عائلاتُ ضحايا «بيروتشيما».. «ماتت» مع أبنائها وتحيا لـ«الثأر بالعدالة»
لم يغادروا زمناً غَدَرَ بهم. ما زالت عقاربهم تراوح عند السادسة و 8 دقائق من الرابع من أغسطس 2020، كأن الإنفجارَ «البركانيّ» في المرفأ يَحدث للتو. لا الدموع غسلتْ الدمَ المسفوك، ولا تَوالي الأيام والأشهر أطفأ الجمرَ المشتعل حزناً وإشتياقاً، ولا العدالةُ المعلَّقة في غياهب السياسة داوتْ الجروح. «عائلاتُ ضحايا إنفجار بيروتشيما»… يكاد أن يكون هذا العنوان «اليتيم» في الذكرى الثالثة للإنفجار الذي لا مثيل يضاهي حجْمَه وهوْلَه ودمارَه في العالم بعد هيروشيما.. التحقيقُ في «الإقامة الجبرية»، الدولةُ متواطئةٌ، الناس أتعبتْهم الأزمات، العالم متردِّد، والضحايا… ضحايا.
ومع مرور ثلاثة أعوام على الفاجعة الهائلة، المذبحة الجَماعية، المحرقة وأكثر، خرجتْ قضية «الجريمة والعقاب» من الشارع وإستمرّت خلف جدران البيوتات المسكونة بمأساة مزدوجة… فقدان الأحبة وفقدان العدالة، الأمر الذي يُبْقي الجرح مفتوحاً. ثلاثة أعوام على انفجار الرابع من أغسطس مرت ثقيلةً متخَمة بالآلام على عائلات الضحايا، قلبتْ حياتهم رأساً على عقب، نسوا معها كيف كانت الحياة قبل ذاك اليوم الهيروشيميّ وكيف كان يمكن لها أن تكون من دونه.
عائلات 4 ضحايا من بين 235 سَقَطوا في الانفجار المروّع التقتْها «الراي» وسألت أفرادها عن يومياتٍ طال ليلها ثلاث سنوات… كيف يعيشون الغياب والظلم واللا عدالة؟ كيف تبدّلت حياتُهم وكسا السواد ساعاتهم؟
جورج بازرجي، مواطن لبناني فَقَدَ في الإنفجار أغلى مَن عنده، خسر ابن شقيقته الشاب اليافع إلياس خوري الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره. هو ليس مجرد خال لذلك الصبي الباسم الذي صار رمزاً من رموز قضية تفجير المرفأ.
فهو الخال والجار والمربّي والصديق. يعيش عازباً مع والدته في المبنى نفسه المقابل للمرفأ حيث تقطن شقيقته ميراي وزوجها وولداها نور وإلياس. حين دوى الإنفجار كان قد استقل المصعد ووصل إلى الممرّ بين الشقتين، وبلحظةٍ إنهار كل شيء. بابا الشقتين اللذان سقطا عليه حمياه من الإصابة. إندفع إلى بيته ليجد والدته الكبيرة في السنّ مرمية على الأرض بين قطع الزجاج المتناثرة. ظنها ميتة، حَمَلَها وأَجْلَسَها ورَكَضَ نحو بيت شقيقته صارخاً «للّو» وهو الاسم الذي يطلقه على الياس تَحَبُّباً. وَجَدَ رأسه مطموراً تحت جدار وكان يؤشر بيده طالباً سحْبه من تحت الردم.
«أزلْنا الجدار» يقول جورج «ووجدْنا الجمجمة كلها محطّمة، عرفتُ أن حاله صعب جداً. وصل والده وصرخْنا طلباً للمساعدة من الشارع، ونزلنا كلنا، أختي وابنتها وأمي وأنا، إلى الشارع حفاة نستغيث بالناس. أشخاص أوصلوا الياس ووالده إلى مستشفى أوتيل ديو الذي إستغرق الوصول إليه ساعة ونصف الساعة، وكان الياس حينها قد دخل في غيبوبة.
ونور الصبية المصابة أرسلناها إلى المجهول لأن مستشفى الروم ما عاد قادراً على إستقبال الجرحى، ووالدتها إلى مستشفى آخَر بينما حَمَلَني قريب لي وأمي إلى مستشفى ثالث بعيد عن منطقة المرفاً.
في الطريق تلقيتُ إتصالاً ان ابنة أختي مشلوحة أمام مستشفى تنزف ولم يتم إستقبالها بعد بسبب كثافة الجثث والإصابات. عدنا أدراجنا ووجدناها تنتفض وكأنها على شفير الموت، حملْناها وذهبنا بها إلى المستشفى الذي كنا نقصده. نجوْنا، لكن إلياس لم ينجُ. صَمَدَ لأيام ثم رحل… هل أقول نجونا أم أننا بتنا موتى أحياء وفقدتْ الحياةُ كل معنى لها بالنسبة إلينا؟». يروي جورج بازرجي الأحداث وكأنها وقعت لتوّها.
لا يغيب عن باله تفصيل واحد عن تلك اللحظات التي إمتدّت لساعات وأيام وسنوات. لا يمكنه أن ينسى الصوت والعويل والجثث والأشلاء على الطرق: «حياتُنا كئيبةٌ صارت. لا نخلع اللون الأسود، لا نضحك أو نحتفل أو نعيّد من أجل إلياس. كلمة واحدة نردّدها»يا ليته «أَفْلَتَ» مثلنا. أنا أتناول المهدئات يومياً لأتمكن من الإستمرار. أختي ميراي تعيش كأنها ميتة. هي أم كئيبة تُجاهِد للذهاب إلى عملها والإستمرار من أجل ابنتها، لكنها لا تعرف الفرح ولن تخلع الأسود حتى المماة.
أما بسام والد إلياس فما عاد ذاته وحاله تدمي القلوب. نور لم تُنْهِ علاجها بعد، والجدة الثمانينية ما زالت تخضع لجراحاتٍ لإزالة قطع الزجاج من جسمها وعينيْها، كلنا لم نستطع تخطي رحيل إلياس، فقدْنا الضنا وانطفأ الأمل كلياً. العائلة تركت بيتَها وإنتقلت إلى منزل آخَر علّه يساعد على تخفيف الألم، لكن النسيان مستحيل، وحياتُنا لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه حتى لحظة المماة. ولن ننسى الياس، طفلنا الذي سرقه منا المجرمون وقتلوه وهو جالس في غرفة نومه. هو أكثر من ألم وحزن على فقدان عزيز. هو عَتَبٌ وغضب لا بل حالة تتخطى كل هذه المشاعر لتتحوّل نقمة عارمة: ليتني أستطيع أن أحاسب بنفسي الذين يتغاضون عن الحقيقة والعدالة. لا أحد يسأل أو يسائل والجمرة لا تكوي إلا مكانها. هم يعيشون ونحن أموات….
أجود شيّا، والد مفجوع فَقَدَ ابنه الوحيد في انفجار مرفأ بيروت. يعرّف عن نفسه قائلاً: أنا والد الشهيد البطل المعاون جواد شيّا«. كان يعرف أن ابنه حين التحق بالجيش اللبناني صار مشروع شهيدٍ، لكنه ما أراد له أن يُقتل على يد مجرمين مجهولين. كان يفضّل»لو إستشهد في الجنوب اللبناني في مواجهة العدو.
جواد وحيد على ثلاث شقيقات وهو عمود البيت كما يقول والده:لقد تغيّر كل شيء باستشهاده. لم نعد ننام ليلة واحدة مرتاحين. لقد دُفنّا ونحن أحياء. والدته لا تكفّ عن البكاء حتى اليوم، وأخته الصغيرة رنا في حال صدمة. فالعلاقة التي تَجمع بين صغيريْ البيت كانت مميزة، وكان الجيران يعرفون بوصول جواد إلى البيت حين تتعالى أصوات الهرج والضحك بينه وبين رنا. أحاول أن أُخْرِج العائلة من جو الحزن لكن الحزن أقوى منا. لقد قتلوا أبناءنا وإغتالونا معهم. وحدها الحقيقية ربما تبرّد قلبنا قليلاً.
يؤمن الوالد المفجوع بأن الأعمار بيد الله لكن ما يحزّ في قلبه وقلب عائلته أن القيّمين على الدولة يحاولون تخليص المجرمين من العقاب. أولادنا دُفنوا مرتين، وأولاد المجرمين أحياء يرزقون. لكننا لن نسكت وسنُبْقي قضيتنا حية كما أن أولادنا أحياء في قلوبنا. لكن كل نزول إلى الشارع وكل مطالبة تعمّق في نفسنا الحزن والحقد. حزن على شهدائنا وحقد على المجرمين والدولة التي سمحتْ بجريمة كهذه.
شادي دوغان كان يعيش في كنف والديه حياة هانئةً قبل ذاك الرابع من أغسطس حين إستشهد أخوه محمد نور دوغان. منذ تلك اللحظة تغيّر كل شيء وفقدت الحياة معناها بالنسبة لشادي وأهله. كارثةٌ حلت بهم ودمّرت كيانهم فباتوا يعيشون»كأنهم أموات.
ويقول شادي: أنا موظّف في مرفأ بيروت وكذلك أخي محمد. كنت قد أنهيت دوامي وغادرتُ المرفأ فيما كان هو قد وصل ليبدأ دوامه بعد الظهر. حين دوى الإنفجار وأدركتُ أنه في المرفأ، عرفتُ أن أخي قد إستشهد. ركضتُ إلى هناك لأبحث عنه وصرتُ أدور من باب إلى باب في محاولة لدخول المرفاً، إلى أن وردني اتصال بأنه في مستشفى المقاصد. وحين وصلت إلى هناك رأيته جثة هامدة. ومنذ ذلك الوقت ونحن نعيش في عزاء دائم. أمي تنظر إلى صورته على الهاتف وتُناجيها، تتكلم معه وتبْكي، تسأله عن حاله وتخبره كم إشتقات إليه. أنا فقدت الأخ والزميل، فهو كان زميلي في العمل، نتحادث نتشاور ونبني أحلاماً. واليوم كلما مررت من هناك من حيث إستشهد للذهاب إلى عملي، أراه واقفاً، أمامي أحييه وأكمل طريقي. والدي الذي خضع لجراحة القلب المفتوح يعاني وبات متعلقاً في شكل كبير جداً ويعاملني كما لو كنت طفلاً ويخشى أن يفقدني أنا أيضاً.
لا يبالغ الأهل حين يقولون إنهم لم ينسوا وأن الذكرى ما زالت متوقدة فيهم كما لو أنها اليوم. فكلهم يشعرون بما يفوق الحزن وألم الفراق، هم مشبعون بنقمة تفوق الوصف: حرمونا أخي، الدولة الفاسدة الكاذبة المجرمة حرمتنا شاباً في مقتبل العمر وأب لابنتين. لا نستطيع أن ننسى وكأن الإنفجار قد حصل اليوم. لا متهَم، لا موقوف بل إستهتار وتعتيم. الغضب داخلنا كبير ولن يخفف منه سوى معرفتنا بمَن إرتكب بحقنا تلك الجريمة. أخي لن يهدأ له بال في قبره إلا إذا عرفتُ من قتله، لكن الخوف أن تمرّ الجريمة ويمر غيرها بعدها دون محاسبة.
شادي يرى شقيقه في المنام كأنه ما زال حياً فيحدّثه ويعبّر عن شوقه إليه. لكنه حين يستيقظ يتذكر انه مدفون تحت التراب:لقد هنأوني لأنني وجدتُ جثة أخي وإستطعت دفنه فيما غيري لم يجد إلا أشلاء لأحبائه أو دفن نعوشاً فارغة.
ليتهم يدفنون أهل المنظومة كلها فلا أحد منهم أغلى من ظفر أخي.
إيلي أندون لم يشأ أن تنطفئ ذكرى أخيه شهيد المرفأ جو أندون. علق له صوراً عملاقة في أمكنة كثيرة ليُبْقي قضيتَه حيةً ويطالب بالحقيقة. جو الشقيق الأصغر تزوّج وعاش في بيت واحد مع أهله، الأب والأم والشقيق إيلي. وأبناؤه نشأوا في كنف العائلة المترابطة الهانئة.
ويقول إيلي: جو كان يحب الحياة جداً، ينظّم المشاريع والإحتفالات، وحين رحل رحلتْ معه الحياة. إنفجارُ المرفأ تردّدت أصداؤه إنفجاراً داخل عائلتنا فتهدّمت من الداخل. لا فرح، لا حياة حتى ولا أحلام. فأنا لا أخرج للسهرات ولا أتخايل نفسي عريساً من دون أخي هو الذي كان يفترض به أن يكون إشبيني كما كنتُ إشبينه. في بيتنا الصغير ننام في غرف واحدة وسرير واحد، وبوفاته جزء مني إختفى. ثمة جرح داخلنا لم يندمل، فموته لم يأت عادياً بل إنه سُرق منا فجأة ولا نستطيع إكمال حياتنا في شكل طبيعي. الحزن لم يخفّ وغالباً ما أقول في نفسي ليتني أفقد الذاكرة حتى أنسى كل شيء.
أمام إيلي مَهمة يشعر بأنه مدين بها لأخيه، هو مديون له بالحقيقة»تلك الحقيقة التي صادَرَتْها عصابات البلد كما أزهقت أرواح الضحايا.
ديْنُه أن يحقق العدالةَ لأخيه علهما يستريحان وتستريح العائلة. فالأم المكلومة كما الأب المفجوع يعيشان حالة صعبة قاسية، الأم تتناول المهدئات علّها تعينها على التحمل ورمت كل ثيابها الملوّنة وَهَبَتْها للمحتاجين والتزمتْ السواد ملبساً لها. والأب تجمّد الزمن عنده، يفتقد الابن والرفيق والزميل.
جو كان يعمل مع والده في المجال نفسه ويمازحه في عمله ويتحدّاه. ويختم إيلي: نحن اليوم نعيش في العتمة بعدما كان جو نور البيت، لكننا مؤمنون ونستمر بالحياة قدر المستطاع وأملنا الوحيد ألا تنطفئ قضية جو ورفاقه وأن يبقى التفجير الإجرامي حاضراً في أذهان الناس. من حق الناس في لبنان أن يعيشوا ويفرحوا لكن ليس من حقهم ان يهاجموا قضيتنا أو ينسوا ان المجرمين لم يساقوا إلى العدالة بعد. فنسيان الجريمة يساعد المجرمين على الهروب والنجاة بأنفسهم.
المصدر: الراي