اخبار السودان

كم مرة نموت وكم مرة نحيا؟

د. بكري الجاك

بكري الجاك

الكوارث والنوازل التي تحدث للبشر بقدر ما تترك من آلام و جراح هي أيضا تخلق فرص للتأمل و تفتح أفق جديد للمستقبل، على مستوى المجتمعات والحكومات أصبح هناك شبه إجماع وسط الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية التي لها علاقة بصناعة السياسات العامة وتصميم التدخلات الحكومية أنه لا يمكن أن يحدث توافق كبير بين صناع السياسات في البرلمانات المنتخبة ما لم يكن هنالك شبه إجماع (سياسي و اجتماعي) أن الوضع كارثي و يتطلب تدخلات كبرى، أو ما يعرف با ل Sense of crisis خلاف ذلك ستظل صراعات التصورات عن العالم وما يدور فيه هي التي تحكم حركة المجتمعات اليومية من مستوى الأفراد إلى مستوى الحكومات.

على الصعيد الذاتي الكوارث العامة ( والخاصة) تتيح قدر من المساحة للتأمل والتدبر في العام كما في الخاص. و كغيري من البشر ظللت في حالة تأمل و تدبر و للحظة بدأ لي أننا مثلما نعيش عدة مرات (ربما آلاف المرات) فأننا أيضا نموت ربما عشرات المرات. اتذكر قبل 11 عام و بعد أن أكملت الدكتوراة وكنت وقتها في معاينة جامعة في ولاية مينيسوتا، حيث درجت العادة في الوظائف الأكاديمية التي بها فرص التعيين الدائم او ما يعرف بال Tenuretrack أن يبدأ البروسيس بتقديم طلب طويل قد يستغرق إعداده ايام اولا و اذا وفق المرشح من اكمال المراحل الأولية من معاينة تليفونية و معاينة عبر الفيديو أن تقدم للمرشح دعوة لمعاينة في الجامعة أو ما يعرف بال Campus visit و هي مرحلة مهمة وحاسمة وقد تستمر إلى عدة أيام حسب تقليد كل جامعة و مؤسسة، وعادة تقدم الدعوة إلى ثلاث مرشحين فقط لإجراء مقابلة عيانية في الجامعة، و في الاونة الاخيرة هذا ربما يعني ثلاث مرشحين من 150 جملة الذين تقدموا إلي هذه الوظيفة و في بعض المجالات يمكن أن يكون المتقدمين أكثر من 300. المهم في نهاية اليوم الأول في زيارتي الى هذه الجامعة و بعد أن حكيت قصة حياتي أكثر من 20 مرة، تحدثت عن نشأتي و تجربتي التعليمية في السودان و من ثم تجربة العمل المعارض و أخيرا مرحلة الدراسات العليا، فعلقت سيدة كانت من الأساتذة المخضرمات في الكلية قائلة It appears like you have lived three lives أي يبدو أنك عشت ثلاثة حيوات.

في الشهور الماضية و بين ما يحدث في حياتي الخاصة و بين أوجاع الحرب ومآسيها، بدأت أتذكر حديث السيدة عن أنني ربما عشت ثلاثة حيوات و انا حينها كنت ما زلت في الثلاثينيات، و بالفعل خلصت إلى أننا لا نعيش مرة واحدة بل نعيش عدة مرات و نولد من جديد كل ما مررنا بمرحلة نعيد فيها التعرف على ذواتنا و مثل هذه المحطات ايضا تحدث عندما نمر بتجارب ذات تأثير عميق في حياتنا. و لبرهة بدأت أتساءل في سري يا تري كم حياة قد عشت منذ تعليق تلك السيدة التلقائى و قد جرت الكثير من المياه تحت العديد من الجسور في محطات الحياة بحلوها و مرها و حتى الممل الكثير منها؟

و بنفس القدر بما أننا نعيش عدة مرات (ربما مئات او آلاف المرات) كل منا حسب تجاربه، يبدو أننا أيضا نموت بقدر هذه الحيوات. فنحن نموت حين ننسى رائحة الأمكنة القريبة إلى نفوسنا، ونموت حين نترك أشياء عزيزة علينا و نرحل، و نموت حين يرحل الأصدقاء في دروب الحياة و عبر البرزخ، و نموت حين يموت الناس القريبون إلى قلوبنا، و نحن نموت حينما تموت أحلامنا بفعل الزمن وبفعل المصائر، و نحن نموت حين يموت الحب فينا، و ايضا نحن نموت حيث نقع في شراك الحب ونفشل في إبقاء جذوته حية فينا، و كذلك نحن نموت بهجر الاحباء و بقسوة الرفاق و تجاهلهم، وهكذا نموت نحن حين تنتهي العلاقات المهمة و المؤثرة في حياتنا، و في بعضها نظل نلعق جراحنا و نطبب قلوبنا الدامية و في بعضها ربما قد نسعد بموتنا، أما في ظرفنا الراهن فنحن نموت كل يوم، نموت بالهجر والحنين والحرمان والعوز والعجز وقلة الحيلة.

عزاءنا (و ربما عزائي الوحيد) هو أن بعد كل موت نحيا مرة أخرى، وهكذا تدور الحياة تحدث متغيرات و كوراث تدفعنا إلى إعادة التعرف على ذواتنا، نودع القديم و نستنسخ ذاتا جديدة تصلح لحياة جديدة في انتظار موت جديد يبعث فيها حياة جديدة مرة أخري و هكذا نحيا ونموت و نحيا.

بكرى الجاك
7 أغسطس 2023

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *