اخبار السودان

حرب جنرالات السودان… الخطيئة الأصلية «4»

 

حرب جنرالات السودان… (4)

الخطيئة الاصلية

مهدي رابح

⸨  صرخ د. بابيتي اكول وهو الأخ الاكبر للسياسي المعروف د. لام اكول أجاوين وأحد أوائل الأطباء البيطريين السودانيين موجها كلامه بلهجة شمالية قُحّة للنقيب, ضابط الاستخبارات العسكرية:” يا فلان… انت ما عرفتني؟” فرد عليه قاتِله مصوّبا الرصاص عليه مباشرة:” ايوة, دا عشان عرفتك.” ⸩

مقتطف من سرد الطبيب الراحل دكتور م ح ط والذي كان شاهدا على إحدى فصول الفظائع التي ارتكبها الجيش السوداني في جنوب السودان.

والحادثة المذكورة جرت عام 1967م في مدينة واو عاصمة إقليم بحر الغزال حينها, خلال الاحتفال بزواج أحد الموظفين الحكوميين من أبناء الجنوب.
ففي صبيحة ذلك اليوم وصلت رسالة الي كل الشماليين المدعوين بعدم الاستجابة للدعوة المذكورة او الانسحاب منها مبكراً لدواعٍ امنية, وفي منتصف الحفل تقريباً أطلق مجهول ما زخّة من الرصاص في الهواء بالقرب من الموقع وعلى إثره اقتحمت مجموعة من ضباط الجيش وجنوده مكان الاحتفال وقاموا بتصفية الحضور من النخبة الجنوبية وغالبهم من المهنيين والموظفين ولم ينج الا اثنان منهم فقط حسب الرواية.

……………………………………………………………

القصة الحزينة المنسيّة أعلاه تم التحقق من صحتها عبر مقارنتها من مصادر متعددة وذات مصداقية, وهي تمثل فصلا من تاريخ عنف الدولة السودانية وانتهاكها لحقوق مواطنيها الأساسية عبر منظومتها الأمنية والعسكرية المختلّة وعلى راسها الجيش, فلو كانت البلاد قد اتخذت مسارا تطوريا تصاعديا طبيعيا نحو بناء دولة المواطنة وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الانسان لكان مكانها المناسب هو صفحات الكتب المدرسية حتي تكشف ماضي القسوة والفشل والتخبط وتضع المحاذير امام الأجيال القادمة لكيلا يتكرر الخطأ مرة ثانية.

لكنها ليست هناك أقصد ضمن مناهج الكتب المدرسية وبالمقابل هي تمثل احدي الاف الأدلة التي تثبت ما اظنه الخطيئة الاصليّة احد جذور ازمتنا الماحقة, اي خطيئة التواطؤ الجماعي غير الواعي او ربما الواعي مع المذنب عبر التغاضي عن جرائم الدولة والعمل الحثيث لتركها مدفونة عمدا مع أشلاء الضحايا في غياهب النسيان, وخطيئة مشاركة النخبة المثقفة في الجريمة عبر عدم الفعل (Inaction) علي احسن تقدير.

فللبحث عن اثار ما يقارب المليوني ضحية لحرب الجنوب والتي امتدت الي جبال النوبة والنيل الأزرق والثلاثمائة الف ضحية لحرب دارفور لاحقا (هم مجموع ضحايا العنف المباشر بالإضافة لضحايا ظروف الحرب كالمجاعات والاوبئة وغيرهما) لن تجد جهدا بحثيا وتوثيقيا سودانيا يذكر, بل ابرزها وباستثناء اعمال نادرة جدا كالتقرير الذي شارك في تحريره الاستاذ يوهنس اكول اجاوين عن مأساة جبال النوبة, يرجع لجهود قامت به اما منظمات دولية ( تقرير منظمة العفو الدولية عن الحرب المنسية في أواخر التسعينات من القرن الماضي نموذجا) او مجهودات فردية كتقارير الموظف في منظمة العون الامريكية , السيد بورMillard Burr عامي 1993م و1998م والتي قدمت امام لجنة العلاقات الخارجية للكونجرس الأمريكي.

هل ضعف الإمكانات او البيئة الأمنية القمعية الخطيرة هما مبرران كافيان لعجز النخبة السودانية عن الكشف عن هذه الماسي بل وعن تناولها في الفضاء العام وامام الجمهور بما تستحقه من اهتمام؟ , ام أن الوسط الاجتماعي الذي تتشاركه هذه النخبة المدنية من الباحثين والكتاب والسياسيين هي علي علاقة مباشرة وترابط عضوي مع النخبة العسكرية المسؤولة عن هذه الجرائم وربما الكشف عنها سيصيب الجميع بوصمة عار ابدية سيكون من المستحيل التخلص منها. هل هذا تكرار لما حدث سابقا من هروب من بشاعة الماضي كما فعل غالب من اعاد كتابة تاريخ الدولة المهدية مثلا ؟.

هل تمت صفقة ما ابان التفاوض علي اتفاقية السلام الشامل CPA 2005 بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وقادة نظام البشير للتغاضي عن تلك الجرائم واهمال اهم اركان الاتفاقية المتمثل في العدالة الانتقالية وما تتضمنه من كشف للحقائق ومحاسبة للمجرمين مقابل تقاسم السلطة والثروة ؟.

هل نكران الجرائم السابقة وتزييف التاريخ يفسر استمرار السودانيين في التوهان في دائرة العنف المفرغة هذه ثم إعادة انتاج نفس الجرائم المروعة المرة تلو الأخرى؟. شخصيا انا علي قناعة تامة ان الإجابة علي هذه التساؤلات هي نعم وان ما يحدث اليوم من فظائع تقشعر لها الابدان خلال حرب الجنرالات ترجع جذوره الي هذه الخطيئة الاصلية بالتأكيد.

وكما يقول الفيلسوف الفرنسي والوزير والمنظر في العلوم السياسية اليكس دي توكفيل المولود عام 1805م:

“إن علاج أمراض الجيش لا يكمن في داخله بل في المجتمع”.

لا شك في ان اكثر الجرائم الجماعية ترويعا تجاه المدنيين في تاريخ عنف الدولة السودانية تم علي يد مليشيات مفوضة ومسلحة من قبل أجهزة الدولة, وهو ما يعكس عجزها الكامن في تصميمها الأولي المستهدف به أصلا القيام بمهام محدودة في سياق رؤية المستعمر ما قبل الاستقلال، ويعكس شكلا من اشكال استمرارية نمط الحكم غير المباشر الذي دُشِّن عام 1925م وما تضمنه من تفويض عديد السلطات والصلاحيات المركزية لما اسميتهم المستبدين الصغار من الزعامات الدينية والقبلية والذين ظلوا يديرون مناطق نفوذهم مع السكان بتراتبية وصرامة بالغة وعلي أساس مبدأ علاقة الوالي/الامير بالرعية, كما ان لا شك أيضا وبجانب اقتراف الجيش جريمة انتاج مثل هكذا مليشيات عبر تاريخه الممتد ومنذ الاستقلال فهو قد ارتكب أيضا جرائم جماعية مروعة وبصورة مباشرة ودون الاعتماد علي وكلاء من المجموعات المسلحة غير الرسمية والتي اتخذت أسماء متعددة عبر الحقب المختلفة من القوات الصديقة الي المراحيل والجنجويد وحرس الحدود والدعم السريع وغيرها.

بجانب جريمة توفير السلاح والغطاء الأمني للمليشيات غير الرسمية لتنفيذ عملياتها الوحشية التي تضمنت القتل والاغتصاب وحرق القري ومحاولات تقنين عمليات سلبها لممتلكات المواطنين (طُرح مقترح اولي لمشروع قانون غنائم الحرب لسد العجز في مداخيل الجنود الرسميين وغير الرسميين من قبل رئيس الحركة الإسلامية الحاكمة د. الزبير محمد الحسن في البرلمان عام 2013م) فان عديد الشهادات تشير الي انتهاكات متعددة مباشرة للجيش, ابرزها خلال حرب الجنوب ثم دارفور ولاحقا ومجددا جنوب كردفان والنيل الأزرق, والتي تراوحت ما بين القصف المدفعي والجوي علي المناطق المأهولة بالسكان (هنالك اتهامات باستخدام أسلحة كيماوية أيضا) الي عزل تلك المناطق ومنع دخول المساعدات الإنسانية اليها الي التخلص من الاسري والتعذيب والتهجير القسري بل ذهبت بعض الروايات الي قصص اشبه بالكوابيس كالالقاء ببعض المتهمين المتعاونين مع “العدو” من علي دكة الطائرات من ارتفاع الاف الاقدام او بقر بطون النساء الحوامل او التعذيب حتي الموت كما اشتهر به ما كان يحدث في غرف المبني التابع لاستخبارات الجيش في مدينة جوبا و المعروف ب”البيت الأبيض”.

كمثال لما ذكر في مثل هذه الشهادات والتي استندت علي إحصاءات أكثر تفصيلا والراجعة لفترة السياسات الجهادية لنظام البشير في بداية التسعينات من القرن الماضي كان الجيش يشرف بصورة مباشرة علي تدمير القري بواسطة قوات المشاة والطيران , وفرق الموت التي استهدفت القادة المحليين والاختفاء القسري للمثقفين وعمليات الاغتصاب الجماعي كما حدث في جبال النوبة حيث فاق عدد السكان المشردين من مواطنهم من اثنية النوبة في معسكرات النازحين عام 1992م المئة وستين الفاً.

وهو ما يحيلنا الي احد العناصر الرئيسية لحرب الجنرالات الحالية وما يفسر حجم الانتهاكات الكبيرة من قتل واغتصاب ونهب وتدمير الممتلكات والتقويض الممنهج للحياة المدنية من قبل الجيش وصنيعته الدعم السريع , أي عنصر مزيج انعدام السقف الأخلاقي وترسخ اليقين بالقدرة علي الإفلات من العقاب مهما عظمت الجريمة من جانب العسكريين وشبه العسكريين والثقة في ان المجتمع المدني علي الأرجح لن تتخطي مواقفه الشجب والادانة عبر بعض البيانات والخطب الرنانة ما دام الاولين يستولون علي السلطة بحكم القوة المادية والامر الواقع ويتحكمون في كل أجهزة الدولة وسلطاتها بما فيها تلك المعنية بالمحاسبة وإنفاذ العدالة.

الكارثة التي تحدث الان في السودان وما قد تتناسل عنه من كوارث اخري، بدأت مؤشراتها تتجلي بصورة متزايدة، كاتخاذ الحرب لطبيعة قبلية وجهوية واثنية أوسع، وانزلاقها الي اتون حرب أهلية، وما نراه من محاولات الجيش الاستمرار في نمط إعادة انتاج مليشيات جديدة للقيام بواجبها بدلا عنها ومواجهة صنيعتها الدعم السريع يؤكد صواب الجهود الساعية لإيقافها بأسرع ما يمكن كما يؤكد ضرورة إعادة بناء المؤسسة العسكرية علي أسس صحيحة وجديدة اهمها علي الاطلاق عقيدة تتبني منظومة قيمية تحترم حقوق الانسان الأساسية وتتقبل مبدأ المحاسبة والعقاب علي الأخطاء والانتهاكات وترفض مبدأ الإفلات من العقاب وتحترم الدستور وتلتزم بحدود دور المؤسسة العسكرية المهني الاحترافي دون التدخل في العملية السياسية وبالتأكيد دون القيام بإنقلابات عسكرية، والتي بدورها تعتبر انتهاكا يرقي الي مرتبة الخيانة العظمي في أغلب قوانين عالمنا المعاصر.

………………………

يصف بروفيسور اليكس دي ڤال نمط تصاعد موجات العنف وتراجعها في ورقته المنشورة عام 2016م ضمن دراسة تتناول حالات لدول اخري عدة بعنوان:

“السودان: نمط من العنف والنهايات غير المثالية.”

“الجرائم الجماعية المروعة في السودان لا تصل ابدا الي نهايات واضحة. الحروب الاهلية المتطاولة التي عاشتها البلاد وُسمت بحملات عسكرية كبيرة وتضمنت عمليات قتل وجرائم حرب واسعة علي يد القوات الرسمية وغير الرسمية أيضا. لأربعة مرات متتالية خلال الثلاثين عاما الأخيرة, فان عمليات من هذا النوع خلفت عشرات الاف القتلى من المدنيين ومئات الالاف الاخرين الذين قضوا نتيجة النزوح, الجوع والمرض.

كل فاصل من عمليات الجرائم الجماعية يحدث لأسباب مختلفة, عمليات كرد فعل علي التمرد مدفوعة بالخوف, تحقيق الطموحات الأيديولوجية او تفريغ بعض المناطق تمهيدا لاستغلال مواردها الطبيعية, لكنها بالمقابل فإن جميعها يشترك في نمط استهداف عرقي محدّد وتدمير لمجتمعات مدنية بعينها. كما ان جميع موجات العنف المتتالية المذكورة لا تصل الي نهايات واضحة, بل يتراجع حجم القتل بينما يتغير نمط العنف من مواجهة قطبية ثنائية الي نزاع فوضوي مشتت وغير منتظم.

كل ذلك مرتبط بالكيفية التي تنهَي بها حروب السودان, فجلّها يظل اما انتصارات غير حاسمة او غير مكتملة او اتفاقيات سلام غير مستدام, يتم عقبها إعادة تموضع سياسي مؤقت للفاعلين يؤدي الي التقليل من درجة العنف لحظيا لكن يظل السودانيون يعيشون تحت التهديد المستمر لانفجار موجات العنف والقتل الجماعي مجددا وفي أية لحظة.”

يتبع …

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *