الأكاديمي أفاية يحتفي بالفنان عبد الكبير ربيع.. معلم نبيل وهادئ مبدع
في غمرة الاحتفال بموسم أصيلة الثقافي الرابع والأربعين قدم المفكر محمد نور الدين أفاية شهادة بمناسبة تكريم الفنان عبد الكبير ربيع، واصفا إياه بالمعلِّم بالمعنى الكلاسيكي النبيل للمُعلم، الذي قام بهذه المهمة، شبه المقدسة لديه، بكثير من التواضع وكرامة ثابتة.
وقال أفاية، في الشهادة التي تلاها على هامش موسم أصيلة وعنونها بـ”عبد الكبير ربيع أو الهدوء المُبدع”، إن لوحات ربيع، على الرغم من السكينة الداخلية التي تبدو على صاحبها، تختزن توترًا عميقًا، وتعكس إيقاعات يصر على جعلها إيقاعات راقصة، يُضَمِّنها موسيقى داخلية يحرص، في كل مرة، على تغيير موازينها، ونبراتها، وأصدائها.
وأضاف أن ربيع يلح على منح لمساحات لوحاته حياة، وحركات داخلية كثيرا ما تبدو مستعصية على فكِّ شفراتها، وأبعادها، ودلالاتها، كما يلاحظ موريس أراما، وكما ينتبه إلى ذلك عدد من الذين كتبوا عن أعماله.
وهذا نص المقال:
كان عبد الكبير ربيع يُمثل بالنسبة لي هيئة، وموقفا، ومُنجزًا في الآن نفسه، وذلك قبل أن أتعرف عليه شخصيا. وأمَّا لمَّا انْتَسَجَت الخيوط الأولى للصداقة بيننا، فإن هذه الصورة البعيدة اتخذت أبعادا وامتدادات مغايرة؛ وأضحت الصداقة حينها، وكما قال باولو كويلو، كلمة ثمينة جدا لا تقال لكل إنسان.
التقيت بعبد الكبير ربيع، مباشرة، سنة 1989 بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، حين طلب منِّي الأستاذ حسن الصميلي إعطاء درس حول الجماليات لطلبة المدرسة. ذلك أن هذه الأخيرة كانت تعيش وضعا مُترديًا والتَمَست السلطات الوصية عليها من حسن الصميلي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك آنذاك، أن يسهر على إعادة تنظيمها، مؤسسيا وبيداغوجيا، وضخِّ ما يلزم من التجديد لكي تستعيد أدوارها التكوينية. وقد كلف حسن الصميلي كلا من مليم العروسي وعبد الكبير ربيع للقيام بهذه المهمة. وفي هذا الإطار طلب مني إعطاء درس أسبوعي لطلبة المدرسة، قبل أن أنتقل رسميا إلى هيئة التدريس بالكلية ابتداء من سنة 1991.
ويتعين الاعتراف بأن الأستاذ حسن الصميلي مَنَح لمؤسسة كلية الآداب، في المغرب، أبعادا متجددة جعلها تتجاوز المقررات والبرامج التكوينية الكلاسيكية، التي كانت سائدة حينها في كليتي الرباط وفاس في بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ حين قرر إدخال حيوية غير مسبوقة على شُعَبها وفضاءاتها، وجعل من الفنون والتنشيط الثقافي مداخل مُحَفزة على التكوين، واكتساب المعرفة والمهارات، والانفتاح على مختلف حقول الإبداع؛ ولم يتردد يوما في استقبال كل المشاريع التي تخول لكلية الآداب الجديدة الانخراط في حقول الفن والإبداع كافة، من مسرح، وتشكيل، وسينما، وفن الفيديو، والموسيقى، وغيرها من الفنون. ولعل العديد من مبادرات الرجل لا تزال شاهدة على الزخم الذي أطلقه عند تحمله مسؤولية العمادة؛ وقد كان لافتا، منذ بداية تعيينه، أن يطلب من كبار الرسامين المغاربة، في تلك الفترة، التطوع لرسم لوحات على حيطان الكلية وإدخال ألوان، وخطوط، وأشكال إبداعية على فضاءات الكلية ومدرجاتها وأقسامها. وقد استجاب عدد كبير من هؤلاء الرسامين مثل محمد شبعة، محمد بناني، عبر الرحمان رحول، عبد الرحمان الملياني، عبد الكريم الغطاس وغيرهم. وشكلت هذه التجربة مبادرة ثانية بعدما كان قد تم تدشين هذا الأفق الإبداعي للرسم المغربي من طرف موسم أصيلة الثقافي بقيادة محمد بنعيسى ومحمد المليحي سنة 1978.
في سياق الدرس الذي كنت أقدمه بمدرسة الفنون الجميلة تعمَّقت علاقتي بمليم وبعبد الكبير. وهنا صارت الصورة البعيدة التي كنت أحملها عن ربيع تتخذ أوجها جديدة، وسمح لي الاحتكاك المباشر به أن أبدأ في الاقتراب من عالمه، سواء من زاوية هيئته، أو موقفه، أو منجزه؛ وأن أشرع، من جهتي، في ممارسة الإصغاء والانتباه إلى أن شغفا كبيرا بالتربية، وبنقل المعرفة، وبتحفيز الطلبة على التعلم، والمغامرة في الإبداع يُوجه تدخلات ربيع.
عبد الكبير ربيع مُعلِّم بالمعنى الكلاسيكي النبيل للمُعلم. كان هكذا وسيبقى. وقد قام بهذه المهمة، شبه المقدسة لديه، بكثير من التواضع الذي يُخفي قناعة داخلية، وكرامة ثابتة تعبر عن ذاتها بصمت؛ وحين يأخذ الكلمة فإنه يقوم بذلك بشكل محسوب ومُقتصِد، لدرجة يشعر فيها المرء أن التواصل مع الآخر، عنده، كيفما كان هذا الآخر، مسؤولية أخلاقية عليا.
ولعل هذا النمط من التواصل المسنود بمسؤولية أخلاقية هو الذي ميز عبد الكبير ربيع في تجاربه التعليمية والبيداغوجية، سواء في الدروس التي كان يلقيها في مؤسسات التعليم العمومي أو في مدرسة الفنون الجميلة أو في “إجازة الفنون التطبيقية”، التي تأسست في كلية ابن امسيك ابتداء من تسعينيات القرن الماضي.
وهي نفس المسؤولية الأخلاقية التي تنيره في تعاملاته المختلفة مع قاعات العرض، ومع النقاد والصحفيين والباحثين وغيرهم. لذلك يُعبِّر عبد الكبير ربيع عن ذاته دوما، كهيئة وكموقف، بوصفه فنانا وإنسانًا لا يحركه في ذلك أي وَهْم لاستقطابك، أو ترويضك، أو التأثير عليك، اللهم إلا إذا بدا له في الأمر صوابًا، واهتدى إلى أن الآخر يمتلك ما يلزم من الشروط الذاتية لتقبله والبناء عليه.
لعل العديد ممن كتبوا عن المُنجز التشكيلي لعبد الكبير ربيع يعرفون أنه جرَّب أغلب أشكال الرسم والصباغة، تشخيصية كانت أم تجريدية. وقد أبدع في هذه الأنماط باحثا فيها عمَّا يتلاءم مع تساؤلاته الخاصة عن الوجود، والحياة، والموت، والأثر، والآخر. ويُلاحظ أن لوحات ربيع، على الرغم من السكينة الداخلية التي تبدو على صاحبها، تختزن توترًا عميقًا، وتعكس إيقاعات يصر على جعلها إيقاعات راقصة، يُضَمِّنها موسيقى داخلية يحرص، في كل مرة، على تغيير موازينها، ونبراتها، وأصدائها، حتى وإن ارتمى، منذ مدة ليست قصيرة، في عوالم الأسود بتموجاته وتمايلات خطوطه، مُلحا على أن يمنح لمساحات لوحاته حياة، وحركات داخلية كثيرا ما تبدو مستعصية على فكِّ شفراتها، وأبعادها، ودلالاتها، كما يلاحظ موريس أراما، وكما ينتبه إلى ذلك عدد من الذين كتبوا عن أعماله.
وعلى الرغم من اختياره للأسود، الذي وجد في مختلف تجلياته ما يسعف في ترجمة التساؤلات التي تشغله وتقلقه، فإن ربيع يعتبر أن انفتاح الفعل الإبداعي على سؤال الظلّ يجعل منه نظاما فكريا قابلا للرؤية، أو “قابلا لكي يُعْرض على النظر”، كما يقول. غير أن الأمر ليس بديهيا تماما لأنه يستدعي موقفا زاهدا أو نَسكيا مشفوعا بنوع من نكران الذات، والصرامة، والتعمق، والجَلَد، كما يقول. وليست هذه المدارج أو الشروط التي يتطلبها الفعل الإبداعي معطاة لأي كان، أو لأي فضولي يسعى إلى الارتماء في متاهات الصباغة، لأن العقول المُشبعة بالمُثُل وحدها، في نظره، يمكنها تصور خوض هذه المراهنة.
يتعلق الأمر عند ربيع، وكما يُقر بذلك، بنداء داخلي يتطلع إلى تحرير التوترات العميقة وغير المتوقعة التي تؤجج النزوع القوي لتشكيل عرْض على سطح اللوحة، مهتديا بعناصر تصنع كثافة تلغي ما يسميه بـ”التمايزات والأساليب الوسيطة”؛ وذلك لخلق أثر قوي اعتمادا على عنصرين بقدر ما يبدوان متطرفين أو متنافرين، فإنهما متكاملان، وهما: المضيء (الناصع)، والمُعْتم (الغامض).
ولا يحصر ربيع جدلية المضيء والمعتم في الإنجاز التقني، أو يختزلها فيما يمكن اعتباره أثرًا، وإنما هي تركيب مفهومي متحرك، يُنشط الأهواء على الدوام، وانطلاقا منه يهفو إلى التعالي كل رسام مبدع؛ بل أكثر من ذلك، لا يرى ربيع في توترات المضيء والمعتم سوى مقولتين تؤسسان للمجال أو للفضاء، وطريقة لا تقل توترا في المعالجة لتحويل ما هو خارجي وتشغيله بطريقة يكشف بها عن ذاته وعن وجوده، وعرض خصائصه. فما يهمه في الرسم وما يسعى إلى طرحه، بالأساس، يتمثل فيما يسميه بـ”ضوء الروح”، يهتدي به في ليْلِها العميق، حين تنهض الحياة الداخلية وتنتفض لترتمي في التأمل لدرجة تجعله يشعر بنوع من السُّكْر داخل حال من الانفعال والروحانية تصل إلى درجة التسامي الصوفي. ويتأتى ذلك بفضل ترتيب سنَد يُهَيئه بعناية، كما يقول، ويحافظ على صفائه لكي يحوز ما يلزم من شروط خلق الأثر المدهش للظل، وذلك في سياق عملية جسدية وروحية تسمح بالتبرم من الحواس، وتتعقب مصادر النور وما لا يمكن توقعه في الفعل الإبداعي.
يقول ربيع في لحظة اعتراف إن “عملي الفني يتحدد بوصفه رسمًا، وما يميزه هو الأداة والفرشاة، وترتيب العلاقة بين النظرة واليد”. هكذا وبفضل الشرط الرُّباعي المتمثل في نكران الذات، والدقة، والتعمق، والجَلَد، يعيش ربيع رَسْمه ويُنتجه ويَعرضه بطرق “دائما ما تكون محسوبة لكي يجعل من الآخر مشاهِدا spectateur، رائيًا، فضوليًا، عاشقًا للفنون البصرية”، كما يقول عبد الكبير الخطيبي؛ بل ويضيف هذا الأخير أن ربيع، ولكي يصل إلى هذا الاختيار، يستبعد كل نظرة فولكلورية، بحيث إن تموقعه فيما بعد النزعة الاستشراقية يجعله مندرجا ضمن مسار الرسم الحديث منذ بول كلي، وكاندنسكي، وماتيس، وآخرين اكتشفوا “شرقهم الداخلي”، واستلهموا الضوء من جهة الآخر وبفضله. والآخر، هنا، منظورا إليه باعتباره جسدًا، ومجتمعا، وثقافة، وتراثا. وينسب هذا الأخير، عند الخطيبي، إلى الأب Patrimoine بمقدار ما ينسب إلى الأم Matrimoine.
وكلما سعى ربيع إلى إنجاز عمل جديد يخلق فراغا في ذاته، ويصير آخر غيره بحيث يعود، باستمرار، إلى “وحدانيته المُؤسِّسَة لكي يستمد منها قوة استئناف، وكأنه يخوض معركة ضد الخوف من اللامرئي”، كما يلاحظ ذلك الخطيبي.
هذا هو الرجل الفنان الذي مارس ويمارس حياته وفنه وصداقاته مستنيرا بأخلاقيات حرص، على الدوام، على استحضارها، ونَحَت لنفسه مسارا إبداعيا خاصا، مهتديا بمقولة قد تبدو مُفارِقة لكل من يرهن نفسه لعقلانية جافة، وهي مقولة أقرب إلى حكمة سقراطية يجهر بها من دون تردد: “إنني أرسم لأنني لا أعرف”.
لم ألْتَق بعبد الكبير ربيع بعد تجربتي معه ومع أصدقائنا الآخرين في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، وكلية الآداب ابن امسيك منذ تركتها وانتقلت إلى كلية الآداب بالرباط سنة 1995. كلٌّ منا انخرط في مساره المهني والإنساني والثقافي. ومرَّت سبع وعشرون سنة بدون أن نتواصل إلى أن هاتفته في أواخر السنة الماضية طالبا مساهمته في تنظيم ندوة دولية عن رسام عالمي كبير. أحْسَسْنا، هو وأنا، وكأن كل تلك المسافة الزمنية لم تقض على التقدير العميق الذي يُكِنُّه كل واحد منا للآخر، وتأكدت، أكثر فأكثر، أن الصداقة، كما قال كويلو، كلمة ثمينة جدًّا لا تقال لكل إنسان.
المصدر: هسبريس