تقهقر فرنسا في الخارج و”سيطرة اليمين” يهددان “الجمهورية الخامسة”
أرجع الخبير في القانون الدولي صبري الحو الأحداث التي تعيشها فرنسا حاليا إلى تراكم السياسات العمومية الفاشلة في مختلف المجالات، وتراجع مستوى الرفاهية مقارنة بدول الجوار.
وأشار الحو ضمن مقال توصلت به هسبريس، معنون بـ”هزيمة فرنسا خارجيا وسيطرة اليمين على الحكم تهددان السلم الاجتماعي والجمهورية الخامسة”، إلى نمو إحباط ويأس عامين بعد توالي نتائج فشل اليمين في الحكم، وفي إعداد وتدبير السياسات العمومية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ما أسفر عن تدهور اجتماعي واقتصادي.
هذا نص المقال:
إن الأحداث التي تعيشها فرنسا حاليا هي نتاج لتراكمات من السياسات العمومية الفاشلة في مجالات الشغل والتعليم والهجرة والسكن، وتراجع مستوى الرفاهية العامة مقارنة بدول الجوار، مثل ألمانيا وإيطاليا أو حتى إسبانيا. لاسيما أن الفرنسيين نبهاء في إجراء المقارنات بين ما كان عليه الوضع في فرنسا من أفضلية على دول الجوار وما أصبح عليه من تقهقر وتقدم في مستوى جودة الخدمات عند الدول نفسها موضوع المقارنة.
وتوجد فرنسا اليوم تحت حكم اليمين والليبرالية المالية المتوحشة، التي تهتم بمصالحها الضيقة ونسب الفائدة والعودة السريعة إلى الاستثمار، وهوامش الربح الكبيرة، على حساب التوازنات الاجتماعية والرفاهية العامة.
وهي الأحزاب التي سمحت للبرجوازية الفرنسية وللرأسمال الفرنسي، تحت ضغط المنافسة وقوانين العولمة، بترحيل العديد من الشركات وخوصصة كثير من الخدمات، ما نجمت عنه مشاكل اجتماعية تجلت في ارتفاع معدلات البطالة وتوسيع دائرة الفئات التي تعيش الفقر والهشاشة، وأصبحت تعتمد على المساعدات الاجتماعية.
ومن ثمة فالفشل المعلن والذريع في السياسات العمومية، الذي يتم التعبير عنه حاليا بطرق عنيفة وغير مدنية، هو انحصار لسياسات اليمين الليبرالي المتطرف الذي يهمه الربح السريع ودورة الرأسمال القصيرة، في غياب استثمارات إستراتيجية طويلة الأمد؛ وهو في حقيقته فشل في اختيارات الناخبين في فرنسا من جهة. وقد تكون فرنسا أيضا ضحية التبعية لقوانين الاتحاد الأوروبي التي أهملت وتهمل الجانب الاجتماعي، ووقعت بدورها تحت قبضة الأبناك وبيروقراطية الموظفين الأوروبيين والشركات عبر الوطنية والاستثمارات الخارجية التي لا تؤمن سوى بمنطق الربح.
وهو الاتهام الذي برز في الشعارات التي رفعتها حركات احتلال الملك العام والشارع العام خلال الأزمة الاقتصادية لسنوات ما بعد 2008، ومن بعدها القمصان الصفراء (جيلي جون)، إذ إن فرنسا انتقلت من الدولة الاجتماعية إلى فرنسا الليبرالية المحضة، التي أهملت وتخلت عن الاهتمام والعناية الاجتماعية التي ميزتها لعقود. ومن ثمة فإن محاولة ربط ما تتخبط فيه فرنسا حاليا بالمهاجر هو مجرد شماعة تلقى عليها كل الشرور والآثام، مثلما الدين الإسلامي بريء منها.
والواقع الذي يتفادى الجميع الوقوف عنده، لأنه مرتبط بأوجاع ومصير الجمهورية الخامسة، يتمثل في نمو إحباط ويأس عامين بعد توالي نتائج فشل اليمين في الحكم وفي إعداد وتدبير السياسات العمومية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ما أسفر عن تدهور اجتماعي واقتصادي، ضدا على الخصوصيات التي كانت تميز المجتمع الفرنسي، ناتجة عن ثقافة متميزة ومتوارثة عن الثورة الفرنسية في التسامح والمساواة والأخوة الإنسانية، ويتم التعبير عنها دستوريا بالمساواة والأخوة والتضامن.
وهي مبادئ تتعارض مع شعارات وإيديولوجية اليمين التي أكرهت وفرضت على المواطن الفرنسي القبول بالسياسات الليبرالية والخوصصة وتهريب الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى مناطق تحقق أكبر فرص الربح وأكبر هامش في العودة إلى الاستثمار، وأصبح همه الوحيد البحث عن إعفاءات ضريبية في ملاذات ضريبية أو في “المناطق الحرة”. وأصبح المواطن الفرنسي النشيط عاطلا عن العمل ويسعى وراء المساعدات الاجتماعية ولدى المنظمات غير الحكومية التي تشتغل في الميدان الاجتماعي.
والفشل نفسه لاقته وتواجهه فرنسا في علاقاتها الخارجية، سواء مع دول الاتحاد الأوروبي، بحيث تنظر إليها دول أوروبا الشرقية واليونان والبرتغال وإسبانيا بنظرة الدولة الأنانية، وتنازعها أخرى مثل إيطاليا وألمانيا في القيادة، بينما دول الشمال تعتبر نفسها غير معنية، وأي مساس برفاهية مواطنيها قد يدفعها لتنسحب من الاتحاد الأوروبي بمجرد استفتاء تأكيدي على غرار إنجلترا. ووجدت فرنسا وألمانيا تؤديان مقابلا لاستمرار الاتحاد الأوروبي على حساب الحقوق الاجتماعية لمواطنيهما.
ولم تقف مشاكل فرنسا عند هذا الحد، بل تواجه صعوبات في إفريقيا وانكماشا في مناطق نفوذها بسبب رفض دول الساحل ومستعمراتها القديمة أسلوب التبعية الذي أصبح متجاوزا وينظر إليه على أنه استعمار بطريقة جديدة من قيادات إفريقية وطنية مستقلة. وتعزز هذا الرفض بعروض دولية بالشراكة بناتج “رابح رابح”، أي الربح المتبادل. وبزغ ما يمكن تسميته الحراك الإفريقي، الذي نتج عنه طرد فرنسا من مجموعة من مناطق نفوذها الحيوي في مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينافاسو، مع بوادر للرفض نفسه في غينيا والكونغو الديمقراطية والجزائر.
اليأس إذن عام داخليا في فرنسا وخارجيا برفض التعامل معها بالأسلوب والسياسة نفسهما، فهي اضطرت إلى الانسحاب الذي يوازيه الطرد، وهي مهزومة من دول الساحل تحت هتافات تندد بسياساتها الاستعمارية والعنصرية وسياسات التبعية التي تفرضها، ليس فقط على دول صغيرة مثل مالي والنيجر، بل على دول متوسطة ونامية مثل الجزائر باعتراف الرئيس الجزائري تبون نفسه حين طالب بوتين بإنقاذه للتخلص من تبعية التعامل باليورو، وهو يقصد فرنسا.
ويعكس سلوك وحركات وتصرفات الرئيس الفرنسي ماكرون تهورا وعدم نضج سياسي في خرجاته الإعلامية وردود فعله، التي تطبعها إهانة محاوريه، وفقا لما تدل عليه حركاته بوضع يده على كتف ضيوفه أو وراء ظهورهم، وفي طريقة جلوسه وتظاهره بأنه ينصت لهم بشكل وطريقة تدل على عجرفة وتكبر وعنصرية لا يقدر على إخفائها، لأنه من هواة السياسة وليس محترفا متمرسا فيها.
فتداعيات هزيمة فرنسا خارجيا وخيمة على ثقة المواطن الفرنسي في دولته، إذ يختلف الفرنسيون عن غيرهم من مواطني الدول الأوروبية في تركيز اهتمامهم السياسي داخليا ومواكبتهم لما يجري من أحداث في العلاقات الدولية؛ وهم يرصدون ويعاينون تقدم الصين وروسيا في إفريقيا ويتابعون بحسرة وحنق ومذلة تراجع دولتهم وطرد جيوشها وإفراغ قواعدها وإلغاء صفقات وعقود شركاتها ومؤسساتها واتهامها الأخلاقي بالعنصرية وبجرائم الإرهاب.
وتكررت دعوات الطرد والإفراغ في مناطق متعددة في كل من مالي وبوركينافاسو وإفريقيا الوسطى، كما اضطرت فرنسا إلى إلغاء عمليات براخان التي توفر الحماية لمناجمها من الأورانيوم في النيجر وتشاد ومالي وفي جنوب الجزائر، بسبب رفض الأخيرة الانخراط والمشاركة في العملية وفي القبول بتوليتها لها، رغم تعديل الجزائر دستورها بما يسمح بإرسال قواتها إلى الخارج (الأساس الذي تحكم في تعديل هذه المادة). بل عمدت الجزائر وتجرأت على قطع أجوائها أمام الطيران العسكري الفرنسي، وإلغاء صفقات لشركات فرنسية كانت تحظى بالامتياز والأفضلية، امتدت إلى قطاعات إستراتيجية في الجزائر، وذلك تحت الضغط الروسي.
ولم يقف العجز الفرنسي عند هذا الحد، بل امتد ليطال القطاع الخاص والشركات الفرنسية التي أظهرت عدم القدرة على منافسة الصين داخل السوق الفرنسية نفسها رغم ما تفرضه فرنسا من سياسات حمائية لسوقها الداخلي وشركاتها الوطنية، في مواجهة الصين والهند والبرازيل. وهي المشاكل نفسها التي تواجهها الفلاحة الفرنسية غير القادرة على المنافسة داخل السوق الأوروبية لصالح الفلاحة الإسبانية والإيطالية واليونان وأوروبا الشرقية.
ويظهر أن عوامل الهشاشة وأسباب الضعف ونتائج الفشل تتعدى مسألة الهجرة أو التطرف الديني الذي يروج له الإعلام والخطاب السياسي الرسمي، ويربطه بالمهاجرين أو حتى بالإسلام السني؛ وهو في كنهه وجوهره ربط اعتباطي وتعسفي وغير صحيح لأنه عبارة عن أوهام اليمين المتطرف العنصري وغير الوطني، الذي يبحث مؤقتا عن ذريعة لتجاوز المعضلة الاجتماعية، وقد اعتاد على معالجة مثل هذه المشاكل باعتماد المقاربة الأمنية.
فاليمين أثبت فشله وعجزه، والأخطر أنه مازال يكتسح ويسيطر على الحكم في أغلب دول أوروبا، رغم أنه يشكل في محصلة العدد أقلية، وفي النهاية يعتبر خطرا على كل أوروبا. والأخيرة لم تعد جنسا أوروبيا خالصا، فالمجتمع الفرنسي خاصة، مع كل المجتمعات الأوروبيةبتفاوت بين الدول العريقة في ميدان الهجرة والمعاصرة منها عرف تحولات ديموغرافية، وأصبح مختلطا ومتنوعا بعد عقود من الهجرة من أجل تلبية حاجات اقتصادية أو من أجل تحقيق توازن ديموغرافي اختل لصالح الشيوخ والكهول.
وهكذا فالخطاب العنصري لليمين المتطرف يشكل خطرا على السلم الاجتماعي الأوروبي لأنه لا يراعي ولا يتكيف مع متغيرات ديموغرافية اجتماعية وحقوقية، وهو غير قادر على مواكبة تحولات وتطور العصر الذي يحتاج عقليات وذهنيات يقظة، تراعي حقوق الشركاء في الخارج، وسياسات وقيادات وطنية ومتحررة من تحملات وثقل خدمة فئات ضيقة على حساب القاعدة الواسعة للمجتمع الأوروبي.
سياسات سبق أن أدركتها الصين وروسيا فاستعجلتا الأخذ والعمل بها، فتحققت عبرها عائدات سياسية واقتصادية وثقافية سريعة تنعكس على مجتمعاتهما وعلى سمعتهما في العالم في مقابل انكماش وتراجع نفوذ وسمعة فرنسا، والقادم أخطر!.
المصدر: هسبريس