“المغرب من قريب” .. يوميات ومشاهدات صحافي مصري في ربوع المملكة
نزل إلى المكتبات في الآونة الأخيرة بالقاهرة كتاب موسوم بـ”المغرب من قريبيوميات صحفي مصري”، وهو منجز حضاري ثقافي وإبداع رحلي قيم، للصحفي والإعلامي المصري في جريدة “الأهرام” أيمن عبد العزيز.
الإصدار الذي جاء في 243 صفحة من إخراج أحمد نجدي وتصميم الغلاف لسامح الكاشف، يعتبر الثاني في الريبيرتوار الأدبي للكاتب في أدب الرحلة، بعد 9 سنوات من إصدار كتابه الأول “المغرب في عيون مصرية.. أسطورة المكان والنساء والتاريخ الحي” عام 2014.
وتقديرا لأهمية هذا الإصدار الثقافي المتميز الذي يتطرق لجملة من المشاهدات والاتصالات والعلاقات الاجتماعية خلال أربع سفريات للكاتب في مدن وحواضر المغرب شملت الفترة من 2018 إلى 2022، فهو يستحق أن يكون محور أيام تواصلية في أجندات الحكومة المغربية، وعوة مفتوحة لها من أجل مراجعة وتحديث لآليات اشتغالها، خاصة قطاعيها الحيويين وزارة السياحة والوزارة المكلفة بتدبير الشؤون العامة المتعلقة أساسا باستقبال الوافدين من الأجانب والعرب، لما يتضمنه من ملاحظات ورسائل.
كما أن الاشتغال عليه سينمائيا من طرف سيناريست عربي محترف وتحويله إلى مادة فنية، لا سيما في الباب الأول “عقبات لوجيستية سخيفة” وما عاناه الكاتب من مصاعب ومتاعب مجانية منذ البداية. علاوة على عراقيل الحصول على الفيزا، ومطبات انتظار الاعتماد الصحفي بالرباط، وما أسماه المؤلف أعجوبة بنك التجاري وفا وسؤاله الحضاري بمراكش “أين العربية يا وزارة الخارجية؟ ومغربات الكتاب تذكاري وذلك الوعد الذي لم يتحقق”، يتعلق الأمر هنا بدراما تلفزيونية مشوقة غاية في الإمتاع والفائدة.
وحتما سيترفع منسوب الضغط لدى المشاهد العربي خلال أوقات الذروة في رمضان. ليس فقط من فرط سخافات التدبير الإداري المغربي في عدد من الخدمات الاجتماعية المقدمة التي تدخل في نطاق الخدمة العادية، أو التعاطي مع شؤون الوافدين على تراب المملكة للسياحة أو الإعلام فحسب، بل لأنه يكشف بمرح وذكاء لافتين فسادا حقيقيا يكتنف التدبير الإداري، ويعري أعطاب الإدارة المغربية بسلاسة ماتعة، كما يفضح بيروقراطيتها العقيمة في التعامل مع المرتفق العمومي والصحفي العربي على نحو خاص. ويكشف من ناحية ثانية زيف الشعارات في الخطاب الرسمي المغربي فيما يتعلق بتسهيل الولوج برا بحرا وجوا لكافة القادمين من خارج التراب الوطني، لا سيما أثناء التعامل مع السائح العربي والأجنبي عموما، ومع رجال الصحافة والإعلام على نحو خاص. قرأت الكتاب وأنا أضع يدي على قلبي خوفا على مستقبل السياحة والصحافة في المغرب والوطن العربي.
في مقدمة بقلم الكاتب نقرأ في الباب الأول: “وكأنني على موعد مُقدر مع هذا البلد الجميل “المغرب” الذي أحببته، وأشعر أنه بات يبادلني الحب. فمنذ أن تعرفت عليه، أصبح يشدني إليه حنين وعشق يتجددان مع كل زيارة، وألفة ومعرفة بالمكان والبشر تتزايدان رحلة بعد رحلة. رغم بعض المنغصات المزعجة، لكن بعض ما نواجهه في السفر من ظروف ومواقف غير متوقعة، يتحول فيما بعد لمجرد ذكريات لا تصلح إلا موضوعا لطيفا للحكي والتندر والتعلم”. ويخلص المؤلف إلى تثمين التجربة معتبرا حجم المشاهدات وعمق التفاعلات والدروس المستفادة المكسب الأهم.
ويتابع أيمن عبد العزيز، الإعلامي والصحفي بجريدة “الأهرام” العتيدة، في مقدمته للكتاب: “في هذا العمل أحاول أن أرسم ملامح بعض المدن التي تنقلت بينها والأماكن التي زرتها أو مررت بها، وأن أحكي بعض تفاصيل مواقف كاشفة عايشتها، وأسجل شهادات، بعضها سلبي وأكثرها إيجابي، وأدون ذكريات ومواقف جميلة، حفرت في وجداني مع أصدقاء رائعين، اقتربت منهم وتفاعلت معهم أولا من خلال تجربة عملي مراسلا صحفيا للأهرام لثلاثة أشهر ونصف الشهر في الربع الأخير من عام، 2018. وأعتبر تلك الرحلة، وهذا العمل، إضافة واستكمالا لتجربتي وشهادتي التي سجلتها في كتابي الأول (المغرب في عيون مصرية)”.
في الباب الأول، يستعرض الصحفي بحرقة جملة من العقبات اللوجستية السخيفة التي واجهته سواء بسفارة المغرب بالزمالك أو مع وزارة الثقافة والاتصال بالرباط. فبعد أن حصل على موافقة جريدة “الأهرام” للعمل مراسلا صحافيا بالمغرب لعدة اعتبارات، أولها خبرته السابقة بالمغرب وقيامه بالعديد من الرحلات تم تجميع أغلب مشاهداتها ومراحلها في كتاب صدر عام،2014، وثانيها رغبته في تجربة العيش لبعض الوقت في هذا البلد الذي أحبه، وله فيه صداقات يعتز ويفخر بها، ويسعى دائما لتعميقها وتوسيع نطاقها.
ويسلط الكاتب الضوء على الوضع الاعتباري للصحفي من خلال مقارنة حاضر وماضي صحيفة “الأهرام” العتيدة، حيث كان لها “أيام توهجها وعنفوان قوتها الصحفية والمالية، نظام للتعامل مع المراسلين الصحفيين، الذين تكلفهم المؤسسة بالعمل في بعض أهم العواصم العالمية، بأريحية مع آلاف الدولارات، لكن منذ سنوات ليست بعيدة ومع التراجع الحاد والمستمر في وضعية الصحافة في مصر بشكل عام، وتراجع الأداء وتقلص الموارد المالية للصحف والمؤسسات، ومنها الأهرام بطبيعة الحال، تزايدت الرغبة لدى كثير من الصحفيين للخروج من هذا الوضع الخانق، وتجريب الانخراط في تجارب مهنية مختلفة بدول أخرى، ومع إغلاق بعض مكاتب الأهرام في الخارج، وندرة الفرص في صحف الخليج أيضا، بات هذا الأمر أكثر صعوبة”، يقول أيمن عبد العزيز، ولأن هذا الوضع لا يقتصر على جريدة عتيدة ورائدة مثل الأهرام وحدها يا أيمن، بل شمل مئات بل آلاف المؤسسات والمقاولات الإعلامية بالعالم العربي وغيره التي وقفت على حافة الإفلاس وتسريح الصحفيين بفعل الصعوبات المالية من جهة، وانخفاض منسوب القراءة للجريدة بالعالم العربي بشكل مخيف جدا من جهة ثانية.
ويقدم الكاتب تفاصيل دقيقة أملاها السياق للخروج من تلك المعضلة، بما في ذلك الاتفاق الذي أبرمه من موقع ضعف مع مؤسسة “الأهرام” ويقضي بتحويل دخله الشهري دفعة واحدة لحسابه البنكي، على أن يتحمل المصاريف البنكية لتحويل هذا المبلغ إلى أي حساب آخر بالعملة الأجنبية، وذلك وفق نظام العمل الجديد لعمل المراسلين بالخارج.
يقول أيمن عبد العزيز في هذا الصدد: “وعلى الرغم من تلك البداية المحبطة، فإنني كانت لدي ثقة كبيرة بإمكان إنجاح التجربة التي رغبت فيها، مع استعدادي لمواجهة أعبائها المالية، اعتمادا على خبرتي المهنية وعلاقاتي الشخصية، لكن ما جرى بعد ذلك أيضا من تعقيدات إدارية سخيفة، لم تكن في الحسبان، أطاحت بكل فرص نجاح التجربة، وأدت في النهاية إلى إجهاضها وعدم اكتمالها”. وكان لمعركة الحصول على “الفيزا” الحظ الأوفر من صفحات الكتاب، إذ بالنظر إلى الصعوبات والعراقيل وتعقيدات الإدارة المغربية هناك أو هنا، تكون لدى المؤلف “انطباع قوي بأن لوجستيات تسيير العمل ببعض المؤسسات العمومية أو شبه العمومية بالمغرب تحتاج إلى مراجعة سريعة”، وهي حقيقة تعكس وجهة نظره وتجربته كصحفي مصري، من خلال معايشته بعض المواقف التي عاينها في تلك التجربة.
بعد حصوله على موافقة العمل على السفر إلى المغرب مراسلا صحفيا لجريدة “الأهرام” العتيدة، ستبدأ رحلة المتاعب عبر ثمانية أبواب، سيروي خلالها أيمن عبد العزيز ما حصل بمبنى السفارة المغربية بالزمالك، وغياب السفير في عطلة بالمغرب، “لم أجد أي أثر لما أفادت به الموظفة التي رفضت حتى أن تخبرني باسمها”، وهو الذي ظل مقتنعا أن إشعار الحكومة المغربية وكل الجهات المتدخلة، بما فيها الأمنية، على علم بهذا التكليف حتى تتم المهمة بيسر ونجاح. وسيعرج على مبنى وزارة الثقافة والاتصال بالرباط، ويتيه في دوامة الحصول على وثيقة اعتماده رسميا كصحفي مصري لدى المغرب. إذ رغم أن كل المعلومات والبيانات الشخصية للصحفي أيمن عبد العزيز موجودة في خطاب تكليفه الموجه إلى السفارة المغربية بالقاهرة، وكذلك إلى وزير الثقافة المغربي، كما أن باقي تلك البيانات مثبتة أيضا بجواز سفره، وبطاقته الشخصية، وأيضا في بطاقته الصحفية الصادرة عن نقابة الصحفيين المصرية، التي سلمها للمسؤولين بوزارة الثقافة والاتصال ضمن الأوراق والمستندات، وتلك الوثيقة أو الشهادة معروفة تماما لدى السفارة، لكن الحصول على الاعتماد الصحفي كان من سابع المستحيلات. الأمر الذي جعله لفترة غير قصيرة يكتفي في عمله الصحفي بنشر الأخبار الفنية والثقافية فقط، دون أي تغطية للجانب السياسي، تفاديا، أو بالأحرى خوفا من اصطدامه بالجهات الرسمية، طالما ليس لديه أي إثبات رسمي مغربي لطبيعة عمله أو مهمته كصحفي أجنبي.
يقول أيمن عبد العزيز في هذا الصدد: “لا يكاد يخلو يوم من فعاليات أو تظاهرات سياسية أو حقوقية، تجرى بشكل خاص أمام البرلمان المغربي، في إطار ما، وكان بعضها حقوقيا وقانونيا بات يعرفه المغرب من مناخ منفتح سياسي، تلك الأحداث يستحق أن أكتب عنها كمراسل، ولكن لم تكن لدي الرغبة في الاهتمام بذلك خشية أن يضعني ذلك في موقف حرج مع سلطات الأمن الذين يتابعون تلك الفعاليات عن كثب”.
ويتابع: “آثرت المسالمة، واكتفيت بما كنت أقع عليه، إما مصادفة أثناء وجودي بالرباط بمقاهيها ومنشآتها الثقافية، أو بالأنشطة التي تقيمها أو ترعاها وتنسقها السفارة المصرية، إضافة لأخبار وزارة الثقافة المغربية التي كانت تصلني تباعا عبر البريد الإلكتروني من الأستاذ محمد بلمو مسؤول الإعلام بالوزارة”.
ويورد أيمن على سبيل المقارنة كيف تسير الأمور في مصر في مثل هذه المواقف “بسهولة ورقي كبيرين، إذ يعامل الصحفي الأجنبي تقريبا كدبلوماسي، بل ربما بشكل أكثر أهمية، لما للصحافة من مكانة مهمة ومقدرة في مصر والعالم”، ويضيف أن “جميع الأجهزة الأمنية المصرية تعامل الصحفي الأجنبي بمنتهى الاهتمام والحرص، لأنهم ينقلون صورة للخارج عن البلد إما سلبية أو إيجابية، وبالتالي يعاملونهم برقي وسلاسة، ويعملون على تيسير مهمتهم بكل الصور الممكنة، ويتواصلون معهم طوال الوقت فيما يتعلق بالأنشطة والفعاليات الإعلامية التي تنظمها الجهات الرسمية في البلد، ناهيك عن تسهيل معاملاتهم الورقية والقانونية”، مؤكدا في السياق ذاته الأهمية الكبرى “لتلك الإجراءات اللوجيستية في تسهيل مهمة المراسل الصحفي الأجنبي أو تصعيبها”، كما جرى معه سواء بالزمالك او الرباط “بشكل أدى في نهاية الأمر بكل أسف إلى إجهاضها في وقت يعلم فيه الجميع بوجود فجوة في التواصل الإعلامي تسببت في غير مرة في أزمات بين البلدين وعلى الإعلام أن يجد طريقا لتجاوزها على الفور وبأي شكل لدعم جهود التقارب الإعلامي والشعبي بين بلدينا الشقيقين”.
ويصر أيمن على وضع الملح على الجرح بما أسماه “أعجوبة” إنشاء ومتابعة سير حسابه وتحويل راتبه أو عملة أجنبية بالتجاري بنك، أحد أقوى البنوك التجارية المغربية ويمتلك ثلاثة فروع في القاهرة وحدها، ويحكي تفاصيل دقيقة حول طبيعة ذلك الحساب، وتعقيدات الإيداع والتحويل لدرجة اقتناعه بغلقه بدل إبقائه مفتوحا، ليستفيد البنك بمئات الدراهم تخصم منه كمصاريف بشكل ربع سنوي، لمجرد الاحتفاظ برقم الهاتف “والواقع أن العمل وفق هذه التعليمات البنكية يجعل الأمر سخيفا جدا”. ويتساءل أيمن بقلق مشروع إن “كان الأمر هو قلة خبرة أو سوء تأويل للتعليمات من الموظفين؟”، وقد قرر العزم ذات يوم غضب على إنهاء تلك التجربة المحبطة مع هذا البنك، وإقفال ذلك الحساب في أقرب فرصة.
“وجاء المؤتمر الدولي للهجرة بمراكش. وبعد كلمة السلام عليكم، و”بون سوار”، لم أميز أي كلمة مما قاله المسؤول الأول، ومع كل توقف في حديثه كنت أتوقع أن يقوم هو أو غيره بالترجمة للإنجليزية التي أجيدها، من ذلك لم يحدث بكل أسف. أو تقديم تلخيص بالعربية. وعندما استفسرت أحد مساعديه قال لي “نعم سيكون ذلك”. أنهى المسؤول الأول كلمته، ثم فتح المسؤول الثاني الميكروفون وانطلق مباشرة في الحديث بالفرنسية فأحسست بالدم يغلى في عروقي، فما يفترض أن تسير الأمور هكذا، فنحن في نهاية الأمر في مقر وزارة الخارجية لبلد عربي كبير ولو وإذا كان الأجانب يتحدثون مع الموظفين أثناء دخولهم للمبنى ببعض المفردات العربية، بل وبالدارجة المغربية، فكيف يتحدث المغاربة بوزارة الخارجية في اجتماع للصحفيين الأجانب والمغاربة إلا بالفرنسية فقط، ولا يقدمون حتى مجرد عرض مختصر بالعربية؟”.
ونتجرع مع أيمن مرارة أخرى، فنصغي السمع إليه محرجا متسائلا عن عدم الاهتمام والعناية من قبل بعض المنظمين، لقد ضاق ذرعا حتى أنه اعتبر الوضع إهانة وعدم الاهتمام بشخصه ومهنته السامية بشكل غير مبرر، وهو يمثل “الأهرام” كمنبر إعلامي عربي عتيد، وله وزنه الدولي، ويقول: “فكيف يأتي الأهرام، قلعة الصحافة والإعلام المصري والعربي، للمغرب ويستقبل بهذا الفتور، إضافة إلى رغبتي الجادة وجهدي وكتاباتي الدائمة لصالح مزيد من الترابط بين مصر والمغرب”.
إن تصاعد إيقاع العقبات اللوجيستية التي واجهت الصحفي أيمن عبد العزيز ستخرجه عن صوابه لفترة، بداية من السفارة بالقاهرة، ثم البطء في إجراءات الاعتماد الصحفي بوزارة الثقافة والاتصال وأعجوبة التجاري… راكمت بداخله جرعة معتبرة من الشعور بالإحباط والقنوط، لا سيما وأن الرجل جاء للعمل الصحفي المهني والسعي بجدية إلى نقل صور أكثر إيجابية وواقعية عن المغرب إلى المحروسة مصر ومن خلالها المشرق العربي عبر صحيفة “الأهرام” العتيدة التي يمثلها. وذهب به كل ذلك بعيدا في الافتراضات والتخمينات “وتتعمق الجراحات والأعطاب النفسية أثناء الاتصالات التي ظل يجريها لمتابعة طلب الاعتماد”، حيث يتم تحويله من موظفة لأخرى عبر الهاتف، وتناسل الاستعلامات وتكرار نفس الأسئلة “متى تقدمت بالطلب؟ وأين أودعته؟ ولمن وجهته؟ حتى أنه من فرط الغضب سيرد على الهاتف، بالدارجة المغربية، “واللـه هذا عيب، وماشي صواب هاد المعاملة”، وسيعتبر تكرار الأمر “إهانة”، مهددا بكتابة شكوى للوزير.
ورغم أن الموظفة وعدته بإمكانية تدبير لقاء خاص مع مسؤول كبير بالوزارة، لكنه رفض، معتبرا “عدم الاهتمام بالحديث بالعربية مع صحفي مصري هو عدم اكتراث لم أقبله، وقررت بالمقابل ألا أكترث لا بلقاء ذلك المسؤول، ولا حتى بأخبار وزارة الخارجية كلها، حيث يمكنني إذا لزم الأمر تدبرها من مصادر أخرى، أو عبر وسائل الإعلام المختلفة. من الإحباط الكامل زاد ذلك الموقف من حنقي، لولا ما كان في هذه المهمة من إيجابيات مهنية وإنسانية أخرى، هونت على تلك السخافات اللوجيستية المزعجة”، ويضيف: “كان بإمكاني بالطبع أثناء ذلك اللقاء طلب الكلمة والاعتراض علنًا على غياب العربية داخل وزارة الخارجية”، لكنه أرجأ ذلك “تفعيلا لحسن النية ليس إلا. خشيت أن تصبح كلمتي سببا في أزمة جديدة، فقد يرى البعض أن إعلاميا مصريا أتى متعمدا إثارة مشكلة من داخل مبنى الخارجية المغربية، كما خشيت أن أتهم بأن المشكلة أو القصور عندي أنا باعتباري لست من المتحدثين بالفرنسية، ولأن بعض المغاربة لا يتقبلون النقد بسهولة مهما كان موضوعيا، ولذلك آثرت الانصراف وإغلاق مع السيدة المكلفة بالتواصل برفضي الاعتذار أو تحديد لقاء خاص لاحقا مع مسئول بالخارجية” ص46.
والخلاصة “أن المغرب الرسمي مقصر بشكل ما في التقارب الإعلامي مع مصر والمشرق، بل إنه يكاد يكون فرنسيا وأوروبيا في تفكيره ووجهته، وهوية نخبه السياسية والإعلامية”، ورأيت أمامي ملمحا كاشفا لما يمكن اعتباره مجددا بروزا لسؤال الهوية في المغرب، فالبعض يقول: إن المغرب عربي بلسانه وتاريخه الحضاري والثقافي، وهو كذلك بالفعل وفي المزاج والوجدان الشعبي الغالب أيضا، كما أن بعض الأصوات التي زادت نبرتها حدة أخيرا، ترى أن المغرب أمازيغي تاريخيا وفعليا بينما بدا بوضوح بالنسبة لي على الأقل أن المغرب الرسمي ما زال فرنسي النزعة والتوجه بامتياز”.
ويقدم الكاتب عينات من المشاكل والإكراهات التي واجهته كصحفي وإعلامي مهني مثقف وكاتب، وكيف نجح في التغلب عليها اعتمادا على الخبرة المهنية التي اكتسبها على مدى عقود. فعند زيارته للرباط العاصمة الإدارية للمملكة أو الدار البيضاء “كازابلانكا حبيبتي”، يستعرض بوداد عددا من اللقاءات والزيارات إلى الأماكن التاريخية والمعالم السياحية الثقافية، ويقيم علاقات صداقة طيبة ونبيلة مع أطياف مختلفة من النسيج المجتمعي مثل قطاع الصحافة والإعلام والخدمات الاجتماعية. كما يكشف عن تواجد عميق ومؤثر لمصر في المجتمع المغربي، لا سيما في قطاع التربية والتكوين. وعند اقترابه أكثر من المغرب، يتحدث المؤلف عن ملامح المجتمع المغربي من إبرازه لطقوس الزواج أو “العرس” المغربي، وأنواع الطبخ المغربي ذي النكهة العالمية، ورؤيته للمغرب الذي أصبح يستقطب أعدادا هائلة من الطلبة الأفارقة والعرب ومن جنسيات مختلفة. وكان راصدا للتفاصيل مستعرضا بعض الإنجازات والتطورات والمشاريع الضخمة ذات التأثير الإيجابي على المغرب في عهد الملكين الراحل الحسن الثاني وابنه الملك محمد السادس، كما يكشف العلاقة القوية للمغاربة مع الفعل الثقافي والإبداعي بمختلف تجلياته.
وعن “مغرب آخر في الشمال” يتناول فيه المؤلف علاقته ومشاهداته بمدينتي طنجة وتطوان بشمال المغرب بجماله المدهش، ولقاءاته الإعلامية بقناة “تليفزيون البحر المتوسط” وأسفاره عبر القطارات المغربية، لعل آخرها قطار “البراق”، أول القطار فائق السرعة في المغرب وأفريقيا، ورحلته عبر الطريق الساحلي الجميل طنجة المتوسط والمدينة سبتة المحتلة ومنتجعات “كابو نيجرو “و”مارينا سمير”، ثم زيارته لمنطقة “أمتار” والجبهة بين تطوان والحسيمة. وعن مغرب الجنوب، تحدث الكاتب عن زيارته للمدينة الحمراء مراكش وزياراته لأهم معالمها، ولقاءاته ببعض الإعلاميين بها، وكيف أنه تعرف على ما يمكن اعتباره “نسخة من إذاعة صوت العرب في مصر”.
وفي تنويه لافت للحالة السياسية والاجتماعية للمغرب المعاصر طبقا لما رآه وعايشه، اعتبر أيمن عبد العزيز سبتمبر عام 2021 نقطة تحول مذهلة في حياة المغرب السياسي، ليس لأنه نجح في إزاحة الحكومة ذات “المرجعية الإسلامية” التي شكلها حزب العدالة والتنمية، بل لأنه نجح شعبيا في احتوائها ثم تعريتها وكشف زيف أغلب ادعاءاتها أمام الشعب، يتعلق الأمر بحكومة دبرت شؤون المملكة منذ 2011، وتم إسقاطها بشكل مدو عبر انتخابات شعبية حرة ونزيهة، وهو ما يؤكد صحة وسلامة رهان الدولة المغربية على اختيار النهج السياسي الديمقراطي للتعامل مع تلك الحكومة. وبذلك يتجنب المغرب بذكاء فخاخ وكمائن تداعيات كابوس ما يسمى “الربيع العربي” بسياساته المدروسة والواعية الهادئة، ونجح في غرس وترسيخ قيم المشاركة والتعامل القانوني والديمقراطي بحسم واقتدار، بينما لا تزال دول عربية أخرى كثيرة تتخبط وتعاني.
وعلى سبيل الختم، فإن كتاب “المغرب من قريب يوميات صحفي مصري” صورة حقيقية تلامس في بعض جوانبها الشرخ الحاصل بين الصورة الرسمية للبلد، والواقع الحقيقي الذي يعيشه حيث “يمكن القول بأن بعض تلك الأمور والتعقيدات السخيفة لا تنسجم مع ما للمغرب كدولة من تاريخ طويل، وصيت دولي وإقليمي، ولا حتى مع ما ينتظر هذه المملكة من حظوظ مستقبلية دولية واعدة”، يقول الكاتب.
ويعود أيمن مؤكدا صدق نواياه بأن ما يدونه ناتج عن غيرة، “وليس تشفيا ونكاية بهذا البلد المغاربي الذي أحبه، أقول ذلك من باب المحبة والحرص لا أكثر، حتى لا يسخن الدم في بعض الرؤوس، ويعتبرون كلامي انتقادا ليس له ما يبرره، أو تعاليا مصريا، كما يمكن أن يراه بعض ضيقي الأفق، الذين يعتبرون أي نقد أو مقارنة نوعا من التعالي أو النظرة الفوقية، وهو أمر غير صحيح بالمرة. وتبقى الحقائق والوقائع والأوراق الدالة عليها في هذا الشأن تتحدث عن نفسها”.
المصدر: هسبريس