غراميات سطوح ومغربات البيت العتيق
رواية “أوراق من شجرة الحياة” لمحمد بوهلال
ترصد رواية “أوراق من شجرة الحياة” بلسان ساردها وبطلها الرئيسي عزيز مجموعة من العلاقات الإنسانية والصلات الاجتماعية لجيل مخضرم ذاق مرارة وبؤس الاستعمار، ويهفو مندفعا نحو شساعة الحرية بكامل العنفوان.
كما تروي تفاصيل دقيقة ومدهشة من حياة جيل يترعرع بين أحضان حداثة وئيدة منفلتة للتو من ربقة استعمار غاشم مقيت. والرواية بمعنى ما كتلة تجارب إنسانية وحزمة محن، ومرحلة معاناة لفصيلة من مجتمع يتحول من حال التساكن مع بؤس مرحلة الاستعمار الفرنسي إلى مرحلة تتسم بالأمل نحو بناء مغرب الاستقلال وترسيخ قيم الحرية عبر ممارسات حداثية معاصرة في مجال السياسة والنقابة وقطاع التعليم وكافة مجالات الحياة. إنها تباشير فجر ربيعي تتمطى ملامحه رمادية وتتثاءب خضراء يانعة في صورة شاب مفعم بالأمل والحياة. يهفو نحو نهار بملامح أكثر نضجا عبر مساحات شاسعة من الفرح بالذات والاحتفاء بالمكان. فرح تترجمه المشاعر المتدفقة برقة أسلوبية، وسرد سلس تنساب عباراته متفتحة لافتة في حقل بصري شاسع يلتمع بالمشاهدات والمقارنات، وتظلله المغامرات والمجازفات وفصول من الرعب الرحيم.
رواية “أوراق من شجرة الحياة” لمحمد بوهلال، قيدوم الصحافيين بالعاصمة العلمية فاس، هي سيرة ذاتية بامتياز، تعلن عن نفسها منذ البداية امتدادا موضوعاتيا لمنجزه الروائي الأول “في الضفة الأخرى”، وجاءت محمولة في 199 صفحة من القطع المتوسط، مزدانة بلوحة غلاف للفنان المغربي الملهم حسن جميل.
تنهض الرواية محفلا سرديا بهيا يتجانس في فضاءاتها الغنى الثقافي والاجتماعي في صراع حي من أجل حياة جديدة بطموحات مغايرة، تتجلى في أفكار وتطلعات متجاذبة متباينة البروز، حيث يلتئم الثوري غير المسلم بالاشتراكي المسلم، ويتجاذب اليساري باليميني، ويكترث الحداثي بالمحافظ، ويتقاطع النقابي بالسياسي، وينصهر الصحافي الإعلامي بالأستاذ المربي، فيما يلتحم الصانع التقليدي المسكون بالعراقة أبديا مع توابل الزمن وبهارات من عطر المكان في التحام أزلي بسحر وأصالة لا تساوم. لنقل عنها باقتضاب، فترة حياة متموجة يتأرجح فيها المزاج. وتمضي قدما متقلبة الأطوار، بطلها شاب أحب الحياة، وعاش تفاصيلها المريبة، المترعة بالخيبات والإحباطات بين العشق والرعب، الطموح والأمل، في عوالم متداخلة أثثتها السياسة والنقابة التعليم والصحافة إضافة للموروث المجتمعي القادم من الأعماق. لينسج في النهاية خيوطا من حياة مطرزة بالأمل، وعشقا رئيفا ينثال يافع الروح بلاهوادة.
مع عزيز البطل الرئيسي للرواية، نقتفي آثار حياة مليئة بالفرص المدهشة، والمغامرات الصادمة. ونطل من زاوية أخرى على تقلبات الزمن النقابي الصلب العنيد، ونجاري انجرافات السياسة في قفزاتها غير المفهومة أحيانا، ونتجرع طعم الخيبة في قرارات مصيرية تتخذ، ونشهد بمزاجية انزلاقات الشباب ورومانسياته وشغبه الجميل متقلب الأطوار. فعلى دفة الحكي الاسترجاعي الواعي الجريء، نستشف العشق روحا حين يسمو، وحين يرتقي إلى مصافي الروح. نستكشف الأمكنة قصائد وميازين نظمية. كما لو كنا أمام أشعار ملحونية عابرة للأجيال للراحل التولالي. فالشعور الذي يكتنفنا حين يعبر بنا الحكي كالنسيم الفضاءات والأمكنة، ويطوف دروب وأزقة أحياء والتواءات وطالعات فاس البالي مترا مترا، شبرا شبرا، تبدو المدينة العتيقة جوهرة سلطانية فريدة ومتفردة في عقد حضارة مملكة سطعت ولا تزال إشراقاتها تضيء عتمات الروح.
يمضي بنا عزيز نتنقل معه فوق عربة السرد الجميل السلس الممتع عبر محطات الزمن الفاسي العتيد تراثا وحضارة، أصالة وعراقة، ماضيه وحاضره. واقعه ومتخيله. نسترجع حالمين ومحمولين بنشوى الذكريات، ونرتب محطاتها بأجنحة جذلى على هوى الروح بنكهة المشتهى. استحضارات واستشهادات ملهمة عبقة، مجلوبة بحنية من التاريخ الذي يجمعنا، تسائل التاريخ الذي اكتفينا بقراءته مرور الكرام عن الحاضرة الإدريسية خلال فترات الخمسينات فما فوق نتخيل بجشع مفرط، ونسمح لخيالنا بالترحال في قطار من عاطفة مرهفة، فوق سكة من مسرات وأحزان، تمتد متقلبة الأطوار تماما كالحياة.
نستهل الرواية بحادثة مرعبة فوق سطح منزل العائلة، أثناء تناول طعام العشاء في سمر ليلي. حين سمع صراخا مفاجئا كان قويا مستغيثا. أما السبب، فلم يكن سوى لسعة عقرب سامة مست جسم والد عزيز زوج للا زينب، ليتدخل الحاج التهامي على الفور بوصفته التقليدية الناجعة. موسى حلاقة يمرره فوق مكان اللسعة محدثا ندوبا يمتص منها السم تضمد بأضراس ثوم يربطها بقماش على الندوب أمام أنظار الأهل والجيران، لتدب الحياة في جسم الوالد بعد إبادة جماعية للعقرب اللعين.
وما نكاد نسترجع الأنفاس حتى تستهوينا غراميات السطوح، المضمخة بهوايات شباب وشابات فاس البالي إبان تلك المرحلة، تبتدئ بتربية الحمام وغرس النباتات وممارسة عدد من الصناعات التقليدية كطرز الأحزمة وتذهيبها، فيما تنغل المراهقة للجنسين بعد المراجعة في اقتناص فرص الحب العابرة مع شابات جارات لسكناهم، بعد معاكستهم بأساليب باتت الآن متجاوزة، مرايا تعكس أشعة الشمس على الأجساد الغضة عبر الفتحات والنوافذ فتفيض بالشهوة العجلى أو المؤجلة.
ثم ينقلنا الراوي إلى عالم السياسة، عندما تستضيف الفقيهة الحاجة غيثة أشخاصا من عائلتها وتعاتبهم عن الغياب الطويل، لنكتشف معا أنها لم تكن تعرف أن المناضل الشاعر صلاح الوديع الأسفي كان في غياهب سجون النظام، ولم يغادره إلا بعد أيام قلائل. وقد أصر على زيارة أسرة زوجته بفاس رفقة زوجته المناضلة ثريا وولديهما صلاح وعبد العزيز.
وبمنزل عزيز سنكتشف صدمة الفنان الراحل عبد الرحيم السقاط الذي سيسافر إلى الاتحاد السوفياتي باقتراح من صهره محمد الوديع ضمن وفد رسمي مؤطر من حزب الاتحاد الاشتراكي، لتمثيل المغرب في أحد المهرجانات الدولية، لكن وبمجرد عودته من هذه الرحلة الثقافية تم توقيفه وطرده من جوق الإذاعة الوطنية، بدعوى انتمائه إلى حزب يساري معارض. والراحل عبد الرحيم السقاط كان ضمن ثالوث مبدع أنار المرحلة بمصابيح حب الشعر والموسيقى وفرقهم الموت. حيث كان منزله بمثابة منتدى ثقافي اجتماعي يستضيف لقاءات تجمع بين مثقفين وفنانين وموسيقيين رواد من بينهم الفنان والمطرب محمد المزكلدي والدكتور الشاعر الصوفي المولع بالموسيقى محمد السرغيني. ثم يعبر بنا نحو جلسات المقهى بالمدينة العتيقة ومناقشات فكرية ومذهبية تلامس إشكاليات ثقافية سياسية واجتماعية ولا يمر يوم دون إثارة المغامرات العاطفية والعلاقات الجنسية السرية والمعلنة. ومن مغامرات عزيز الرومانسية المتعددة نقتطف علاقته مع البتول، الممرضة التي تعرف عليها في مصحة أثناء إجرائه عملية جراحية، ليزداد إعجابه بجمالها. وتحركت عواطفه نحوها وبعد مغادرته المصحة تواعدا وأخذا يقضيان ليال رومانسية في شقة أحد أصدقائه. واستمرت علاقتهما إلى أن فاجأته بخبر زواجها من أحد أقاربها الذي يعمل مهاجرا بفرنسا.
ولأننا في الهزائم عرب، فقد جعلنا نتجرع بمرارة طعم هزيمة يونيو 67. حين انطلق صوت أحد رواد المقهى عاليا وهو يردد لقد حققت مصر انتصارا عسكريا ساحقا على إسرائيل وقصفت طائراتها تل أبيب، ودحرت قوات العدو دحرا، غير أننا نفاجأ بأن ما أشيع عن الانتصار العربي المصري لا أساس له من الصحة. بل أن الكيان الإسرائيلي هو من حطمت قواته جل الطائرات المصرية التي كانت جاثمة في القواعد العسكرية. والأنكى من ذلك، احتل صحراء سيناء كما هاجم سوريا واحتل الجولان، بالإضافة إلى احتلاله الضفة الغربية وأجزاء أخرى من الأردن. ليتأكد أن الهزيمة فضحت الأكاذيب وأسقطت الشعارات القومية والعنترية العربية الزائفة.
وفي فصل آخر، نشعر بالراوي عزيز يراكم الأسى، ويتحسر عن مآل المرأة المغربية بعد إهدار كرامتها بعد أن أصبحت تجارة الجسد بالأطلس قبلة للسياحة الداخلية والخارجية، وانتابه حزن عميق ليستكين في النهاية إلى تبرير مقنع لكنه غير مقبول. لأن البحث عن لقمة العيش لن تمر بالضرورة وليست هي السبيل لممارسة الدعارة؟ فنتعرف عن حكاية الضابط الليبي الكبير عبد المجيد صولو وصديقه اللذين أتيا للسياحة الجنسية والاستمتاع بالحياة بمدن الأطلس اعتمادا على معلومات استقياها من مواطنين ليبيين زاروا المغرب سابقا، وكان حديثهما يتركز حول الجنس وممتهنات الدعارة، وما تتمتع به الفتيات الأمازيغيات من جمال فاتن. ظل العقيد الليبي يتسكع ويقضي السهرات الليلية مخمورا حتى الثمالة في حانات الأطلس.
ويجرنا عذب الحكي وسلاسته إلى الحديث عن الرجات السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدتها المملكة المغربية، حيث تحيلنا الرواية إلى أسوأ ذكرى، إنه ذلك اليوم الرهيب حين طلع صوت المذيع المغربي الشهير محمد بن ددوش وهو يلقي بلاغ الثورة الفاشلة التي قام بها ضباط أكاديمية عسكرية مغرر بهم. وتم نقل البيان على أمواج الإذاعة الوطنية بعد أن حاصر عدد من الجنود المذيع وألزموه بقراءة البلاغ الثوري، الذي يعلن الإطاحة بالنظام الملكي لكن ظن الانقلابيين خاب بعد مرور وقت قصير. وانتهى المطاف بمقتل جميع الانقلابيين، ونجاة الملك الراحل الحسن الثاني، قبل إلقاء القبض على الضباط الطلبة المتمردين والزج بهم في سجن تازمامارت الرهيب.
وفي توازن سيكولوجي لافت، تحكي الرواية فصولا من حياة الكاتب المحفوفة بالخوف والتوجس من المجهول تارة، وبالموازاة مع ذلك، تستحضر لحظات مشرقة بالأمل والسعادة النفسية تارة أخرى. حياة اتسمت بالنضال السياسي والنقابي وعمل عزيز كإطار تروي بمركز تكوين المعلمات، بموازاة مع نضال رومانسي يجد تبريره في تعدد العلاقات العاطفية مع الجنس الناعم: لمياء وحسناء ونجاة … علاقات عاطفية تنتهي في الغالب بالهجر وتراكم الخيبات. ولعل محاولة الإقدام على الزواج ثانية، وهروب الزوجة ليلة الدخلة، لأنها لا تستطيع تحمل المشاكل الناجمة عن الزواج بعزيز لعدة اعتبارات، في طليعتها الغيرة القاتلة وحب عزيز الجنوني لزوجته الأولى العقيم. كان يربط علاقات مع عدد من الفتيات اللواتي يغرمن به لا سيما “نجاة” تلك البورجوازية الأرستقراطية التي حطمت كل أحلامه الجميلة. فهي تبادله الحب الكبير، لكنها ستتزوج شخصا آخر. مما جعله يوثر أن يظل محتفظا بتلك الذكريات رغم ما عاناه نتيجة قراره القاسي بقطع الصلة مع محبوبته. لكن ذلك الفشل العاطفي جعله ينغمس في النضال السياسي والنقابي ذي التوجه اليساري بكل جوارحه وعواطفه من أجل تحقيق مطالب الشغيلة التعليمية والطبقات المتوسطة. وبعد فترة مشحونة بالمراجعات قرر عزيز ولمياء فتح صفحة جديدة وعقد قرانهما وسط الأقارب والأصدقاء.
وبجرأة ومعاناة شديدة سيشاركنا المؤلف قساوة تجربة التعدد الزوجي، بما يسببه من معاناة ومشاحنات وأعطاب نفسية، وارتياداته السيكولوجية بين الهروب والعودة. ومن خلال ذلك يقدم تفاصيل مريبة من حياة مجتمع تقليدي مثل ما يحدث ليلة الدخلة في العرس التقليدي، كما يحكي بتجربة المتمرس ما يرافق تجربة التعدد الزوجي كتجربة عسيرة.
إن تجربة الحياة مع زوجتين هي تجربة عسيرة تحتاج من الراغب في التعدد الصبر والجلد والمقاومة والعمل على إرضاء الزوجتين في كل مناحي الحياة، فقد يعدل الزوج في متطلبات الحياة، ولكنه لا يستطيع التحكم في عواطفه، وكأنها تنتقم للحياة المشتركة وللصراعات الماضية التي خاضتها مع زوجته الأولى ووالدته أحيانا أخرى. وظل عزيز يعيش ظروفا صعبة قاسية لسنوات عديدة ويعمل كل ما في وسعه لإرضاء الزوجتين إلى أن فارقت زوجته الأولى الحياة بعد مرض عضال، فحزن على فراقها حزنا عميقا، وأذرف دموعا حارة وهو يودعها الوداع الأخير بعد مراسم دفنها. وكلما اختلى بنفسه، يعود إليه شريط حياته معها، والأيام والسنوات الرائعة التي قضياها معا، فقد أحبته المسكينة حبا جنونيا، وتنقلت معه خلال عمله في البادية، حيث ساعدته على التكيف والتغلب على قساوة الحياة بالدواوير التي كان يدرس بها. كما أنها لم تكن تحاسبه على مغامراته المتعددة، وإنه إن ينسى فإنه لم ينس إلحاحها عليه في الزواج بعد أن فقدت الأمل في الإنجاب. ولم ينس أيضا حبها الذي أغدقته على أبنائه الذين أحبتهم بقوة واعتبرتهم فلذة من فلذات كبدها، ولم ينس أيضا حضورها لزفافه بلمياء، وابتسامتها العريضة، وهي تستقبل المدعوين والمدعوات.
عبارة “مشاكل فاس في حجم عظمتها” وما نتج عنها من سوء فهم بين الملك الراحل الحسن الثاني وأعضاء المجلس الاتحادي بفاس، تقرب القارئ من أجواء أحداث 14 دجنبر الدامية المأساوية بفاس، وتأتي الصدمة القوية بعد اعتقال العديد من المناضلين بفاس حيث شعر عزيز بإحباط كبير، وتغيرت حياته بشكل جذري. وخلال أحد الاجتماعات التعبوية، تدخل بعض أعضاء غرفة التجارة والصناعة والخدمات بفاس، تحدثوا فيه عن الخسائر المادية التي نتجت عن النهب والسرقة التي تعرض لها تجار فاس، دون أن يشيروا إلى السبب الرئيسي الذي أدى إلى اندلاع شرارة الفوضى. وفي ختام الجلسة اقترح أحمد العلوي على رئيس المجلس آنذاك الدكتور الفيلالي عبد الرحيم إلقاء خطاب أمام الراحل الحسن الثاني. اختلى بعض أعضاء مكتب المجلس لتحرير الخطاب الذي سيلقيه الرئيس أمام الملك ورغم ما لأعضاء مكتب المجلس من خبرة سياسية، فقد وقعوا في هفوة لم يقدروا عواقبها رغم اعتراض عدد من الأعضاء على الجملة التالية “مشاكل فاس في حجم عظمتها”. إذ كان من المفروض أن يقدم رئيس المجلس جردا مدققا لمشاكل فاس، سواء من حيث البنية التحتية والعوائق التي تضعها السلطات المحلية لإفشال التجربة الجماعية الاتحادية، غير أن بعض المجتمعين اعترضوا على ذلك. وعندما ألقى الدكتور الفيلالي عبد الرحيم الكلمة باسم مجلس فاس، التي ورد فيها “مشاكل فاس في حجم عظمتها”، اعتقد الراحل الحسن الثاني عند سماعه تلك العبارة والأحداث المؤلمة التي وقعت تعكس إرادة أهل فاس في التغيير. ولأول مرة في تاريخ خطب جلالته يقوم بتسجيل هذه العبارة على ورقة مكفهر الوجه وعلى ملامحه غضب شديد.ص164
وتواصل شجرة الحياة التخلي عن أوراقها الواحدة تلو الأخرى. في تتناوب متناغم الإيقاع بين السلبي والإيجابي المفرح والمغرق في الكآبة سواء في العلاقات الاجتماعية أو السياسية. فلما عاد أعضاء المجلس الاتحادي فاس عبر الطائرة إلى مراكش، وهم يجرون خيبة أمل بعد الخطاب القوي الذي القاه الرحل الملك الحسن الثاني، ولم يستفيقوا من هول الصدمة إلا بعد قرار لجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي برأت أعضاء المجلس الاتحادي من الأحداث التي عرفتها فاس يوم 14 دجنبر 1990. وفيما ظل البطل عزيز وفيا لالتزاماته أمام ناخبيه كمستشار اتحادي ظلت أحلام وردية تراوده من أهمها إنشاء الصالون الثقافي وجعل منه ملتقى للأدباء والفنانين والمبدعين ورجال السياسة.
شكل الصالون الثقافي إيريس في قلب العاصمة العلمية بين تقاطعي شارع الجيش الملكي وشارع محمد الخامس قبلة للعدد من رجال السياسة والفكر والفنون السبعة. وكان في طليعتهم الزعيم السياسي الراحل اليهودي المغربي شمعون ليفي، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، والمناضل عبد الرحمان الغندور، ورئيس المجلس البلدي الأسبق عبد الرحيم الفيلالي، وكذا رئيس مجلس فاس السابق حميد شباط، وعدد هام من السياسيين من مختلف الأطياف. الدكتور الخضوري محمد المرغادي، محمد عامر، إلى جانب جل المناضلين الاتحاديين بفاس، وعدد هام من النقابيين والمناضلين من مختلف الأحزاب اليسارية. محاضرة كل أسبوع في موضوع سياسي أو ثقافي أو فني تتخللها نقاشات فكرية وايديولوجية جادة. كما استضاف الصالون الثقافي ايريس وفودا من دول عربية وأوروبية من تونس ومصر، من بينها الوفد الإعلامي الفرنسي رفقة الزميل يونس مجاهد، وكان من رواده الشاعر الصوفي الدكتور محمد السرغيني والراحلان الدكتور محمد الكغاط والشاعر والروائي المهدي حاضي والسوسيولوجي احمد شراك، وعدد من الإعلاميين المرموقين كعبد السلام الزروالي. ومع مرور الأيام، قهرا ماديا، سيغلق هذا الفضاء أبوابه مخلفا وراءه تاريخا حافلا بالعطاء في المجال الثقافي والسياسي والعلاقات الإنسانية التي تعد من أهم المكاسب التي ستظل حية في نفوس الجميع مخلفة أجمل وأرقى الذكريات. لقد خفت الحركة الثقافية بالصالون الأدبي إيريس، نظرا لكون عدد من المثقفين والمنتمين إلى أحزاب سياسية أخرى كان يتحرجون من ارتشاف فناجينهم وقراءة الجرائد حتى لا يطلق عليهم أنهم انتسبوا لحزب الاتحاد الاشتراكي.
ولعل التقديم الوارف للرواية بقلم الدكتور رشيد بناني وهو من جيل بوهلال، الذي تجمعه به الكثير من التجانسات والصفات، جيل خبر تضاريس فاس وجغرافيتها، بالقدر نفسه تشرب عن كثب واقع فاس وأحيائها ودروبها وحاراتها وأسواقها وطالعاتها مدارس وزقاقات، إنها نكهة الجيل وطعمه المضمخ بالماضي المشترك وملح الصداقات العابرة للأجيال. يقول رشيد بناني عن جيل المرحلة: “هو الجيل الذي فتح عينيه على نهاية عهد الاستعمار الفرنسي وبداية فترة استقلال المغرب وبناء مجتمعه العصري ودولته الحديثة، جيل ولد وفتح عينيه وترعرع في نفس المكان الذي هو نفس المكان فاس في أواخر أيام عنفوانها وتركيزها لما هو جميل وأصيل وعبقري من الثقافة المغربية العريقة حين كان محبو هذه المدينة يقولون عنها حين تذكر لهم: فاس والكل في فاس” مضيفا: “أتمنى لو أن كل واحد من هذا الجيل ساهم بكتابة مثل هذه الذكريات، وضمّنها تجاربه العامة ومعاناته الخاصة، ومشاهداته لمجتمع مغربي في خضم هذا التحول الذي عرفه المغرب”، وهو تحول اجتماعي وحضاري عرفته مدينة فاس كما غيرها من المدن والأرياف.
في ختام الرواية السيرة الذاتية، وفي باب نوستالجيا، وهو فصل خصصه المؤلف لاسترجاع ما كتبه ثلاثة من مثقفي ورواد الصالون الثقافي ايريس، يتعلق الأمر بمقال تحت عنوان “للأمكنة سحرها ورائحتها” بقلم الدكتور إدريس الواغيش، “العلاقة بين المثقف والاعلامي” لعزيز باكوش، “أنوار الثقافة في المدينة” للأديب والشاعر باللغتين العربية والفرنسية الأستاذ محمد السعيدي… فقط عينة ممن سلطوا الضوء على عدد من الشخصيات الأدبية والسياسية والإعلامية المعروفة بالمدينة، التي تعايشوا معها حين كانت ترتاد هذا الفضاء الثقافي الذي يجر وراءه تاريخا حافلا بالعطاء في المجال الثقافي والسياسي والإنساني.
المصدر: هسبريس