرفين بشكل استثنائي و في ظروف استثنائية وهذا ما نسعى له نحن المدنيون في أن نفرض إرادة تغيير يخرج منها كل من القوات المسلحة والدعم السريع بأقل من الحد الأدنى المقبول لديهما كما شرحنا في عاليه و هذا يعني الخروج من الاقتصاد والسياسة.
أما من واقع الحقائق المادية على الأرض و كما اسلفنا من قبل أن هذه الحرب و بطبيعتها أنها تدور في مدن وفي أوساط المدنيين، والطريقة التي تتطور بها متمثلة في خلق تحشيد عرقي اثني يحاول فيه البعض حشد القبائل العربية في دارفور و كردفان لتكون حاضنة اجتماعية قوات الدعم السريع و شراء بعض القبائل بالمال كما تم في النيل الأزرق وجنوب كردفان وربما مناطق أخرى، في مقابل ذلك يمكن قراءة دعوة القائد العام للقوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان باستنفار الناس للقتال وهو ما حدث بالفعل إذ استجابت بعض المجموعات في الشرق و في ولاية نهر النيل والشمالية، و هذا الاستنفار لا محال أخذ بعدا عرقيا و اثنيا وهو ما ينذر بتطور الصراع الى حرب اهلية أساسها القبيلة و مخيالها الاجتماعي هو الانتماء الأولي، وما يعقد هذا المشهد هو الشرائح الكبيرة وسط قوات الدعم السريع من الغنامة الذين لا عقيدة لهم سوى النهب و السرقة و في سبيل ذلك لا يتورعون من القتل و التعذيب و الاغتصاب وممارسة كافة أشكال القهر. و رغم ذلك، المخرج الوحيد من تحول هذه الحرب إلى عدة حروب و بعدة أطراف، و أن كان أنها بدأت بالفعل تأخذ هذا الشكل كما يحدث في دارفور و في الفولة و الخوي، هو الحل المتفاوض عليه بما أن يمكن لأي طرف الانتصار فيها.
معالم الحل المتفاوض عليه ستأتي في منطقة بين الحد الأعلي المثالي القابل للتحقيق و الحد الأدني الذي يمكن القبول به لكل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، مع الأخذ في الاعتبار الواقع العسكري العملياتي على الأرض و سؤال الشرعية و القبول و مدى قوة وتأثير الحلفاء الإقليميين والدوليين. في تقديري أن الخطأ الذي ظل يرتكبه الوسطاء هو تقديم أجندة وقف العدائيات ووقف إطلاق النار الدائم كأمر منفصل من الحل السياسي المتفاوض عليه، و الخطأ الجوهري في نظري هو دعوة الطرفين لوقف إطلاق النار كشرط لإبداء حسن النوايا و من ثم البدء في تفاوض لعملية سياسية يعطي انطباع خاطيء يتمثل في اعتبار أن تغيير الواقع العملياتي علي الأرض سيحسن في الموقف التفاوضي لكل طرف. من المهم هنا الإشارة إلى أن أي عمل عسكري لا ينتهي بنصر حاسم وإخضاع لا يغير بشكل كبير على النتائج الممكنة لكل طرف لأن العوامل الأخرى مثل قضية الشرعية و القبول سيكون لها تأثير و في هذا يمكن القول أن القوات المسلحة لا تتضرر كثيرا من ناحية تفاوضية حتى ولو خسرت كل معسكراتها في الخرطوم.
فمن حيث الشرعية فإن القوات المسلحة، رغم تاريخها الدموي الطويل و ابتكارها لفكرة المليشيات الصديقة في الجنوب وفي دارفور و برغم كل ما قامت به من تخريب للحياة السياسية وإضعاف للدولة وتحويلها الى اقطاعيات سياسية في عهد الاسلاميين و اخيرا افقاد هذه الدولة لسيادتها و تدمير مقدراتها ومؤسساتها، إلا أنها ليست في حاجة إلى الدفاع عن شرعيتها المؤسسية والاجتماعية، بل أنها تتمتع بقبول اجتماعي كبير يتصاعد كلما تصاعدت انتهاكات و جرائم قوات الدعم السريع في احتلال البيوت وفي النهب و الاغتصاب. و ايضا القوات المسلحة لها علاقات اقليمية متينة مع مصر ( كواحدة من أهم اللاعبين الإقليميين في السودان إذا لم تكن اللاعب الأهم علي الإطلاق).
بالمقابل الدعم السريع لا يكسب كثيرا من أي نصر عسكري على الأرض وهذا ما دعانا من قبل لاستخدام مقاربة ” الكلب الساكي حافلة” مع الاعتذار للقراء فماذا سيفعل الكلب إذا ما قبض على الحافلة؟ لا أحد يعلم، فماذا فعل و يفعل الدعم السريع إذا ما سيطر على الخرطوم، فسؤال الشرعية السياسية والاجتماعية ليس له إجابة باستخدام القوة الصلبة كما ليس للدعم السريع أي تصور لفكرة الدولة خارج منطق ومنهج الغنيمة و السلب. و حتي محاولة اكساب حرب الدعم السريع مشروعية تاريخية بالحديث عن دولة 56 و التماهي مع خطاب مظلومية التهميش ليس له فرص للنجاح لأن تاريخ هذه القوات لا يؤهلها اخلاقيا لتبني خطاب مظلومية في الوقت الذي تقتل فيه و تغتصب و تنهب في دارفور وفي كردفان و الخرطوم، أما محاولة شراء و تجييش القبائل العربية في دارفور سوف لن تحظى بأي نجاح مستدام فهذه المجموعات تعلم أنها ستخاطر كثيرا اذا ما مضت في مثل هذا المشروع و هي قبائل لها تاريخ طويل و حكمة متوارثة في تمتين سبل التعايش. صحيح أن الدعم السريع يتمتع بعلاقات إقليمية جيدة تتمثل في روسيا و الامارات و كينيا و إثيوبيا لكنها قد تكون غير كافية لترجيح كفته في ظل عوامل ضعف داخلية.
و بشكل عام، و بتحليل عوامل القوة و الضعف لكل من القوات المسلحة والدعم السريع يبدو جليا أن القوات المسلحة في وضعية أفضل في مسألة الشرعية السياسية و الاجتماعية و لها علاقات إقليمية معقولة ولها قدرة على السيطرة و الحركة في الشمال و الشرق و الجنوب و لها قدرة علي المناورة في الغرب في دارفور و في غرب و جنوب كردفان. الدعم السريع يتمتع بوجود قوي في الخرطوم و في كردفان و دارفور و علاقات اقليمية جيدة لكنه سوف لن يستطيع غسل جرائم الغنّامة بالدعاية و البروباغاندا أن هناك من يرتدون أزياء الدعم السريع و يغتصبون و يحتلون المنازل فليس هنالك سر في أن قوات الفزع التي قدمت من ليبيا ومالي وتشاد والنيجر معروفة للجميع في المنطقة، وأنها أي قوات الدعم السريع إذا ما كانت تسيطر على 90 في المئة من العاصمة كيف أنها لا تستطيع السيطرة على من يشوهون صورتها، بعيدا عن الاستهبال و الكذب هذه الجرائم الآن موثقة بواسطة منظمات دولية، و بيان الخارجية الامريكية الذي صدر يوم أمس 26 أغسطس يوجه ادانة واضحة لقوات الدعم السريع. إزاء هذه العقوق الإنسانية أولا و الوطنية ثانيا سيصبح من الصعب لقوات الدعم السريع ترجمة سيطرتها العسكرية الي مقابل موضوعي يتمثل في قوة سياسية تنعكس في محصلة الناتج السياسي المحتمل.
تعقيد فرص الحل السياسي ومحنة القوى الموقعة على الإطاري
وها قد استعرضنا الخيارات المثالية غير الممكنة التحقق والتي تتطلب نصر حاسم لطرف ما واستعرضنا الحد الأعلى (الناتج) المثالي لكل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وفق ما طرح من سرديات و ادبيات ما قبل و بعد حرب الخامس عشر من أبريل. الأمر الذي سيصعب فرص أي حل سياسي هي أن الحد الأدني للناتج السياسي المقبول لقوات الدعم السريع هو ترجمة وجودها العسكري في معادل موضوعي سياسي مما يعني أن يتم إعادة إنتاج سياسي شبيهة بالاتفاق الإطاري تسمح لأسرة آل دقلو بالحفاظ على الإمبراطورية الاقتصادية ودور سياسي مع مساحة للمناورة في مسألة دمج القوات وقضية الجيش الواحد. المشكلة الحقيقية أن هذا أمرا لم يعد ممكنا أو قابلا للتطبيق، ليس لأن القوات المسلحة ربما سترفع سقف الحد الأعلى لديها بل لأن مشكلة انتفاء شرعية الدعم السريع بتعاظم الجرائم و الانتهاكات خلقت شرخ عميق لا يمكن ردمه بالاستهبال السياسي. و الاصرار علي تركيع السودانيين بـ فظائع الحرب سيجعل أي حل بهذه الصيغة مجرد هٌدنة مؤقتة أو ربما نقل الصراع الى مرحلة جديدة قد نرى فيها تفجيرات تمرد و عمليات ارهابية، هذا إذا لم يؤدي إلى انقسام رأسي في الجيش والدعم السريع على أسس إثنية أو قبلية أو مناطقية مع احتمال دخول البلاد في حرب أهلية شاملة.
محنة الاطاريين تكمن في أنهم مازالوا يعتقدون أنه يمكن إحياء الإطاري كبعاتي آخر و تجريعه للكيزان بصيغة لا تخلو من الشماتة على طريقة “تابوها مملحة تاكلوها قروض” وفي تقديري أن أي مجموعة سياسية جادة يجب أن تبدأ في التفكير بشكل جدي في طبيعة الحل السياسي الذي يمكن أن يوقف الحرب ويحقق السلام و الاستقرار و يضع البلاد في طريق معبد للتعافي الوطني كشرط سابق للتأسيس و الانتقال الديمقراطي، الفهلوة و الحديث المرسل لا يحل محل رؤية متكاملة من هذه القوى و يجب أن تطرح بشجاعة إذا أراد هؤلاء لعب دور سياسي في مستقبل البلاد.
خاتمة
خلاصة القول أن الحلول المتصورة، على شاكلة التسوية السياسية، من بعض الفاعلين السياسيين سيكون من الصعب تسويقها لملايين الناس الذين قتلوا و شردوا و فقدوا كل ما يملكون و شاهدوا الفظائع التي لا يمكن أن يتخيلها عقل بشر ليكون الناتج مكافأة للمجرمين بمزيد من السلطة السياسية مع الحفاظ على الإمبراطوريات الاقتصادية في ظل حالة افقار ممنهج لعامة الناس وتدمير للبنية التحتية و تفتيت النسيج الاجتماعي بفعل الحشد الجمعي العبثي الذي يمجّد اتساع دائرة الحرب كوسيلة لتحقيق العدل عبر التساوي في البؤس والمعاناة. و لابد أن يعي أصحاب المظلوميات و المطالبين بعدالة تاريخية أن لا شيء بحجم رفع الضرر و إحقاق الحق وإقامة العدل يمكن أن يتم في شكل حدث بل لابد من فهم أن هذه عمليات معقدة و طويلة و تاريخية في نفسها، حتى لا يعتقد الناس أن العدالة يمكن أن تتحقق بقرار أوحد.
إذا كان لهذه الحرب كلفة مادية تقدر ببلايين الدولارات فلابد أن يكون لها مقابل يحول كلفتها إلى قيمة ليست بالضرورة مستحقة الدفع، اذ كان بالامكان التوافق على مشروع وطني قائم على المواطنة المتساوية دون مزيدا من الاقتتال، فلا يجب أن ندع هذه الحرب تضع أوزارها دون ترجمتها إلى مكتسبات تغير من حياة السودانيين وسبيلنا إلى ذلك تحقيق التوافق المدني العريض حول المشتركات الكبرى، المتمثلة في مشروع وطني تنموي قائم على المواطنة المتساوية في ظل نظام ديمقراطي يحتكم إلى سلطة الشعب و قاعدته سيادة حكم القانون و العدالة، هذه المشتركات تمكننا من العمل على ضمان خروج الطرفين المتقاتلين من هذه الحرب خاسرين و الكاسب هو مستقبل الدولة السودانية و مشروع الجمهورية الثانية.
27 أغسطس 202
المصدر: صحيفة التغيير