الأحزاب السودانية غياب فكرة أم حالة ضعف
الأحزاب السودانية غياب فكرة أم حالة ضعف
زين العابدين صالح عبد الرحمن
إن إشكالية الأحزاب السودانية تقع بين غياب الفكر والذين يشتغلون به، وضعف التنظيم وعدم تحديثه وتطوره، هذه الإشكالية سوف اتناولها في سلسلة من المقالات، والتي سوف تتناول أسباب حالة الضعف في جسد الأحزاب.
ولا اجنح إلى التشعب في فتح ملفات أخرى؛ خاصة التي تقدم تساؤلا هل الأحزاب ضرورية في النظم الديمقراطية أم لا؟ وجواب هذا السؤال؛ سوف يكون مضمن في صلب سلسلة المقالات، باعتبار أن الأحزاب تمثل أعمدة الديمقراطية، هذه الإشارة اعتبرها ضرورية لآن هناك البعض يحاول أن يحرف الفكرة التي تريد أن تتناول الأسباب التي أدت لضعف الأحزاب، واستمرار هذا الضعف منذ فترة نظام عبود حتى اليوم. إلى جانب معرفة الأسباب التي ادت لغياب الأفكار داخل التنظيمات السياسية، ومعلوم أن تطور الفكر والوعي داخل الأحزاب يتم من خلال طرح الأسئلة التي تقدم من قبل الأعضاء الذين يشتغلون بالفكر.
والحوار الذي يتم للإجابة على الأسئلة هو الذي يجدد عملية الوعي، ويسهم في إنتاج الثقافة الديمقراطية المطلوبة لعملية التحول الديمقراطي. فإذا عجزت الأحزاب عن الإنتاج الفكري تصبح غير قادرة على عملية التحول الديمقراطي. فالشعارات لا تنتج ديمقراطية ولا تحميها، بل الفكر هو الذي يوصل الجميع لطريق الديمقراطية.
إن حالة الضعف التي تعيشها الأحزاب السياسية السودانية ليست وليدة لحظة بل تراكم فترات استمرت طويلا، فهي ليست حالة عرضية بسب صدمات تعرضت لها، أو غياب لمواعين الديمقراطية داخلها فقط بل عوامل عددة. في هذه الحالة لا تختلف الأحزاب التقليدية التي تم تأسيسها قبل الاستقلال والأحزاب التي تأسست مباشرة بعد الاستقلال والأحزاب التي تأسست حديثا. رغم أن البعض في الأحزاب الأيديولوجية و الحديثة يحاولون إرجاع هذا الضعف للأحزاب التقليدية، التي يطلق عليها طائفية وأسرية، وتجد هذه النخبة السياسية الناقدة في الممارسة تتبع ذات ثقافة الأحزاب التقليدية، الخلاف بينهم الشعارات التي تطلقها في عملية نقدها ولكنها لا تجد طريقها للواقع. وعندما تسألها عن عدم تنزيل شعاراتها على الأرض تتعلل بأسباب واهية ولا تريد أن تفصح عن رغبتها للمكوث على قمة الهرم أطول فترة ممكنة كما تفعل قيادة الطائفية والأسرية.
هذا الوضع غير الطبيعي في الممارسة الديمقراطية يخلف وعيا زائفا وسط الجماهير، لأنه يجعل الجماهير تحمل شعارات لا غير مستوعبة لها، لا تعرف كيف تتفاعل معها لكي تجبر الذين أطلقوها أن يعملوا لتنزيلها في الواقع.
معلوم أن الأحزاب قد تعرضت لضغوط عديدة من قبل النظم الديكتاتورية الثلاث التي مرت على السودان، وتسببت في أضعف البنيتين الفكرية والتنظيمية للأحزاب، الغريب في الأمر أن عضوية الأحزاب نفسها كانت وراء هذا الاستهدف. في فتري نميري وعمر البشير. أما الفترة الأولى (عهد عبود) رغم أن السلطة تمت تسليم وتسلم من قبل حزب الأمة إلى قيادة الجيش لكن حرصت قيادة الجيش أن لا تشرك الأحزاب في السلطة، وأدار الجيش الدولة ست سنوات منفردا. الأمر الذي جعل السلطة متماسكة في داخلها لم يحدث لها تشققات داخلية، ولذلك عندما ثارت الجماهير ضدها بهدف إسقاط النظام، كانت القوى السياسية الحزبية متماسكة وموحدة في هدفها، ليس حول شعار الاسقاط، وأيضا أن تكون الفترة الانتقالية قصيرة الأجل والذهاب للشعب عبر صناديق الاقتراع. لكن إذا نظرنا لعهد النميري نجد أن النظام الحاكم بدأت عليه حالة الضعف بسبب الصراع الذي بدأ يظهر داخل القوى السياسية التي قادة للانقلاب، هذا الصراع أضعف الحزب الشيوعي الذي انشق انشقاقا طوليا، وبدأت السيطرة الكاملة للجيش، هذا التحول لم يكن فقط تأثيره سالبا على الشيوعيين لوحدهم، وأيضا على النظام الحاكم، وعلى القوى المعارضة التي اختارت العمل العسكري للتغيير على حساب العمل السياسي، فالعمل العسكري أدى لغياب التفاعل بين الأحزاب والقاعدة الجماهيرية. وكان عليها أن تختار العمل السياسي لأنه يؤدي للتوعية السياسية للجماهير. ودلالة على ذلك أن انتفاضة شعبان 1973م التي قامت بها ثلاث نقابات ثم تحولت للجامعات كانت أكبر أثرا و مردودا سياسيا ثقافة ووعي سياسي من غزو 1976م. وإذا نظرنا نجد أن الغزو أضعف دور الأحزاب التي شاركت من خلال (الجبهة الوطنية) باعتبار أن الغزو نفسه أثر في العلاقة بين الأحزاب وقاعدتها الجماهير، أصبح هناك ركود في العمل السياسي، والحزب الشيوعي أغلبية قيادته نزلت تحت الأرض، فأصبح دوره محدودا، خاصة بعد الإعدامات التي طالت عددا من قيادته، وخاصة العقل المفكر عبد الخالق محجوب الذي خلق فراغا كبيرا في الجانب الفكري للحزب الشيوعي، ويعاني منه الحزب حتى اليوم.
التراجع الذي حدث في نشاط الأحزاب، دفع قيادة الجبهة الوطنية خاصة السيد الصادق ومعه الترابي أن يوافقوا على الحوار مع نميري عام 1977م في مدينة بورتسودان، والحوار أفضى لدخولهم جميعا “الاتحاد الاشتراكي” المؤسسة السياسية التي كونها نميري كحزب الدولة، ورفض الشريف حسين الهندي المصالحة والدخول في تنظيم الاتحاد الاشتراكي. وعجز حزب الأمة أن يشارك بفاعلية داخل الاتحاد الاشتراكي، ولكن الترابي استفاد من المصالحة في بناء حزبه السياسي معتمدا على المؤسسات المالية التي أسسها حزبه، ضعف دور الأحزاب تماما فقط اعتمدت على بيانات الإدانة والشجب.
أن ضعف الأحزاب فتح الباب لصعود العمل النقابي على المشهد السياسي حيث بدأت النقابات تقدم مطالب تلو الأخرى، وتنفذ أضرابات في النقابات الفئوية والعمالية، وهذه السلسلة من الأضرابات قد أصابت النظام برهق، وأيضا قواه الأمنية التي بدأت اعتقالات واسعة وسط النقابيين، كانت السجون خالية من السياسيين، أو ربما يكون هناك بعضا منهم، ولكنها كانت مليئة بالقيادات النقابية، حتى استطاع هؤلاء أن يكونوا تحالفا قويا (التجمع النقابي) وأصبحت حركة النقابيين هي التي تملأ الساحة السياسية، وفي نفس الوقت تعتمد على نصوص قانونية صاغها النظام بنفسه حق الاضراب عن العمل.
إن قيادة النقابات للعمل السياسي رغم أنها كانت تعكس درجة الوعي وسط الفئة المتعلمة والتي كانت قريبة من نشاط النقابات، لكنه كان نشاطا سياسيا خالي من الأبعاد الفكرية، لأنه لا يعد تعاملا مباشرا في السياسية، بل فرضته عوامل ضعف الأحزاب السياسية، هذه الفترة لم تظهر أي إنتاجات فكرية للأحزاب لكن نجد أصدارها لعدد كبير من الشعارات، وكما ذكرت تكرارا أن الشعارات تملأ فراغا مؤقتا بسبب غياب الإنتاج الفكري، ولكنها لن تصبح بديلا للأفكار، باعتبار أن أي عملية تغيير تعتمد على الفكرة كأداة جوهرية في التغيير. نجد هذه الحالة مستمر حتى اليوم.
عندما سقط نظام نميري في انتفاضة إبريل التي كان وراءها ( التجمع النقابي) ثم دخلت الأحزاب لاحقا. كان لها أثرا سالبا على الديمقراطية، لآن الأحزاب جاءت للسلطة وإنتاجها الفكري كان ضعيفا، وعدم الإنتاج الفكري يؤثر بشكل سالب على عملية التغيير، لأن الأحزاب تحاول أن تمارس السياسة بجدل اليوم كما يقول مهدي عامل، أي لا تمتلك تصورا كاملا لعملية التغيير، ولا تمتلك أدوات التغيير نفسها، وتحاول ان تستعيض بأدوات أخرى الذي يجعلها تستلف من ثقافة النظام الذي كانت قد اسقطته. وأيضا الغياب الفكري يجعل الكل يركز بصره على السلطة و ليس على غيرها. الأحزاب لا تفطن لذاتها خاصة إذا كان قد صعدت قيادات كانت تعتمد في نشاطها داخل الأحزاب على مهمات فقط تنفيذية، هؤلاء يصبح مهمهم فقط الحفاظ على مواقعهم في القمة، ويصبحوا أكثرا عداء للذين يشتغلون بالأعمال الفكرية لأنهم سوف يفضحونهم، هذه الممارسة هي التي جعلت الحزب في حالة من الضعف الذي ضرب جميع الأحزاب السياسية. نسأل الله حسن البصيرة: إن شاء الله نواصل السلسلة.
المصدر: صحيفة التغيير