باريس متخوفة من تحركات واشنطن

أثار انقلاب النيجر وتطوراته السياسية والدبلوماسية اهتمامًا دوليًا واسعًا، إذ أدى إلى تفاعلات مختلفة من جانب القوى العالمية، ويبدو أن فرنسا في طريقها إلى التراجع وفقدان نفوذها تدريجيا بالقارة السمراء، مقابل محاولة واشنطن ملء هذا الفراغ من أجل مزاحمة التوسع الصيني والروسي، أو على الأقل هذا ما حاولت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية معالجته في مقال مطول بعنوان “بعد الانقلاب في النيجر.. باريس تخشى أن تتجاوزها واشنطن”.
ويسلط المقال الضوء على ردود الفعل المختلفة من قبل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، والدور الذي يلعبه كل منهما في خضم الانقلاب العسكري بالنيجر، وذلك بناء على التصريحات الرسمية لقيادات البلدين.
فمنذ اللحظات الأولى للانقلاب بدأت الولايات المتحدة التعبير عن رفضها للتدخل العسكري في النيجر، ما يشير إلى انحيازها للحلول الدبلوماسية، وهذا ما تجلى في زيارة الشخصية الثالثة في وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند إلى العاصمة النيجرية نيامي، حيث أجرت محادثات “مفصلة” مع بعض مسؤولي المجلس العسكري الحاكم، إذ حاولت واشنطن أن ترسّم حضورها القوي في الأزمة ومحاولة التوصل إلى الحلول.
فالمحللون قرأوا تحاشي وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين وصف ما يحدث في النيجر بأنه “انقلاب”، واعتبار عدم وجود “حل عسكري مقبول”، على أنه جزء من مصلحة واشنطن الاستراتيجية بالمنطقة المبنية على الواقعية والبراغماتية.
من الجانب الآخر، أظهرت فرنسا منذ بداية الأحداث وضوحًا في موقفها، إذ أدانت الانقلاب وهددت بالتدخل عسكريا من أجل إعادة الرئيس المعزول محمد بازوم إلى منصبه، إذ بدا أن باريس تفاجأت بتطور الأحداث، وتخشى أن تفقد إحدى قلاعها في المنطقة.
وسارعت باريس إلى دعم خيار التدخل العسكري الذي اتخذته دول المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إكواس”، رغم تراجع الأخيرة بعد بروز الخيار الدبلوماسي مع قبول المجلس العسكري بالنيجر التفاوض.
وبرر “الإليزيه” هذه المواقف بسعي باريس إلى “الحفاظ على الاستقرار وتعزيز الديمقراطية في المنطقة”، في خضم موجة من الاحتجاجات الشعبية بالنيجر ضد التواجد الفرنسي في بلادهم، ما وضع مصداقية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المحك.
ويتساءل مراقبون حول ما إذا كانت واشنطن تخطط لتوطيد علاقاتها مع القيادة الجديدة للنيجر، والممثلة في المجلس العسكري، خلال هذه الفترة الانتقالية، في انتظار النظام الجديد الذي ستفرزه المرحلة القادمة بعد تنظيم الانتخابات العامة والرئاسية.
ويرى مراقبون أن واشنطن ترغب في تجاوز النفوذ الذي تتمتع به باريس في المنطقة الإفريقية، خاصة في الساحل وغرب إفريقيا، لتصبح الحليف الجديد الذي سيتمكن من منافسة التوسع الصيني والروسي في إفريقيا.
وتعتقد واشنطن أن باريس فشلت في كسب الأفارقة بعد فشلها في التخلص من نظرتها الفوقية للقارة السمراء من منطلق عقدتها الاستعمارية، إذ ساهمت في تأجيج مشاعر الكراهية ضدها، مع استمرارها في تدعيم الأنظمة الفاسدة، مقابل التركيز على استغلال الموارد الطبيعية بالمجان، دون أن ينعكس ذلك على الحياة اليومية للسكان.
واستغلت الدول الكبرى المنافِسة للغرب في إفريقيا، روسيا والصين، هذا الوضع واستثمرت بشكل كبير في تنامي الشعور الرافض للفرنسيين، إذ استطاعت روسيا أن تخلف فرنسا بإفريقيا الوسطى ومالي، وتحضر نفسها لعقد شراكة مع الحكام الجدد ببوركينافاسو، وتراقب عن قرب مسار الأحداث في النيجر، في حين استطاعت الصين أن تستحوذ على استثمارات كبرى في الكثير من الدول الإفريقية على حساب الفرنسيين والأمريكيين وغيرهم من الدول الغربية.
هذا التراجع الفرنسي دفع الولايات المتحدة إلى أن تأخذ زمام المبادرة حتى تحد من آثار التراجع الفرنسي، إذ زار أنتوني بلينكن النيجر شهر مارس الماضي، في أول زيارة لمسؤول أمريكي في هذا المستوى إلى النيجر، بعث من خلالها رسائل للقيادة السياسية في النيجر ولكل دول منطقة الساحل، مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة للتعاون معها، كما تحدث عن مقاربة جديدة في مساعدة هذه الدول لدحر الإرهاب، من خلال تقديم الدعم الأمني والاقتصادي، على عكس المقاربة الفرنسية الأمنية الخالصة التي أثبتت فشلها على مدار السنوات الماضية.
هذا التباين لم يطرأ فقط على واشنطن، بل كذلك على الحلفاء الأوروبيين، إذ أبدى الألمان اهتمامًا بضمان استقرار المنطقة وضمان انسحاب قواتهم من مالي، ما يعكس توجهًا نحو التحول من المسؤولية الأمنية في البلدان الإفريقية. بينما تلعب إيطاليا دورًا حيويًا في السعي لتحقيق الاستقرار في النيجر لتجنب أزمات الهجرة، حيث تعتبرها أحد أقفال ممرات الهجرة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى.
هذه التفاعلات تبرز التوجهات المختلفة للدول الأوروبية ومصالحها في المنطقة، وتسلط الضوء على التحديات الدبلوماسية والسياسية في إفريقيا.
وعليه فإن الانقلاب في النيجر، حسب مراقبين، يمكن أن يكون منعطفًا في تشكيل المستقبل الإقليمي والدولي، ويتجلى ذلك في تباين المواقف الذي يعكس التحديات المعقدة التي تواجهها القوى العالمية في رسم سياساتها نحو القارة الإفريقية.