هل تمتلك الرواية العربية قراء عقلاء؟.. السرد موضوع للتفكير في روح العصر
1
صدرت أخيرا الأعمال النقدية للمعلّم الأول الأستاذ أحمد اليبوري في جزأين عن مكتبة “المدارس” بالدار البيضاء (2023)، وتشكل بالنسبة للقارئ المغربي والعربي مرجعا لا محيد عنه لفهم ما يميز السردية العربية تأليفا وتصوّرا.
أود في هذه الورقات أن أقف عند قضية شغلت بالَ الأستاذ أحمد اليبوري وجعل منها محورا لأبحاث قاربت علاقة الرواية العربية بالتراث السردي الكلاسيكي، وبمختلف التقنيات في كتابة السرد وابتداع الحكايات.
اهتمّ أحمد اليبوري، في مجمل أبحاثه، بمناقشة بعض القضايا التي أثارتها نماذج روائية ونقدية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتركيزها حول تجليات الجنس الأدبي واللغة الروائية وإضافات المتخيل بوصفه خطابا ثقافيا واجتماعيا، أي بوصفه خطابا معرفيا انبثقت عنه ما اعتبره اليبوري مؤسسة الرواية.
يبدو لي أن مفهوم مؤسسة الرواية مركزي، من خلاله اهتم اليبوري بتحليل أهم القيم الثقافية والاستيطيقية التي أنتجها المجتمع في علاقة بمؤسساته الثقافية السائدة، وبتأثير من المؤسسة الثقافية الغربية. بهذا الصدد، أتصور أن مفهوم مؤسسة الرواية، وبالتحديدات التي منحها إياه اليبوري، ينفتح على سؤالين:
لماذا كان المجتمع العربي (المصري والشامي أساسا) مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في حاجة إلى جنس أدبي جديد هو الرواية للتعبير عن أوضاعه وأحواله، أي في حاجة إلى ذوق أدبي جديد يخرجه من مواضعات أساليب بلاغية أضحت جامدة ومتكررة؟
أما صيغة السؤال الثاني فأستعيرها من الإيديولوجية العربية المعاصرة للأستاذ عبد الله العروي: ما هو الشيء الروائي في مجتمعاتنا؟
أتصور أن هذا المسعى الذي يجعل حاجة المجتمع للجنس الأدبي منفتحة على مؤسسة الرواية وعلى الشيء الروائي الذي فرضه المجتمع العربي لم يكن منفصلا عن مشروع النهضة المبشر بعَهد اجتماعي جديد وزمن إبداعي مختلف ومغاير عن القيم الأدبية التقليدية. لقد كانت الرواية لحظة تكونها وتشكلها مؤمنة بجدوى التحرر من سلطة النوع الأدبي المهيمن، ومتطلعة نحو نوع أدبي منفتح وقادر على تجسيد قيم اجتماعية وثقافية وفنية وسياسية أضحت جلية في كتابات المفكرين والمبدعين على حد سواء. يستنتج أحمد اليبوري، بهذا الشأن أن مؤسسة الرواية العربية كانت مستجيبة خلال فترة تكونها، التي امتدت منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، لدينامية داخلية في علاقة مع النص الثقافي العام، ولدينامية خارجية تمثلت في المثاقفة، وعن طريق التفاعل بين هاتين الديناميتين برزت المعالم الأولى للإنتاج الروائي العربي الجديد.
2
يتأكد من هذا أن الكيفية التي اقترن بها تكون الرواية العربية إزاء سؤال النهضة تمثلت في دعوة المجتمع إلى تبني ثوابت التنوير والتحرر من قبضة التخلف، أي كما يقال في العادة الدعوة إلى الابتداع بدل الاتباع.
تنتمي الرواية إلى المجتمع. كل المجتمعات هي مجتمعات روائية.
كتب رولان بارت ذات يوم: المجتمع هو الذي يفرض الرواية.
معنى ذلك، أنه يفرض مجموعة من القيم بوصفها صيرورة وديمومة. وفي جميع الأحوال، فإن الرواية تتصل بأفق تحديث اجتماعي توافقه أشكال متنوعة من التعبير ومن التخييل وتنويع اللغات.
يقول أحمد اليبوري في صفحة مضيئة من بحثه:
“ومن الأكيد أن الانتقال من مؤسسة أدبية قديمة إلى أخرى جديدة يتم عبر صيرورة قد تستمر عقودا في بعض الأحيان، يتساكن خلالها، القديم والجديد، في علاقة توتر، بين هدم وبناء، استشرافا لأنماط أدبية جديدة. وقد كانت نهاية القرن التاسع عشر مرحلة قصوى لتلك الصيرورة إيذانا بالوعي بضرورة تحول نوعي أساس، على مستوى عدة بنيات في مقدمتها البنية اللغوية”.
تحدث العديد من الأدباء والنقاد عن مسألة اللغة، بيد أن حديث الأستاذ أحمد اليبوري عنها يحمل جملة من الإضافات ألمّح إلى أبرزها من خلال ما يلي:
حين يهتم اليبوري بالمكون اللغوي فإنه يعتبره مكونا مركزيا، لا يمكن الحديث عن مؤسسة الأدب أو عن الجنس الأدبي دون تحديد وظائفه ومستوى تطوره. يبدو هذا التصور مهما، لأنه ينظر إلى مسألة اللغة الأدبية ضمن سياق تاريخي وفكري يعيد تأمل سؤال الكتابة والقراءة وفق الاعتبارات الثقافية التي تجعل من لغة النص الأدبي ذات صلة بقيم واقعه ومؤسساته.
هكذا، يستدعي الاهتمام باللغة الأدبية فتح مجال التفكير حول ما تعرفه المجتمعات من تحولات: يحتاج الأدب، بين الفينة والأخرى وخلال هذه الفترة التاريخية أو تلك، إلى لغة أدبية جديدة، لأن المجتمع يحتاج إلى تجديد تصوراته حول الأدب. إن الوعي بتحولات اللغة الأدبية جزء من تحولات المجتمع ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
هذه تحديدات عامة، وإذا أردت التخصيص أتساءل:
هل استطاعت الرواية العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أن تساهم في تطوير أساليب الكتابة النثرية التي كانت سائدة آنئذ وابتكار وعي لغوي جديد؟
توضح القراءة المتأنية لأبحاث أحمد اليبوري أن الرواية العربية استطاعت أن تبتكر وعيا لغويا جديدا كان يوافق خصوصية النوع الأدبي، ويوافق الحاجة إلى امتلاك تصور جديد للأدب وللمؤسسة الأدبية. ويحيل اليبوري في السياق ذاته على آراء ومواقف جملة من الأدباء والنقاد: سليم البستاني جرجي زيدان إبراهيم اليازجي أحمد فارس الشدياق رفاعة الطهطاري محمد المويلحي روحي الخالدي.. معنى ذلك، أن الوعي اللغوي الذي أبان عنه النص الروائي العربي، منذ تلك الفترة المبكرة، قد صاحبه تداول معين لمفهوم الكتابة غير منفصل عن توظيفها لألوان من الموضوعات والأساليب فرضتها أذواق وذهنيات ضمن فضاء اجتماعي معلوم. يفضي هذا الاعتبار إلى نتيجة لعلها أساسية في سياق هذا الحديث:
كانت الرواية العربية، منذ اللحظات الأولى من تكونها، تنتمي إلى أفق النص الثقافي العام الذي يفكر في قضايا المجتمع.
كانت الرواية تمثل وتماثل خطاب الفكر.
3
من هذا المنظور، يعتبر بحث موضوع المتخيل في علاقته بقضايا تكون الخطاب الروائي العربي مهما للتعرف على خصوصية السرد وصيغ تداوله اجتماعيا وتاريخيا، وكذا بيان طبيعته: من اللاسرد إلى السرد أي من اللامتخيل إلى المتخيل، وبالتالي إعادة فهم المرجعيات التي تدفع إلى الاعتقاد بأن الخطاب الروائي العربي هو سرد متخيل من لقطات عابرة لبقايا الواقع تتصل بالمعيش واليومي والمنفلت والهامشي، مثلما تتصل باعتبار الغريب والعجيب جزءا لا يتجزأ من الواقع ذاته.
ولهذا السبب يصبح المتخيل الروائي إحالة وجودية أو فكرية على الراهن العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وتوقه نحو التحديث وإعادة تأسيس مفاهيم الأدب والاقتناع بجدوى الحاجة إلى أنواع أدبية جديدة؛ كان الخطاب الروائي العربي متمثلا لقيمة الحوار بين حضارتين: شرقية وغربية، أي خطابا متجها، بالأساس، نحو إصلاح المجتمع. بهذا المعنى، قد يكون المتخيل الروائي العربي قريبا من الخطاب الإصلاحي المنفتح على قضايا المجتمع رغم اختلاف درجات النضج الفني بين النصوص وتصورات الأدب ووظيفة الكتابة الملازمة لها. وحين نتطلع إلى تعيين بعض صيغ المتخيل في علاقته بمجالات الحياة يصبح هذا المتخيل منتميا إلى زمن اجتماعي يجسد وعيا ثقافيا وفكريا يحرره من سلطة النوع الأدبي الثابت. وهذا قول يجد صداه مثلا في حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي:
“وإن كان في نفسه موضوع على نسق التخييل والتصوير فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال مسبوك في قالب حقيقة حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم وأن نصف ما عليه الناس في مختلف طبقاتهم التي يتعين اجتنابهم والفضائل التي يجب التزامها (طبعة: دار الجنوب للنشر، تونس 1992 ص22)”.
هكذا يبدو أن انتماء المتخيل إلى زمن اجتماعي معين يستدعي سبلا من التلقي تكسبه صفة الاعتراف والشرعية. من هنا لا تتحقق بلاغة المتخيل إلا عبر وساطة القارئ، أي عبر ما يدعوه أحمد اليبوري بالذوق والأخلاق، ويمكن أن نضيف إلى هذه المفاهيم مفهوما آخر رافق تكون الرواية العربية وتحولات الثقافة في ذلك الإبان: إنه مفهوم العقل والوعي بحاجة المجتمع إلى عقلانية متنورة قادرة على تمثل قيم التطور والتحول.
سأبين أبعاد هذه العلاقة بين وساطة القارئ وحاجة المجتمع إلى عقلانية متنورة من خلال نص لجرجي زيدان. لنتأمّلْ:
“وأما أهل هذه النهضة فقد أكثروا من نقل هذه الكتب عن الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية، وهي تسمى في اصطلاح أهل الزمان “روايات”.. وقد رحب قراء العربية العقلاء بهذه الروايات لتقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد مما ألفه العرب في الأجيال الإسلامية الوسطى، نعني قصة الزيبق وسيف بن ذي يزن الملك الظاهر وبني هلال ونحوها، فضلا عن القصص القديمة كعنترة وألف ليلة وليلة، فوجدوا الروايات المنقولة عن الإفرنجية أقرب إلى المعقول مما يلائم روح هذا العصر فأقبلوا عليها (تاريخ آداب اللغة العربية، الجزء الرابع، القاهرة 1914 ص230)”.
هكذا تحدث جرجي زيدان عن ترحيب قراء العربية العقلاء بالرواية وكيف وجدوها أقرب إلى المعقول الذي يلائم زمانهم. وعلى هذا النحو كان الاهتمام بالرواية بوصفها موضوعا للتفكير في روح العصر بموازاة خطابات أخرى اقتصادية وسياسية وإيديولوجية.
كان ذلك في بداية القرن السالف، أما اليوم ونحن في قرن جديد، يحق لنا أن نتساءل:
هل مازال للرواية العربية قراء عقلاء يرحبون بها؟
المصدر: هسبريس