في الذكرى الثانية والخمسين لانقلاب 19 يوليو 1971.. من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ الدكتور خالدة زاهر السادات
في الذكرى الثانية والخمسين لانقلاب 19 يوليو 1971.. من أين جاء هؤلاء الشيوعيون؟ الدكتور خالدة زاهر السادات
د. عبد الله علي إبراهيم
قيل إن الخطأ في السياسة مسموح إلا أن يكون كبيراً مهلكاً. وكان انقلاب 19 يوليو 1971 من الأخطاء الكبيرة وحال أن يكون القاضية المهلكة أن الحزب لم يتلاش بفضل شجاعة لكادره المتفرغ والقاعدي لم تكتب فصولها بعد.
وما كتبه سليمان حامد، السكرتير التنظيمي للحزب، منذ سنة أو نحوه عن استعادة الحزب بعد مذابح محاكمات الشجرة ومعسكرات اعتقال الشيوعيين وأنصارهم على نطاق السودان، صفحة عجيبة من تلك المأثرة. ولكن ما عاد الحزب، قدر ولطف، حتى أصابه داء المحافظة في ما عرف بـ”حفظ بقية الشيء”. فلم تتسم عودته بالمثابرة بجراءة على التغيير الذي عصف بها على بلادنا منذ ميلاده. فلم يخرج بعد عودته إلى الفتوح الاستراتيجية في جبهة الفكر التي تكشفت له بعد ثورة أكتوبر. فظل على شجاعته السياسية في طلب الديمقراطية بروتين محفوظ وفدائية. ثم جاءت زعازع المعسكر الاشتراكي فقد بأثرها الماركسية إلا تجملاً ومواطنته في الطبقة العاملة والكادحين بلا وازع.
أحاول في مخطوطتي “من أين جاء الحزب الشيوعي؟” أن أجدد النظر في الحركة السودانية للتحرر الوطني (1946)، حستو، نواة الحزب الشيوعي. فبتاريخها وحده يفهم المرء أن قيام الحزب كان ضربة لازب سياسية واجتماعية وفكرية في حين يعده الكثيرون “صرعة” فكرية إن لم يكن عمالة خفافيش ظلام مدفوعة الأجر. وهذه العقائد عن الحزب عار ثقافي لصفوة البرجوازيين الصغار الذين انتهيت إلى القرار بأن إضرابهم الأزلي عن قراءة نص الحزب لم يمنعهم من إصدار الأحكام عنه بيقين إبليسي.
أحاول في هذه المخطوطة بيان وطنية الحزب الشيوعي بعرض سيرة أفراد من الجيل المؤسس لحستو وبيان كيف وقع كل منهم عليها في مناخ الجذرية الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان جيلاً سقم دوران السياسة صراعاً عقيماً بين الوحدويين والاستقلاليين قاصراً على الصفوة الدينية التقليدية والخريجين. فخرج من تحت مظلته المستقلة إلى الشعب يستنهضه من فوق النقابة وغيرها لتحرير البلاد بمصطلح ثوري مبتكر. وباسترداد حستو إلى تاريخ الحزب نستدبر تقليداً في النظر إليها جعلها خلفية كيف كان للحزب الشيوعي في أحسن الأحوال إن لم تكن مجرد “جاهلية” بددها نور تحول الحزب الشيوعي عنها إلى ما هو عليه.
وفي هذا الفصل نعرض لسيرة المرحومة الدكتور خالدة زاهر أول من التحق بحستو عام نشأتها في 1946 وما جاء بها إليها من واقع معاناة في طلب العلم وطلب الحب معاً. وحررت الفصل من مقال معرب ومميز كتبه أخوها المرحوم أمير زاهر السادات فأحسن رحمه الله.
في ملابسات الجذرية السياسية بعد الحرب العالمية تقدمت خالدة زاهر، الطالبة بكلية الطب، بطلب للانضمام لحستو في عام تكوينها نفسه، 1946. وجاءت كأنثى في مجتمع مسلم بفتوح في السياسة والخطابة والحب والزواج أربكت مجتمعها وأثارته. ولم تأتِ خالدة إلى هذه الفتوح عفواً. فنشأت في أسرة كانت قد تصالحت بطليعية مرموقة مع التغييرات الاجتماعية التي القت بثقلها على مجتمع استشومها تجملاً وهو يعرف أنها جاءت لتبقى، وأن مسألة قبولها في نفسه مسألة وقت لا أكثر.
كانت خالدة بِكر زاهر سرور السادات الذي انطبع استحقاق المرأة في نفسه من نشأته. فولد زاهر في يوم معركة كرري (أول سبتمبر 1898) التي قتل فيها والده سرور السادات الذي كان هاجر من دارفور مجاهداً في صفوف المهدية. وقامت بتربيته والدته ككثير من النساء اللائي ترملن بعد كرري بفقد الزوج. فلم يطرأ له أن المرأة ناقصة أي شيء. ولم يكمل تعليمه الذي بدأه بمدرسة أم درمان الأميرية لشغبه وبعض أصدقائه بوجه معلم مصري. فرأى المفتش في تعديهم على المدرس تمرداً على الحكومة. وقرر تبعاً لذلك أنه وزملاءه غير صالحين للتعليم النظامي. والحقهم بالجيش ليؤدبهم. وفقد زاهر والدته يوم تعين بالجيش. وكانت آخر من تبقى من أهله ممن حصدتهم حروب المهدية. وعوض عن حرمان التعليم النظامي بالتوسعة في الاطلاع في السياسة والتاريخ خاصة بصورة عصامية. وتوثقت علاقته في هذا السبيل بالمؤرخ كاتب الخليفة عبد الله محمد عبد الرحيم الذي فتح مكتبته له ولغيره. وانخرط في حركة اللواء الأبيض السرية.
ومن فوق هذا التكوين ثقة في المرأة وحساً بحرمانه من التعليم بالأمر فتح زاهر باب التعليم على مصراعيه لخالدة. فدرست في مدرسة البنات الابتدائية الوحيدة بحي الموردة أمام دار الرياضة وكان اسمها مدرسة “بسميلا”، أي مدرسة مس ميلر الابتدائية. ومنها انضمت إلى مدرسة الإرسالية المتوسطة التي أدارتها الكنيسة الإنجليزية. ومبناها الآن مستشفى التجاني الماحي للأمراض العصبية على شارع الأربعين. وتفتحت شهية خالدة للتعليم صُعداً بتشجيع مدرساتها في المتوسطة. فرغبت في دخول المدرسة الثانوية بعد اكمال المتوسطة في 1940. ولم تكن من ثانوية سوى مدرسة الاتحاد العليا الكنسية بالخرطوم المخصصة لبنات الجاليات. وعارضت الأسرة تلك الرغبة استنكاراً لخلطة بنتهم مع بنات الخواجات النصرانيات. بل عقدوا اجتماعاً بنادي الضباط بالحي لمناقشة الأمر. وتندروا من زاهر “العايز يطلع بتو مفتشة”. وضغطوا على والدها، الذي كان بفرقة من الجيش بجنوب البلاد، كي يوقف بنته عند حدها. واقترح أفضلهم أن تتوقف خالدة حيث كانت من التعليم وتصبح بالأحرى مدرسة اعتباراً لفصاحتها المشهودة. وكانت خالدة كتبت لأبيها تطلب منه الموافقة. فبعث زاهر بخطابين إلى أم درمان. شجع في الأول خالدة على مواصلة تعليمها. أما الثاني فكان إلى عمها محمد العجب لمرافقة خالدة إلى المدرسة والقيام بإجراءات التسجيل. ولم يكن العم راضياً. ولكنه جرجر قدميه متثاقلاً. ولم تكن المدرسة نفسها قد استعدت لاستقبال طالبة سودانية محض. ولكن تصادف أن الصحفي أحمد يوسف هاشم كتب في السودان الجديد مقالات عن تعليم البنات (أو عدم تعليمهن). وذكر في معرض بؤس حظهن في التعليم وجود مدرسة ثانوية واحدة ليس فيها طلبة سودانية واحدة. وبدا أن المدرسة انتبهت لتلافي النقص الذي ذاع في الصحافة فأرسلت بخطاب القبول لخالدة. وواصلت خالدة الدراسة حين كان والدها في جبهة الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا في العلمين. وتخرجت في المدرسة بشهادة مميزة.
رغبت خالدة في دراسة الطب بعد تأهيلها لتدخل كلية غردون التذكارية. وثارت معركة جديدة. وكان والدها قد عاد من جبهة الحرب مما أخرس أصوات المعارضة في الأسرة لقراره في تأييد رغبة خالدة. ولكن لم تكن الكلية هي الأخرى قد استعدت لتعليم فتاة فيها. وتأخر ردها بقبول خالدة. تُبدي وتعيد. وأعد زاهر من جانبه العدة لها لتسافر إلى مصر لتتلقى تعليمها العالي بها إن ماطلت كلية غردون. ولكن معلمين تقدميين من مدرسة الاتحاد عملوا بقوة لقبولها بالكلية. وجاء خطاب القبول من الكلية وسبق سفرها لمصر. وكان عام 1946 هو تاريخ دخول أول طالبة سودانية من الأهالي مضمار التعليم العالي والمهني.
واجهت خالدة بعد القبول عقبات لوجستيكيةً. فليس بالكلية داخلية للبنات مما كان سيجعل دراستها بكلية دوامها لا ينقطع بين مدرجات الدرس والمستشفيات مستحيلاً. ووجد زاهر الحل في اقامتها بظهرانيّ صديقه الأميرالاي حسن الزين وزوجته فاطمة محمد عبد الرحيم. فتقيم معهم سحابة الأسبوع وتعود للموردة يوم العطلة.
لم يكن 1946 عام اختراق خالدة للتعليم الجامعي فحسب، بل لاختراق ساحة السياسة مضمار الذكور أيضاً. فأنشأت خالدة مع رفقة لها هن محاسن عبد العال وفاطمة طالب “جمعية الفتيات الثقافية” لتعزيز تعليم البنات وإثراء حيواتهن. وتدرجت من ذلك الشغل الإصلاحي إلى شغل التغيير بالالتحاق في نهاية الأمر بالحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) عن طريق محمد محجوب عثمان، أخ عبد الخالق محجوب الأكبر، صديق شقيقها أنور. وتعرفت بسكرتيرها الدكتور عبد الوهاب زين العابدين وزَيّن لها، كما محمد محجوب عثمان، الانضمام للحركة. وكانت أول امرأة سودانية تنتمي بالبطاقة إلى حركة سياسية هي حزب سياسي سري اختياراً.
ولم تتأخر في دفع ضريبة هذا الانتماء. فقدمها الحزب في 1948 لتتحدث في ندوة بنادي الخريجين ضد الجمعية التشريعية التي كان النادي ساحة مقاومة لها بالندوات والتظاهرات. وحيا الجمهور حديثها بالهتاف الدواي. فاعتقلوها. وكان كل ذلك جديداً ما كان على البال: أن تتحدث امرأة إلى ندوة رجال لم تكن النساء يرتدنها ناهيك من مخاطبتها. وكان اعتقال امرأة بواسطة الحكومة حدثاً مربكاً أثار الثائرة. وكان والدها آنذاك سجين حرب ببيت عتليت بفلسطين قريباً من تل أبيب. وتولى عمها عثمان متولي إجراءات إطلاق سراحها بضمانة. وكانت الشرطة أسعد طرف بإطلاق السراح ذلك من غيرها للتخلص من الحرج. ثم جرى اعتقالها مرة ثانية في 1952 إثر تظاهرة طلابية في الحرم الجامعي. ونصحها عمها متولي أن تؤجل السياسة إلى يوم تتخرج. ولكنها واصلت أدوارها السياسية وتخرجت في 1952.
ولم يكن تخرجها كأول طبيبة في 1952 اختراقها المبهر لذلك العام، بل أردفته بآخر أيضاً. فتزوجت بمن تحب غير حافلة ولا وجلة. فكانت انعقدت بينها وبين زميلها في حستو، عثمان محجوب، آصرة محبة وتعاقدا على الزواج. فأثارا شعواء العنصرية. فما تقدم لخطبتها حتى خرجت تلك الشعواء من دغلها. فكانت أسرة عثمان محجوب من قبيلة الشايقية لم تر في خالدة كفأ له وهي فوراوية من غير العترة العربية. واعترضت أسرة خالدة من جانبها لأنهم لم يرغبوا في المصاهرة مع شايقي ورادوا تزويجها، وهي سلسلة طبقة ضباط الجيش، من ضابط وابن ضابط لا من مدرس لا هنا ولا هناك. كان لكل شخص أجندته. ولم يكن هنالك في الواضح موضعاً للمشاعر الشابة للطرفين. أما والدها، الذي كان يكن احتراماً شديدا لمحجوب عثمان والد خطيب خالدة، فالتقى بمحجوب وأكملا خطط الزواج بالرغم من اعتراضات أعضاء الأسرتين. ولم يحضر أي من أعمام خالدة حفل الزواج كما لم يحضره عدد كبير من أفراد أسرة عثمان، بل أنهم قاطعوا والده والأقربين من أفراد أسرته طوال السنوات التالية”. وفي سياق هذه الريادة للمرأة في السياسة والمجتمع تناصرت خالدة مع محاسن عبد العال وفاطمة طالب لتكوين الاتحاد النسائي السوداني وصارت خالدة رئيسه الأول.
انتهينا في دراستنا للمؤسسة الحزبية إلى الاقتصار على زعيمها السياسي أو لجنتها المركزية في أحسن الأحوال. وبدا الحزب بهذا النهج وكأنه خيمة يخشها ناس بلا ملامح ولا زعزعة وجدانية اجتماعية أسهدتهم. فلا تجد من أرخ لحستو من سيرة أعضائها الذين بدا هم من اخترعها من فرط أرق الروح والبحث عن سبيل جديد حين انسدت السبل القديمة ولم تتنزل عليهم من مركز.
المصدر: صحيفة التغيير