إذا أراد الله شيئًا هيّأ له أسبابه
يقول الحق سبحانه: {وذكرهم بأيام الله} وفي هذا إشارة إلى ضرورة الاعتبار بأحداث التاريخ، والاتعاظ بتقلب الأيام بالناس، فليس المقصود من القصص والتاريخ المتعة بل العبرة، {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، وإن سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهي أحسن قصة تسرد، وأجمل تاريخ يروى، وأعظم أيام تذكر.
فالعبر التي تستخلص من سيرة النبي الكريم لكثيرة، وإن الحكم التي تستفاد منها وفيرة. وحسبنا وقفة سريعة مع عبرة عظيمة من هذه العبر، وحكمة بالغة من هذه الحكم، تفيدنا في فهم هذا الواقع الذي نعيشه، ونعيش فيه انكسار أمة الإسلام وضعفها، وتكاثر مصائبها، وتكالب أعدائها عليها، وتخاذل أبنائها، بل خيانة الكثير منهم، وتنكرهم لدينهم ولأوطانهم ولأمتهم. ما أدخل الشك في قلوب كثيرين؛ فاستسلموا لهذا الواقع الذي سيتبدل حتما، وخضعوا لهذه الحال التي ستتغير قطعا.
إن المسيطر على تفكير كثير من الناس، هو أن العالم في قبضة اليهود وحلفائهم الأمريكان، وأنهم يتحكمون في مصيره ومصير البشرية، وأن مؤامراتهم التي لا تنتهي، وقوتهم التي لا تقهر زعموا لا تسمح لنا بالنهوض من جديد، ولا تسمح لنا بالتطوير والتجديد!. وهذه جبرية ضالة، وسطحية عمياء في فهم الحياة، وتفهم مسار التاريخ. بل هذا جهل بقَدَرِ الله القاهر، وطعن في قدرته الغالبة!. وقد حدث مثل هذا في الزمن الغابر مع قبيلة عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فقال الله عز شانه عنهم: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون}.
إن الهجرة النبوية تذكرنا بقانون عظيم من سنن الله الجارية وقوانينه الحاكمة في الأمم والشعوب والمجتمعات والدول والحياة والتاريخ، عبر عنه العلماء بقولهم: (إذا أراد الله شيئا هيأ له أسبابه). فسنة الله الكونية أنه سبحانه يغير الحال ويأتي بالأمر شيئا فشيئا، بالتدرج لا دفعة واحدة، فيكون حدثا عابرا أو غابرا لا يهتم له الناس هو السبب لحدث عظيم يأتي بعده بسنين يهز الناس هزا، ويغير مجرى التاريخ.
فكم هي الأحداث التي تقع في دنيا الناس ولا يهتمون بها، ثم تتطور وتتطور، وينتج عنها أحداث جسام وتغيرات عظام!. ما كان أحد يتوقع أن تصل إلى ما وصلت إليه أو تبلغ ما بلغته!. وهذا القانون العظيم ذكره الله عز وجل في كتابه، فقال: {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}، قال الإمام ابن كثير رحمه الله مفسرا مقررا: “أي: إذا أراد أمرا قيّض له أسبابا، ويسره وقدره، {إنه هو العليم} بمصالح عباده، {الحكيم} في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده”. قال العلي القدير جل جلاله: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
من هذا السبيل هجرة سيد المرسلين عليه أزكى صلاة وسلام، فمن كان يظن أن خطوات بعض الرجال في صحراء الحجاز القاحلة ستغير الأرض؟!، ستغير البشرية؟!، ستغير التاريخ؟!، ستغير الإنسان؟!. لقد خرج رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه من مكة وحيدا طريدا إلا من صاحبه الصديق عليه الرضوان والسلام وخادمه، لا جيش، ولا أنصار، ولا أُبّهة، ولا تغطية إعلامية… والأعداء كثر، وهم أقوى وأظهر، ولكن هذا الخروج كان بداية النصر والتمكين؛ ولهذا لَما تكلم القرآن العظيم على الهجرة تكلم على النصر: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}، ولما تكلم القرآن الكريم على الهجرة مرة أخرى تكلم على مكر الله، إشارة إلى تدبيره سبحانه وقدرته ولطفه: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
وعليه، فكم هي الأحداث التي تحدث في الآن، ولا ينتبه لها الناس!، ولا ينتبه لها المتكبرون في الأرض بغير حق!، ولا تنتبه لها الوكالات الاستخباراتية العالمية الإجرامية!، سيكون لها التأثير الكبير في المستقبل؟!. إنها بلا شك أحداث كثيرة وإن كانت صغيرة، ونتائجها ستكون قاهرة وإن كانت الآن غير ظاهرة. وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه ويسرها: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}.
* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة