سينمائية المكان في الأفلام المغربية.. تيمة التمرد والانسلاخ عن القرية
كازابلانكا هي المدينة المثالية للسينما، كانت وكر جواسيس في زمن استعمار المغرب، وصارت في زمن الاستقلال ملجأ فلاحين ينتقلون من اقتصاد الهبة إلى اقتصاد خذ وهات فيتبرجزون.
في الحالة الأولى، احتل الألمان باريس وصار الغيستابو يتحكم في كازابلانكا، ومع ذلك بقيت المدينة ملاذا لمناهضي النازية ونافذة لهم على المحيط الأطلسي للهرب إلى نيوينوزك في فيلم “كازابلانكا” 1942 من إخراج مايكل كورتيز. يبرز الفيلم زوجة فاتنة (أنغريد برغمان) مستعدة لإرضاء نزوات ضابط فرنسي فاسد لتحقق حلم زوجها بالحصول على فيزا إلى أمريكا. الفيلم مفخرة لأمريكا لا لفرنسا.
هكذا تمت في الفيلم موقعة الحدث في مكان ذي مردودية درامية. الحكاية بنت المكان الذي تجري فيه. تنبع الحبكة من المكان. لنحكي حكاية يجب أن نغرسها في مكان يؤثر فيها وتتأثر به. “ما نحتاجه لتشغيل الصورة هو سياق، سياق يمكن لامتداداته أن تتنوع” (مجموعة مو: “بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة” ص 75). تم تجذير حياة الشخصية في المكان. يمجد فيلم كازابلانكا الحلم الأمريكي لأن مخرجه من رواد الدعاية في هوليود خلال الحرب العالمية الثانية جسب تايلور فيليب في “قصف العقول” (ص 237). ولزيادة وقع الفيلم وأثره العاطفي، ظهر اللمثل همفري بوغارت رومانسيا بينما هو معتاد على لعب أدوار رجل العصابات الشرير.
في الحالة الثانية، تحتل كازابلانكا المساحة المكانية الأكثر حضورا في الأفلام المغربية. ينقسم المكان في الفيلم المغربي إلى بادية ومدينة، هناك الدار البيضاء وهناك باقي المغرب، والرابط بينهما حافلة مكتظة، دلالة على الهجرة القروية، دلالة على الفرار من الحقل.
ما هي الأماكن التي تتميز بالدراما العالية؟
احتل الجبل موقعا مركزيا في السرد القديم، الشفوي والكتابي. كان الجبل مكانا مركزيا في السرد الديني، مكانا مطهرا فيه مغارة عزلة وتعبد، ثم صاررت المدينة فضاء المتعة في السرد الروائي والسينمائي. إن المدن الكبيرة هي المقابل المعاصر للغابة وقانونها. وهذه هي صورة كازابلانكا في فيلم نور الدين لخماري “كازانيغرا” 2008، وهذا قلب وعكس لاسم المدينة لتصير الدار البيضاء هي “الدار الكحلاء”. كانت شوارع كازابلانكا ديكورا دراميا لا تزيينيا.
كان الجبل مقدسا يتحدث فيه الرب إلى نبيه. حسب يودي لوتمان “لم تكن الجغرافيا في العصور الوسطى تعالج بصفتها تخصصا علميا، بل بصفتها فرعا للأوطوبيا الدينية” (لوتمان، يوري: سيمياء الكون ص 134135). كان المكان عموديا؛ الإنسان في الأرض وعينه إلى السماء حيث الجنة. تغير الوضع وصار المكان أفقيا، لقد “زلزل القرن العشرون الإحساس بالمكان ونمّى الإحساس بالاغتراب” (بينيت طوني وآخرون “مفاتيح اصطلاحية جديدة” ص 651). يبدأ دراما الاغتراب في كازبلانكا من توزيع المكان. حاليا يعيش خمسة ملايين في نصف المدينة في عمارات مزدحمة، بينما يعيش حوالي 200 ألف شخص في النصف الباقي في فيلات واسعة.
هذا عنف مجالي بنيوي. يفترض الفرد البدوي مثلي أن العنف فعل استثنائي. هنا العنف عملة يومية وهو عنصر حاسم في الصراعات وفي حسابات الربح والخسارة… ينحفر في وجداني حذر عريق…
بينما كنت أصور فيلما قصيرا في حي شعبي في 2021 وأواجه صعوبات في تنظيم العمل، تطوعت ممثلة لتشرح لي فوائد تغيير المكان بهدف التصوير في مكان واسع مضاء لا زحام فيه، شرحت لها أن مكانا بهذه مواصفاته سيكون أقل درامية وستفقد قصة الفيلم معناها.
المكان في الفيلم هو ساحة معركة للحبكة.
أصرت الممثلة الغاضبة على أن كل الأمكنة تتشابه وطال النقاش. قلت: “يؤدي التجاور والزحام في مكان ضيق إلى صراع شديد”.
لم تقتنع الشابة وفجأة سألتها:
كم من مرحاض عندكم في البيت؟
لم تستطع الإجابة، كانت تسكن في فيلا ولم تجرب قط الإقامة في شقة صغيرة فيها مرحاض واحد ويجب انتظار الدور للدخول لقضاء حاجة بسيطة. لو عاشت هنا لعرفت ما معنى درامية المكان من ضغط لحظة الانتظار في مكان ضيق.
يعيش المهاجرون الجدد إلى كازبلانكا في الزحام. ومن هنا تبصم المدينة الغول على تحول قيمي لدى المهاجر. قيميا يصنف الكدح والادخار كحِكمة في البادية، بينما يصنف الاستمتاع والاستهلاك في المدينة الكبيرة كتعبير عن التفوق… كما ترمز المدينة إلى وعد الجنة ثم إلى العنف، وهو ما يبرر تحذير أْغنية الحسين السلاوي للواصلين الجدد إلى المدينة “حضي راسك يا فلان”.
من هذا المكان تتأسس حبكة كبرى: تتكرر في السينما المغربية تيمة التمرد والانسلاخ عن القرية وفيها اقتصاد محدود والهجرة نحو المدينة. التمرد على الأسرة الأبوية التقليديةالفردانية… وتتكرر تيمة صراع الأجيال.
خارج المكان، خارج الزمان، هناك العدم. ليس لدى الكاميرا ما تلتقطه.
إن المكان مدخل لتأريخ السينما المغربية. بدأ عقد سبعينات القرن العشرين بفيلم “وشمة” 1970 وانتهى بفيلم “أليام أليام” 1979. وكلاهما فيلمان يتتبعان شابين راعيين في فضاء بدوي. أما سنة 1990 فقد تغير المكان في أغلب الأفلام المغربية، صارت تجري في المدينة، تم الانتقال من تصوير الهجرة القروية إلى تصوير النتائج الاجتماعية لتزايد الهجرة والتمدن. للإشارة، تأسست السينما المغربية بفضل جهود المخرج محمد عصفور الذي نزح من البادية إلى الدار البيضاء حسب الفيلم الوثائقي التي أعدته عنه قناة الجزيرة.
إن تغيّر التوطين المكاني للشخصيات هو معيار حاسم. يَعتبر يوري لوتمان في فصل الفضاءات الرمزية أن “فهم الفضاء الجغرافي واحدة من الوسائل الأساسية التي يُنمْذَج بها الذهن البشري في الفضاء” (ص 131). لقد حدثت نقلة مكانية ورمزية في فضاء الفيلم المغربي، ولهذا تبعات على خصائص الشخصيات. انتقلت أحداث الأفلام من البادية إلى المدينة حيث يجري “حب في الدار البيضاء” (1991 عبد القادر لقطع). تعيش سلوى (منى فتو) حبا مائلا في كازابلانكا الدار البيضاء، يجري هذا الحب في شقق شواطئ حيث يحصل على نسمة حرية… للمكان قانونه. في المكان الجديد حوافز جديدة، تكسرت تابوهات الحب بفضل شجاعة شابة طموحة متحررة في مجتمع مصاب بالانفصام حين يتعلق الأمر بالعلاقات الرضائية. في مثل هذه الحالة كل فرد يمنع على غيره ما يُبيحه لنفسه. في المدينة الكبيرة، يضطر كل فرد للانشغال بشؤونه فيترك الآخرين بسلام.
المصدر: هسبريس