لماذا تترصع أحاديث المجتمع المغربي بعبارات الحنين إلى “زمان بكري”؟
ما الذي يعنيه المغاربة في حقيقة الأمر عندما يستعملون مصطلحات من قبيل “زمن بكري” و”ناس بكري” و”القاعدة”؟ تحللُ هذه المفاهيمَ ورقةٌ بحثية للباحث إسماعيل الراجي، ضمتها دورية “ليكسوس” المتخصصة في التاريخ والعلوم الإنسانية، انطلاقا من الذاكرة الجماعية القروية لساكنة منطقة الغرب.
وتذكر الورقة أن مفهوم “زمان بكري” يتردد على ألسنة الساكنة المحلية بمنطقة الغرب، ويعد “من أشهر المفاهيم ترددا في الثقافة الشعبية”، وهو “بين أشهر التيمات في الحديث اليومي في السرد الشفوي، ومن خلال تردد الروايات الشفوية التي تتداول أحداث ووقائع وقضايا تخص الماضي القريب”.
ويفيد المعنى الإجمالي للمصطلح، وفق الورقة البحثية، “الأيام الأولى” و”الوقت المبكر”؛ وهو زمن له أناسه ومريدوه هم “ناس بكري”. ويتأطر “زمن بكري” بمجموعة من الأحداث المعلومة تاريخيا؛ ومن أهمها “عام الجوع”، “عام الرجوع”، “عام الحرث”، وغيرها من “السنوات المعلومة في الإسطوغرافيا المغربية”، التي تهتم بها أعمال، من بينها مرجع المؤرخ عبد الأحد السبتي “من عام الفيل إلى عام الماريكان”.
ويؤطر البحث هذا المصطلح واضعا إياه في سياق عرف فيه “المجال المغربي، مثل باقي المجالات العالمية، تحولات اجتماعية وثقافية وديمغرافية، تباينت نتائجها”، وأهم تحول رُصد في القرن العشرين، الذي عرف سيرورة تحول المجتمع المغربي من المجال القروي نحو المجال الحضري.
هذا الواقع كانت تعتمل فيه “تركة الازدراء الممارسة من قبل المعمرين على الأهالي وحالة الاستلاب والتقليد الثقافي وما حمل منها في الذهنيات المحميين والمتشبعين بفوقة الآخر، وهي إحدى التركات الثقيلة لسياسة الاحتلال في المغرب، حيث لغة الآخر (حضارة) واللغة الأم (تخلف) وهلم جرا من أشكال الاستلاب، لا سيما أن أشكاله تجذرت بفعل ما قام به دهاقنة الاحتلال ما قبل الجلاء إذ كرسوا جهدا مضنيا من أجل تحقير الثقافة المغربية وطمس هويتها المتصدية لمشروع الاحتلال”.. إذن، فقد “خلخل الاحتلال الفرنسي الإسباني البنية الاجتماعية والذهنيات بثقله العلمي، والتقني، وأسلوبه، وتنظيمه، وكل أشكال قواته الناعمة”.
ويرى الباحث أن معالم وخصائص “زمن بكري” في الفهم الاجتماعي تتحدد بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وثمانينيات القرن العشرين؛ “فمن هذا التاريخ تستمد الذاكرة الجماعية للأجيال التي عاشت شطرا من عمرها أو هي هي، قلبا وقالبا نتاج ثقافة الماضي القريب، وهي جوانب عديدة تتعلق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذا التاريخ، توظفه الذاكرة الجماعية كمرآة تقارن من خلال بعض أوضاع اليوم التي هي طبعا لا ترقى في وجدان كل متيم بزمن بكري مع أوضاع الماضي القريب، أو قل زمن بكري الذي يعد بشخوصه وثقافته أحد المساهمين في تشكل المخيال الاجتماعي”.
وعن معنى ما يتردد على لسان الجيل المسن في الحياة اليومية من استحضار “زمان بكري”، تقول الورقة: “الحديث هو في حقيقة الأمر، ضمنيا ذم ونقد لمآل حال وصلنا إليه في الزمن الراهن، أو حنين لماضٍ تحرك فيه الوجدان”، وتتابع: “زمن بكري في المخيال وذاكرة الجيل المخضرم (ناس بكري) الذي عاش بضع سنوات من آخر ذلك الزمن؛ هو زمن يتميز بكل القيم الحميدة؛ كالكرم والشجاعة والصبر والتلاحم… إنه (الزمن الجميل) أو (الزمن المتميز)، الذي ميز ثقافة زمن الآباء والأجداد وآبائهم”، والزمن البكري عند “المسنين الذين يعيشون عمرهم الثالث هو الزمن المفقود”.
وفي حديث عن “الذاكرة الجماعية في منطقة الغرب، من خلال المناسبات الدينية والاحتفالية وغيرها من العادات والتقاليد التي تدعو الناس إلى الالتقاء”، يكون “تاريخ الماضي القريب حاضرا بقوة، فكل ما يتعلق بزمن بكري يستحضر بشخوصه وعاداته وتقاليده ورمزيته”؛ ومن ثمّ “حينما يتم الرجوع للذاكرة من خلال الرواية الشفوية التي يتم الرجوع فيها إلى ذكريات زمن بكري؛ تفاصيل دقيقة، يمكن استنطاقها من أجل النفاذ إلى ثقافة التفاصيل اليومية، التي كانت”، ولو أنه قد يختلط فيها “الحقيقي، والوهمي، والأسطوري”.
هذا الاستحضار عند هذا الجيل لـ”زمن بكري” يُظهر، حسب الورقة، “حقيقة الاغتراب الذي يعيشونه في المجتمع، حيث لا يبهجهم ما عرفه المجتمع من تحولات (عميقة) تتعلق بالحياة الاجتماعية في كل جوانبها”؛ وهي فئة تستبطن حنينا “لكل شيء يخص الحقبة (…) التي عاش فيها المجتمع القروي عموما، في كنف العادات، والتقاليد التي كانت بمثابة محارة تحمي المجتمع، وتنظم حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”.
هذا الزمن كانت تحكمه “القاعدة” التي تلزم الجميع، بمن فيهم نخبة المجتمع القروي المحلي. وتهم جميع مناحي الحياة من “صبّ الشاي” وصولا إلى “مصائب الموت”، ما يخيم في الحديث عنه اليوم هو “حديث الذاكرة”؛ لكن “هذه الذاكرة ليست ذاكرة فرد، بل هي ذاكرة الجماعة. إنها ذاكرة الفرد حين ترتبط بمحطة من محطات الحياة، وتصبح أسيرة تلك المحطة التي تمثل في اللاشعور الجمعي محطة نموذجية، ولو لم تكن كذلك بمعيار المقارنة. هي نموذجية بمنطق الاقتناع، ومنطق ذاكرة الجماعة”.
وانطلاقا من هذا الاستنتاج قاربت الورقة البحثية سؤال “لعبة الذاكرة” في إطار الرواية الشفوية “التي ربما تعيد تركيب حوادث الماضي وفق اعتبارات معينة”، قبل أن تجمل قائلة: “من خلال عملية الإصغاء للرواية الشفوية المتداولة في المنطقة، التي تتردد باستمرار من قبل بعض الأفراد في الحياة الاجتماعية الذين نتقاطع معهم في مواقف الحياة اليومية، نستنتج أن هناك قاسما مشتركا بينها، وهو في جلها تغلّب حقبة زمن بكري بما لها وما عليها من مناقب ومثالب، يتم فيها تغليب الجوانب المشرقة بينما تغيّب فيها الجوانب المظلمة التي عاشها المجتمع خلال تلك الحقبة”.
المصدر: هسبريس