«شرق السودان»: حمى الوادي المتصدع.. الثروة الحيوانية في دائرة الخطر
بعد عودته من رحلة شاقة بريف محلية القنب والأوليب بولاية البحر الأحمر شرقي السودان طأطأ المساعد الطبي بمستشفى التقدم الريفي آدم حمد محمد رأسه وضرب كفي يديه ببعضهما مرتين ثم قال لـ « التغيير» : هي موجودة إلى اليوم «يقصد المساعد حمى الوادي المتصدع الشهيرة بحمى الإبل».
التغيير ــ ملاذ حسن
يذكر المساعد الذي يرتكز أغلب عمله على التحرك بمعينات طبية إلى أقصى الريف الشمالي بمدينة بورتسودان لمناطق نائية وموبوءة لإسعاف أهلها أول مرة نبه فيها الجهات المختصة بالولاية بوجود 50 حالة نفوق وسط أبل الرعاة بمناطق «كدويب، أبو نقارة، وتدروباي» بمحلية القنب والاوليب شهر أكتوبر العام الماضي ويضيف : «تجاهل المعنيين بالموضوع تحذيري بتفشي مرض غريب ولم تبدأ الجهات المعنية التحرك إلا بعد مرور شهرين و بعد فوات الأوان.
«تضاريس وعرة»
والقنب والأوليب تقع ضمن سلسلة حزام جبال البحر الأحمر التي تمتد شمال مدينة بورتسودان حتى محلية جبيت المعادن وغربا حتى ولاية نهر النيل و تتألف من جبال وتضاريس وعرة تتخللها قرى وتجمعات بشرية متناثرة هنا وهناك ، وهي غنية بالذهب وموارد أخرى وتنتج عوائد ضخمة لخزانة الدولة ويوجد بها سد أربعات المورد الوحيد لمياه الشرب بمدينة بورتسودان ، غير أن هذه الموارد لا تعود على انسان المنطقة بفوائد رغم اعطائهم نسبة 2% من العائدات ، وأهلها الذين اتخذوا من الرعي مهنتهم الرئيسية لا يزالون على حافة الفقر و بعيدين عن وسائل الخدمات والرفاهية.
و زارت محررة موقع «التغيير » ولاية البحر الأحمر منتصف مارس الماضي قبل اندلاع حرب 15 أبريل بين القوات المسلحة والدعم السريع، لكن ظروف الحرب حالت دون نشر التقرير في الوقت المحدد .
و يقول آدم حمد لـ «التغيير» : إزدادت محصلة نفوق الإبل في نوفمبر وديسمبر 2022 قبل أن يشير إلى وصول وفد من الخرطوم لأخذ عينات لكنه يواصل متأسفاً: «بعد أخذ العينات لم يعد الوفد إلينا بأي نتيجة أو لقاح».
و في نوفمبر الماضي وصلت 8 حالات إصابة بالحمى من منطقة تدروباي إلى مدينة بورتسودان وتوزعت على مستشفيات «الموانئ، الأطفال، الحوادث» وتوفي منها 3 مواطنين بينهم طفل. ويكشف حمد لـ «التغيير » عن انتقال عدوى الحمى من الإبل إلى الرعاة، ويقول مسترسلاً: «مدير الخدمات الصحية بالمحلية ظل يقوم برفع التقارير لكن الجهات المختصة في الولاية والمركز تأخرت في رصد ورفع الحالات».
«حمى الوادي المتصدع»
منذ سبتمبر 2022 تفشت حمى الإبل المعروفة بحمى الوادي المتصدع في مناطق البحر الأحمر وسط إبل الرعاة، وبسبب بُعد المناطق التي تنتشر فيها حميات نزفيه أخرى وملاريا وغيرها مع ضعف الخدمات الصحية فقد مئات الآبالة حيواناتهم نتيجة النفوق فيما هربت بعضها خوفا بعد رؤية نفوق الأخرى. حمى الوادي المتصدع «RVF»، مرض حيواني فيروسي يصيب الحيوانات، ولكنه يمكن أن يصيب البشر أيضًا، وغالبية الإصابات البشرية به ناتجة عن ملامسة دم، أو أعضاء الحيوانات المصابة أو لدغات البعوض المصاب أو شرب حليب الحيوان وأكل لحمه، و تتسبب في حالات وفيات و حالات إجهاض للحيوانات التي تصاب بالحمى بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل الإسهال والإفرازات الأنفية، وبحسب «WHO» فترة حضانة المرض تبدأ من 2 إلى 6 أيام مع أختلف الأعراض.
تعتيم متعمد
في نوفمبر من العام 2007 أشارت منظمة الصحة العالمية إلى وجود أكثر من 220 اصابة بشرية بحمى الوادي المتصدع في السودان توفت منها ما يزيد عن 80 حالة وحذرت من انتقال المرض من السودان إلى بلدان أخرى بواسطة قطعان المواشي .
ومرة أخرى في نوفمبر 2017 أعلنت منظمة الصحة العالمية عن وفاة أكثر من 160 شخص في ولايات النيل الأبيض وسنار والجزيرة بعد تسجيل بعثة ميدانية مشتركة ضمت منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية وبياطرة محليين عدد من الإصابات وسط الإبل، حتى أن منظمة الأغذية والزراعة العالمية قد عرضت ايفاد فريق من خبرائها في الصحة الحيوانية إلى البلاد لإجراء تحريات ميدانية معمقة.
كذلك في نوفمبر 2019 أعلنت وزارة الصحة الإتحادية في السودان عن تفشي الحمى بعد الإبلاغ عن 345 حالة اشتباه بينها 11 حالة وفاة في ولايات البحر الأحمر ونهر النيل والخرطوم، والنيل الأبيض، وكسلا، والقضارف.
وفي 2020 عاود المرض الظهور في الولاية الشمالية لكن الحكومة ظلت تنفي وجوده، حتى أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الذي يخوض حرباً حالية ضد الجيش السوداني خرج حينها في حديث جماهيري لينفي وجودها قائلا: «ليس لدينا مرض حمى الوادي المتصدع في السودان، ليس لدينا على الإطلاق».
ويأتي سبب انكار الحكومة المستمر بسبب تأثير ظهور الحمى على صادر السودان من المواشي خاصة للسعودية ومصر اللتان تلجأن إلى ايقاف استيراد الحيوانات من السودان لحين التأكد من خلوها من المرض في مثل هذه الأوضاع.
ومنذ سبتمبر العام الماضي تفشى المرض تحت سمع وبصر السلطات الرسمية في ولايتي البحر الأحمر والشمالية لكنها أما أن تواجهه بالإنكار خاصة في بداية ظهوره أو تعلن عن احصائيات أقل عددا، إذ أن حديث الجهات المختصة عن تقصيها عن المرض منذ سبتمبر يتنافى مع افادات أهالي المناطق والمعاون الطبي عن تحركاتهم بعد اكتوبر.
ورغم استمرار انتشار المرض في الولاية ، أعلنت وزارة الصحة بالولاية ووزارة الثروة الحيوانية عن انتهاء المرض في الوقت الذي رفض بعض المسؤولين المختصين الحديث قائلين : الوباء انتهى ، و ما الداعي لإثارة الجدل حوله مرة أخرى، و أشاروا إلى «التغيير» بوجود غرض من الحديث عنه.
«نقل المرض»
قبائل هنكر وأبو نقارة وتقلهوش بمنطقة كدويب فقدت مابين «25 35» من الإبل بسبب الحمى، و يقول راعي الإبل أحمد محمد علي ــ 45 عاما ــ من منطقة كدويب لـ «التغيير» ،: إن المرض ظهر في ديسمبر الماضي وتفشى للدرجة التي جعلت الرعاة يستغنون عن لحوم وحليب الإبال ويستبدلونها بالأغنام و الضان، و كشف أحمد عن وفاة «4» أشخاص في ديسمبر و تلقي آخرون العلاج بمستشفى بورتسودان ، ويضيف أحمد أن إدارة الثروة الحيوانية وصلت المنطقة وطعمت الإبل باللقاح لكنه يعود ويشير إلى عدم شفاء بعضها ووفاتها حتى بعد تلقيها العلاج.
و ينهي أحمد كلامه برحيل أهالي كدويب إلى مناطق تملي ونوفرديب بسبب الجفاف وهو مايفتح التساؤلات عن احتمالية نقلهم المرض إلى المنطقتين.
زيارات ميدانية
بحسب الإدارة العامة للثروة الحيوانية فإن زيارات المسح الميداني لتغطية بلاغات النفوق وجمع عينات دم وسيرم، بدأت منذ سبتمبر الماضي في محليات «عقيق، طوكر ، دروديب ، هيا والقنب والاوليب» وشملت مناطق ممتدة حتى الحدود الإرترية في منطقة همبكتة بمحلية طوكر، كان محصلتها تطعيم عدد «2780» رأس من الإبل قام بها القسم البيطري بالإدارة.
فيما تم عمل مسوحات أخرى في أكتوبر قام بها فريق مشترك بين البيطري ووزارة الصحة الولائية استهدفت نفس المحليات عدا دروديب وهيا توجت بتطعيم عدد 3300 رأس من الإبل في القنب والاوليب، و2800 رأس من الضان والماعز بمحلية سنكات. أما نوفمبر فتم فيه تطعيم عدد 3300 رأس إبل في القنب والاوليب و3000 رأس من الضان والماعز في طوكر وعقيق.
بينما ديسمبر لقحت فيه عدد 466 ماشية في محلية هيا و130 في محلية كلانيب و2140 في جبيت المعادن و500 جرعة في سنكات.
«مبادرة طلاب على الخط»
حركت رابطة طلاب القنب والأوليب بجامعات البحر الأحمر 3 قوافل في الفترة من ديسمبر2022 وحتى فبراير 2023 لرصد حالات النفوق وحملت معينات طبية وتموينية للمتضررين الأولى تحركت في ديسمبر بالتعاون مع أعضاء مبادرة «شباب من أجل الريف “،وقصدت مناطق «شباتين ، توكسار، توملي، كجويب، هيت وسط، تومالح»، وبعدها في بداية فبراير 2023 واستغرقت ست أيام واستهدفت المناطق التي لم تغطيها الرحلة الأولى ، فيما قصدت الأخيرة التي تمت في نهاية فبراير بحسب استطلاعات قمنا بها مع الطلاب منطقة ايربا ــ أبعد منطقة في القنب ــ ومنطقة ولو.
ووثقت رابطة طلاب القنب والأوليب لحالات وفيات بلغت 551 وفاة من مناطق «كجويب، هيب وسط ،تومالح،شباتين توكسار وتوملي» في الرحلة الأولى فقط، فيما فقدت احصائية الرحلة الثانية والثالثة لكن الأولى وحدها أكثر من الحالات التي وثقتها الجهات الرسمية وفق المبادرة .
«الثروة الحيوانية تنفي»
«المرض انتهى وحالات النفوق المسجلة لدينا في الفترة من سبتمبر وحتى ديسمبر تبلغ 227 رأس فقط » كان هذا رد مدير الإدارة العامة للثروة الحيوانية بالإنابة بولاية البحر الاحمر هنادي حاكم ميرغني على «التغيير» و تضيف مشددة على عدم تأثير نفوق الحيوانات على الصادر.
وكشفت هنادي عن توفير 35000 جرعة من اللقاح على دفعتين بعد طلبها من المعمل المركزي للبحوث والأمصال بتمويل من وزارة المالية، وتضيف «مازلنا مواصلين في حقن اللقاحات التي تبقى منها عدد 2000 جرعة فقط».
وتنوه إلى أن تدارك مثل هذه الحميات والوقاية منها يتم بعمل رقابة دورية للحيوانات وتوفير لقاحات تطعيم بشكل مستمر، والتواصل الجيد بين الولايات والخرطوم ومع دولة إريتريا التي نقلت الحيوانات العدوى منها في الصيف واتت بالمرض في سبتمبر واكتوبر.
ورغم مرور مايزيد عن تسعة أشهر منذ اكتشاف أول حالة في البحر الأحمر، وتأكيد الجهات الرسمية المختصة على انتهاء الوباء إلا أن أصحاب الضرر أكدوا استمرار وجود الحمى مع تفشي حميات جديدة رصدتها «التغيير» في مارس الماضي بينها الملاريا الخبيثة وحمى الدينق، كما أن الحرب التي اندلعت قبل 4 أشهر في الخرطوم وولايات دارفور فاقمت من أزمة ولاية البحر الأحمر التي تعيش بعض مناطقها في الأصل أوضاعا سيئة . إذ أن انتهاء الوباء لن يعني انهاء مآسي أخرى تعيشها الولاية ، مثل عدم توفر مراكز صحية بالمناطق ولا خدمات لوجستية علاوة على موقع المحلية البعيد وقلة وعي المواطنين.
المصدر: صحيفة التغيير