من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ إضراب مزارعي الجزيرة (1946): يا للقرى المظلمة المضيئة
من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ إضراب مزارعي الجزيرة (1946): يا للقرى المظلمة المضيئة
د. عبد الله علي ابراهيم
في الذكرى الثانية والخمسين لانقلاب 19 يوليو 1971 للضباط الشيوعيين وذيوله المضرجة، أي ما تعارف الشيوعيون على تسميتها بـ”الردة”، رغبت أن يعرف جيل، بل أجيال، من أين جاء هؤلاء الشيوعيون. فهذه الواقعة عند هذه الأجيال تاريخ ما أهمله التاريخ. ومن المؤكد أن هذه الواقعة هي بداية تضعضع حزب الشيوعيين حتى صار شبحاً عن نفسه القديمة.
وتجدني في مخطوطتي عن “من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟” أرد نشأتهم إلى حالة سياسية وطنية جذرية ضد الاستعمار البريطاني أعقبت الحرب العالمية الثانية ومترتباتها. وكانت أبرز ظواهرها خروج قوى شعبية للقضية التي اقتصرت على صفوة الخريجين والطوائف والقبائل منذ نشأت في العشرينات.
وأعرض هنا لإضراب قل ذكره لمزارعي الجزيرة في 1946 كباب من أبواب تلك الجذرية السياسة التي تخلصت بها الحركة الوطنية من أسر الصفوة لها في اتحاديين واستقلاليين لتطرق أبواب نضال شعبي للاستقلال بمعان لا تقتصر على السيادة الوطنية فحسب، بل تشمل التحرير الاقتصادي والاجتماعي أيضاً.
وأريد للقارئ أن يقف عند نقطتين هما. الأولى: هي كيف أن إضراب 1964 كان بشارة بميلاد حركة المزارعين في 1953 بقيادة الحزب الشيوعي. والثانية: عن دور مؤتمر الخريجين في ذلك الإضراب في صدام مع زعماء الطوائف والقبائل. فلم يستسلم الخريجون للطوائف والانطواء تحت جناحها كما نعرف إلا بعد محاولات جادة لبناء قاعدة اجتماعية لهم مستقلة وسط الشعب بين المزارعين والعمال. وهي المساعي التي تعثرت وجاء الحزب الشيوعي ليسد مسدهم وليبني قاعدته الاجتماعية وسط نفس الجماهير التي غادر الخريجون ساحتها سراعاً إلى بيوت الطوائف من أنصار وختمية. وفي مكان آخر من المخطوطة عرضت لدور الحزب الجمهوري القيادي في ذلك الإضراب الذي كان الأستاذ محمود محمد طه يتلقى التقارير عنه وهو في السجن. وكان كاتب تلك التقارير عن الإضراب هو رفيقنا الجنيد علي عمر، عضو مركزية الحزب الشيوعي لاحقا، في طوره الجمهوري معلماً بمدرسة مدني الأهلية.
مرت بالأمس الذكرى الخامسة السبعون لرفع الإضراب الطويل لمزارعي الجزيرة الذي بدأ في 10 يوليو 1946 وانتهى في 2 أغسطس منه. وبذرة الإضراب كانت في اجتماع لمجلس قرية الطلحة ود الطريفي تعرض لمعاناة المزارعين إثر الغلاء الذي وقع بنهاية الحرب العالمية الثانية. وسبق للإضراب من نير ذلك الغلاء في الجزيرة عمال محالج الحصاحيصا (1938)، وعمال الشحن (1938)، وعمال المحاريث (1943)، وعمال الورش. (1946) كان عظمة النزاع بين المزارعين والشركة الزراعية (قبل أن تؤمم في 1950 بانتهاء عقدها) هو المال المعروف بمال الاحتياط. وهو مال تقتطع فيه الشركة 2% من دخل المزارع لتسدد منها ديونها عليه متى نشأت. وناقش اجتماع قرية الطلحة وجوب أن تصرف الشركة عليهم من ذلك المال لتلافي معاناة المزارعين التي أثقلت كاهلهم. وحملوا قناعتهم تلك إلى قرى مهلة وبورتبيل. وتناصرت القرى في تكوين وفد بمذكرة تطلب صرف مال الاحتياط مرفوعة إلى مدير الشركة وهو مستر جيتسكل. ولم يلق الوفد أذناً صاغية من جيتسكل فعبأ المزارعين (26878) للحشد في مدني في 10 يونيو للضغط من أجل المطلب.
وكان في اجتماع الطلحة ود الطريفي زعيم كامن هو مبارك أحمد دفع الله الذي لعب دوراً قيادياً في تلك التطورات. فهو الذي اشترى المصحف من مكتبة مضوي بمدني فأقسم عليه حشد المزارعين في المدينة بألا يرجعوا عن إضرابهم حتى تتحقق المطالب. وكانت الحكومة والشركة ملتزمتين بذلك القسم العظيم في مفاوضاتهما اللاحقة مع لجنة المزارعين حتى أدخلا مفتي الديار في هذا السياق للتحليل. وستبدأ الدورة الجديدة لحركة المزارعين بع 1946 من قرية معيجنة، ومن اجتماع عقد بها في 1953، وكان رأسه المدبر الأمين محمد الأمين. يا للقرى المظلمة المضيئة كما قرأت عن أحدهم.
تفاصيل هذا الإضراب مثيرة وتجدها في كتاب المحقق الضَرب صديق البادي “حركة مزارعي الجزيرة وامتداد المناقل” (طبعتان 1985 و1999). وتوسع في تاريخ الإضراب الدكتور البوني في رسالة ماجستير من جامعة الخرطوم. ولكن من أوضح جوانب هذا التاريخ الصراع الذي اكتنفه ودار بين الزعامات الدينية الطائفية ومؤتمر الخريجين (الذي صار وحزب الأشقاء بزعامة الأزهري وجهين لعملة واحدة). ولم أعرف قبلاً أن المؤتمر قد سعى لبلوغ بعض جماهير الريف متخذاً خطاً مستقلاً عن تلك الزعامات. فلم يكن المؤتمر مع الإضراب خطوة فخطوة فحسب (بما في ذلك رصد شيء من ميزانيته لدعم وفد المزارعين بالخرطوم)، بل كان واعياً أيضاً بالمنافسة مع تلك الزعامات وساعياً لكسر شوكتهم. ففي الصدد طلب من لجنة لمزارعين جمع توقيعات منهم تفوضه كالوكيل عنهم دون السادة الأعيان. وكان يضغط لاستمرار الإضراب حتى بلوغ كل المطالب بينما كان السادة (عبد الرحمن، الميرغني، الهندي، والعركي) يتحينون فرص المساومات والحلول الوسط لإنهائه بتشجيع من الإنجليز بالطبع. وسيكون مثيراً أن نعرف كيف ومتى كف أعضاء المؤتمرالأشقاء عن تقحم الريف مستقلين مزاحمين السادة ليقبلوا بالانطواء تحت أجنحتهم الحزبية: الأمة والوطني الاتحادي. وساق التطرف المؤتمرالأشقاء إلى خسارة المعركة فرجع المزارعون عن الإضراب بتحريض من السادة ونزولاً عند ما اتفق لهم من كسب في المفاوضات.
ومن نتائج الإضراب قيام هيئة تمثيلية للمزارعين أحست الشركة بضرورتها حتى لا تعيش بمعزل عن المزارعين فتُفاجئ بالصدام معهم. وكانت هيئة هيمنت عليها الشركة بصورة كبيرة. ثم قررت الشركة في 1952 أن تمنح المزارعين، وقد لمست نضجهم، هيئة لهم فيها شيء من السيطرة. فقامت هيئة المزارعين. وفي كلا الهيئتين كان للشيخين أحمد بابكر الإزيرق ومحمد عبد الله الوالي أدوار قيادية واصلاحية.
ونشأ اتحاد المزارعين في 1953 بقيادة الأمين احتجاجاً على تقاعس الهيئة دون ما استجد من معاناة المزارعين. وفرض الاتحاد نفسه على الحكومة بموكبه الشهير بميدان عبد المنعم (الأسرة) الذي توافد إليه المزارعون من أصقاع الجزيرة. وانفض المزارعون عن الهيئة واستقال أكثر أعضاء لجنتها. وما جرت الانتخابات حتى فاز الطاقم اليساري بأمانة الاتحاد: الأمين محمد الأمين ويوسف أحمد المصطفي وأحمد على الحاج، وعباس حمد دفع الله، وأحمد حاج مصطفى فارس.
وصدقت المغنية الرحمة حين قالت في الأمين:
اللمين (الأمين محمد الأمين) غنيلو
الدقدق مساميرو
ودقها الأمين في معيجنة كما دقها بابكر أحمد دفع الله في الطلحة ود الطريفي.
يا للقرى المظلمة المضيئة
في الذكرى الثانية والخمسين لانقلاب 19 يوليو 1971.. من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ الدكتور خالدة زاهر السادات
المصدر: صحيفة التغيير