التحول السريع إلى أنظمة استبدادية…
ارتبط مفهوم النظام الرأسمالي بمفهوم الحرية حيث يمكن أن نعتبر بأن بينهما ارتباطا وثيقا. هذا لا يعني بأن الأول يؤدي حتما إلى الثاني أو العكس؛ لكن من المعروف أن النظام الرأسمالي كنظام اقتصادي ارتكز من بين ما ارتكز عليه الدفاع عن الحرية، حيث دافع عن الملكية الخاصة، وحرية التنافس، وحرية إنشاء المشاريع والاستثمارات، وحرية التنقل، وغير ذلك. بيد أن الحرية كمفهوم هي أوسع وأكثر تعقيدا من مفهوم الحرية في المنظور الرأسمالي.
إضافة إلى الحرية الاقتصادية، يرتبط مفهوم الحرية بالحرية السياسية والحرية الثقافية والحرية العقائدية وغيرها؛ فالحرية لا تقتصر فقط على المجال الاقتصادي بل تتجاوزه لترتبط بمناح أخرى من الحياة الفردية والجماعية.
لقد دافع النظام الرأسمالي عن الحرية واعتبرها وسيلة لبلوغ النمو والتقدم، ولكنها أصبحت الآن أكثر من أي وقت آخر حرية مشروطة، لم تعد تلك الحرية المرتبطة فقط بمهارات وكفاءات الفرد في المجتمع، والمجالات التي يمكن أن يبدع فيها، ومهاراته في ريادة الأعمال والمبادرة الفردية، أي حريته في المجازفة في الأعمال التجارية والاستثمار وحرية العمل أو عدم العمل واختيار السلع والخدمات التي يرغب في شرائها. لقد اتضح مع كل أزمة أنها حرية مشروطة ومقيدة، بل يمكن أن نقول بأن لم يعد هناك حرية في النظام الرأسمالي؛ لقد تمكن من التحكم فيها ومن خنقها وتوجيهها، لينتقل مجال القيد من المجال الاقتصادي إلى المجال السياسي والمجالات الداعمة للديموقراطية كالصحافة والثقافة والحرية الشخصية وغيرها.
لقد أظهر النظام الرأسمالي قدرته على التعايش مع أشكال مختلفة من الحكم أو من النمط السياسي، بدءا من الليبرالية والأنظمة الديمقراطية إلى الأنظمة الاستبدادية، أي من مجتمعات تحترم فيها حقوق الإنسان والديمقراطية إلى بلدان لا تحترم فيها حقوق الإنسان وتنعدم فيها الديمقراطية. وهو ما يعزز فكرتنا أن النظام الرأسمالي يمكنه التكيف مع النمط السياسي للبلد. لقد استطاع أن يوظف البنيات الاجتماعية والسياسية والثقافية لتخدم مصالحه ويوجهّها حسب منطقه وليس حسب منطق إرادة الدولة والرفاه الجمعي. لقد مكّن من تطوير مجالات وخلق أخرى جديدة تزيد من تنمية الثروات لفئات محدودة من المجتمع ومن رفع إنتاجية السلع اللامادية ومن الخدمات البنكية والمالية. فكل مرة يبدع في خلق مساحة للتطور والتغلب على الأزمات.
لقد مرت أزيد من 100 سنة من الوجود، أبرز خلالها النظام الرأسمالي قدرته على استغلال الفضاءات وتحويلها إلى مجالات تحقق له قطاع آخر من أجل حصد مزيد من الأرباح وتعظيم الثروات لأقلية من المحظوظين/ات. لقد اتضح أن القدرات والمهارات الهائلة التي أحدثها من التطور والنمو لم تكن لصالح الجميع، أي أن النمو والتقدم لم يكن لجميع الشعوب والدول. يمكن اعتبار أن هذا النظام كان من بين أسوأ الأنظمة التي عرفها الإنسان ـبغض النظر على الكم الهائل من التقدم والتطورـ حيث عرف زيادة في عدد الفقراء والقتلى والمشردين والجائعين… لم يحقق العدالة والديمقراطية والحرية، بل أصبح يشجع على الاستبداد والتسلط والظلم خصوصا بعدما قلص من دور الدولة واستطاع أن يتحكم في مؤسساتها ومؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات المجتمع الدولي؛ لم يعد ذلك النظام الذي يشتغل في الأسواق فقط، بل أصبح الآمر والناهي في أمور الدولة والمجتمع. لقد تحولت الاحتكارات التي خلقها إلى قوة مستبدة تسيطر على القرارات السياسية؛ وتحولت القضايا الوطنية والشعبية إلى بورصات عالمية من أجل إنعاش تجارة الأسلحة والمخدرات وتجارة البيض وغيرها. لقد استطاع أن يقلّب ويوجه الرأي العام الوطني والدولي حسب ما تقتضيه مصلحته الاحتكارية الاستبدادية. لم يعد نظاما رأسماليا ليبراليا، بل أصبح نظاما احتكاريا سلطويا مستبدا.
لثد خلقت الاحتكارات الاقتصادية والمالية حفنة من المستبدين “الجدد” يسيطرون على أقوى الاقتصادات في العالم؛ كما تمكنوا من بسط نفوذهم على المؤسسات المالية الدولية والتحكم في القرارات السياسية والسيادية للبلدان. وما سرع هذا البروز هو الأزمات الأخيرة، حيث سرعت أزمة كوفيد19 عملية تنزيل مخطط القمع والاستبداد، وسرعت الحرب الأوكرانية الروسية من إفقار الشعوب. زادت ثروات المستبدين ومعها عدد الفقراء والمشردين/ات. لقد غيرت أزمات النظام الرأسمالي سلوك الفئة الاحتكارية من سلوك ليبرالي إلى سلوك استبدادي عنيف وقمعي، يخنق الحرية والديمقراطية التي تطلب بناؤها عشرات السنوات.
بالإضافة إلى الاحتكارات الاقتصادية والمالية، هناك الابتكارات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي التي هي بدورها تُستغل من أجل المصلحة الاستراتيجية للمستبدين “الجدد”. لم يعد بالإمكان للسياسي أن يؤثر على الفرد والجماعة إذا لم يكن في دائرة نفوذ المحتكرين للاقتصاد والمال والتكنولوجيا. نحن في فترة تتزامن فيها وثيرة التطور مع وثيرة التحول إلى أنظمة استبدادية.
تبرز الأحداث المتوالية أن العالم يتجه سريعا نحو نوع جديد من الاستبداد ونوع جديد من مفهوم الحرية. لقد أصبحت الحرية ترتبط فقط بالجسد كقطاع إنتاجي آخر للربح والاحتكار. وما مدى ازدياد أعداد الشركات المتخصصة في “التحول الجسدي” تحت شعار “الحرية الفردية” إلا دليل على قوة المستبدين الجدد في خلق رغبة لدى الأفراد بتغيير أجسادهم وتدجين سلوكهم تحت وهم أن من حقهم البحث عن شكل مثالي للجسم والعيش، وكذا البحث عن نموذج جديد من “الأسرة” أو عن نمط جديد للعيش المشترك. صحيح اختيار الجسد واللون والجنس (وغير ذلك) مقيد ومفروض منذ الولادة، لكن نستطيع أن نختار ماذا نريد أن نكون حتى وإن لم نغير من أجسادنا، ليس من الضروري البحث عن “مستبد” ليغير مما هو طبيعي وغير متحكم فيه. ولقضية المرأة نصيب كبير من هذا الظلم والاستبداد (موضوع آخر للنقاش).
تحديات كبيرة تنتظرنا. هل يمكننا كشعوب وأمم أن نبعد “المستبدين” الاقتصاديين والماليين والرقميين من السياسة، ونعيد للحرية والديمقراطية مكانتها كقيم بشرية صانعة وضامنة للعدل والسلام في العالم؟ هل يمكننا أن نجعل السياسة أقوى من المال والأعمال؟ هل يمكننا أن نجعل التطور التكنولوجي في خدمة الحرية والديمقراطية؟ هل الاستقرار والسلم ممكنان بدون حرية؟ هل الاستقرار والسلم ممكنان من دون كبح طغيان المال والأعمال؟ هل يمكن تحقيق السيادة الوطنية والسلام العالمي دون وضع المستبدين الاقتصاديين والماليين والرقميين في مكانهم الصحيح: الأسواق؟
المصدر: هسبريس