اخبار السودان

حرب جنرالات السودان…من منظور السوق السياسي «3»

 

حرب جنرالات السودان… «3»

من منظور السوق السياسي…

مهدي رابح

⸨ في اعقاب انفصال جنوب السودان وبالتالي فقدان مصدر الدخل الأساسي الذي كان يوفره البترول, انتهج النظام الحاكم استراتيجيات جديدة لتمويل عملياته وسياساته, لكن كل واحدة منها تضمنت مساومات أساسية. الذهب المستخرج تقليديا يستغل للتصدير مقابل الكلفة المضاعفة للتضخم الاقتصادي وتمكين المليشيات التي تسيطر علي المناجم. كلفة استئجار الخدمات العسكرية للمملكة العربية السعودية ودولة الامارات المتحدة (ارتزاق الدولة) انتج غرماء متنافسين في المركز. اجارة الأراضي الزراعية وزيادة الضرائب علي الدخل شكل ضغطا علي أولئك المواطنين الذين انتفعوا من حقبة الطفرة الاقتصادية المرتبطة بالبترول. ⸩
من ورقة الخبير في شؤون السودان والقرن الافريقي البروفيسور اليكس دي ڨال بعنوان ” السودان كسوق سياسي” نشرت في أغسطس من العام 2019م.
…………………………………………………….
قصة حرب جنرالات السودان هي بالتأكيد قصة الاقتصاد السياسي في هذه البلاد خلال العقود الستة الاخيرة, والتي يمكن تقفي اثر اهم فصولها في مفتتح السبعينات عندما بدأ النظام السياسي في التحول الي سوق سياسي بامتياز، يتم فيه تحويل الولاءات والمناصب والخدمات السياسية الي سلع تُقايَض, تباع وتشتري , ويمكن ارجاع سبب هكذا تطور الي عاملين أساسيين , الأول هو استشراء الفساد نتيجة لتدفق قروض كبيرة من المجتمع الإقليمي ثم الدولي لدعم الموازنة العامة التي كانت تعاني من تراجع كبير عقب اعوام من انتهاج سياسات التخطيط المركزي للدولة وتأميم اهم مؤسسات القطاع الخاص, ولاحقا لتمويل إعادة بناء الجنوب ومشروعات عامة كبري سيئة التخطيط والتنفيذ، العامل الثاني هو بداية انتهاج الحكومة لما يسمي ب “سلام قائمة الرواتب” Payroll Peace او السلام مدفوع الاجر والذي تمثل فيه اتفاقيتي اديس ابابا للسلام مع متمردي جنوب السودان عام 1972م و المصالحة الوطنية عام 1977م مع القوي السياسية المعارضة اهم علاماته الفارقة.
تاريخيا اقتصر اللاعبين الأساسيين في السوق السياسي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي علي حزب الامة ممثلا لمصالح كبار المزارعين والاتحادي لكبار التجار, بينما الشيوعي والقوي الحديثة للمنتسبين للبيروقراطية (طبقة الافندية) والقطاع العمالي المنظم (عمال السكة حديد والمشاريع الزراعية المروية) لكن المصالحة الوطنية عام 1977م اتت لتشكل تدشينا لدخول لاعب أساسي جديد الي حلبة الاقتصاد السياسي يتمثل في اقحام تنظيم الاخوان المسلمين، بقيادة حسن الترابي للبنوك الإسلامية في دائرة الاقتصاد والتي تم استخدامها عبر ما سمي بالتمويل “الإسلامي” كأداة سياسية تستهدف عبر دعمها للقطاعات الاقتصادية الصاعدة, الخدمية في غالبها وغير المنظمة, الي بناء حواضن سياسية جديدة.
السوق السياسي شمل الجيش أيضا لاحقا بتكوين نظام النميري للمؤسسة الاقتصادية العسكرية عام 1982م ودخولها منافسا في النشاط الاقتصادي بهدف شراء الولاء السياسي لنخبة ضباط الجيش وكبح جماح غرائزهم السلطوية ورغباتهم الانقلابية.
مع تجدد حرب الجنوب عام 1983م وازدياد عجز الموازنة العامة تسارعت وتيرة التحول الي السوق السياسي بسبب الاستخدام المكثف للمليشيات التي تحارب بالوكالة عن الجيش , لقلة كلفتها وسهولة التهرب من مسؤولية ما تقوم به من اعمال مروعة وجرائم حرب وانتهاكات بالغة للحقوق الأساسية للمدنيين العزل, ومع دخول العام 1985م ونتيجة للإدارة المالية السيئة لحكومته اصبح النميري غير قادر علي تمويل نظامه الكليبتوقراطي المركزي المكلِّف والحفاظ علي الولاءات وهو ما ادي لاسقاطه عقب هبة شعبية قادتها القوي الحديثة ودعمتها القوي التقليدية الطائفية لاحقا واتخذت خلالها المؤسسة العسكرية والاسلامويين موقفا محايدا الي حد كبير.
لاحقا لم يتمكن رئيس الوزراء الامام الصادق المهدي المنتخب عام 1986م من التحكم الكامل علي مقاليد الحكم وادارته بصورة فاعلة, لأسباب غالبها موضوعي تمثلت في عدم وجود حاضنة سياسية لنظام الحكم في المركز وعدم توفر المال السياسي الكافي للتعويض عن الأدوات القمعية التي لا تتوافر بطبيعة الحال للنظام الديموقراطي لتمكنه من تحقيق حد ادني من الاستقرار السياسي.
وما زاد الوضع سوءا حينها هو اتساع رقعة النزاعات, في الجنوب بفعل تجدد الحرب وفي دارفور بسبب تدفق السلاح من تشاد وليبيا وفقدان السيطرة من قبل أجهزة الدولة وبالتالي الاستمرار في عملية تسليح المليشيات القبلية للقيام بدور القوات الرسمية وفرض حد ادني من الاستقرار. كل هذه العوامل أدت الي تململ الشارع بفعل التدهور المعيشي وتململ الجيش بفعل الوضع العسكري السيء وهو ما مهد لنجاح مؤامرة لاسلامويين وتنفيذهم لانقلاب يونيو 1989م او ما عرف في مصطلحهم الدعائي ب” ثورة الإنقاذ الوطني”.
تبني الإسلاميون لتثبيت اركان حكمهم عقب الانقلاب منهج القمع العنيف للمعارضة وتفكيك النقابات والاتحادات وتطهير القطاع العام من غير المنتسبين لهم وتمكين منتسبيهم من مفاصل الجيش والخدمة المدنية واستهداف القطاعات الاقتصادية التقليدية, ما مكنهم من إدارة السوق السياسي بأقل التكاليف الممكنة. كما اسسوا شبكة متقنة من اليات التمويل الموازي التي غطت تكاليف المليشيات التي بدأت تتناسل وهو ما شمل بجانب مؤسسات اخري منظمات إسلامية عابرة للحدود كانت تغطي أيضا وظائف النشاط التجاري, الخدمات الحكومية الشركات الأمنية وتمثل هيكلا موازيا للدولة.
يمكن تقسيم حكم الإنقاذ الي ثلاث فترات رئيسية, حكم ثنائي بقيادة البشير والترابي 1989 1999 حيث كانت المنصرفات الحكومية منخفضة ويتم تمرير المال السياسي عبر الآليات الموازية المشار اليها سابقا, ثم فترة التفاوض مع الحركة الشعبية واندلاع الحرب في دارفور واتفاقية السلام الشامل 20002011 والتي شهدت تمويلا سياسيا واسعا ومكثفاً بفضل المداخيل التي وفرها البترول وأخيرا فترة ما بعد انفصال الجنوب والتي شهدت عجزا كبيرا في الموازنة وانخفاضا في قدرة التمويل السياسي وبالتالي القدرة علي عقد الصفقات السياسية واتفاقيات السلام وهي الفترة التي شهدت بزوغ ثلاث قطاعات اقتصادية جديدة صاعدة, الذهب, التهريب والارتزاق الرسمي (ارتزاق الدولة) وسقوط راس نظام الانقاذ في 2019م.
من منظور الاطار التحليلي للسوق السياسي فان السودان انتقل من نظام اقتصاد سياسي كليبتوقراطي مركزي خلال حكم النميري الي نظام احتكاري تعددي وتنافسي وتصادمي في عهد الإنقاذ ركيزته تعدد الجيوش والمليشيات وهو نظام استمر بعد ثورة ديسمبر 2018م لكن مع تغيير رئيس مجلس إدارة السوق السياسي ( علي حد تعبير اليكس دي فال ) من البشير الي حميدتي ساعده في ذلك مزيج قدرته علي المناورة وشراء خدمات جنرالات الجيش بما فيهم البرهان ما مكنه من تعزيز قوته العسكرية وفرض استقلالية قراره وتحركاته وقدرته علي شراء ولاء شرائح من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بالاخص وسط الإدارات الاهلية, بالإضافة لتمتعه بدعم إقليمي مقدر وسيطرته علي القطاعات الاقتصادية التي تدر عملة صعبة ( الذهب والتهريب والارتزاق) كل ذلك جعل منه اللاعب الأهم في السوق السياسي خلال فترة ما بعد الثورة.
وفي حين سعت القوي السياسية الديمقراطية وابرزها تحالف الحرية والتغيير عبر الاتفاق السياسي الموقع مع المكون العسكري في اغسطس 2019م للانتقال الي نظام حكم ديموقراطي مؤسسي كان من الواضح في المقابل ان حميدتي من جهة والبرهان من الجهة الأخرى, المدعوم داخليا من الجيش وعناصر النظام لسابق وشبكات نفوذهم وخارجيا من النظام المصري, كان كل واحد منهما يسعي للانفراد بالسلطة والتأسيس لديكتاتورية مؤسسية طويلة الأمد.
الطبيعة التصادمية لمركزَي نفوذ السوق السياسي الممثل في البرهان وحميدتي والمؤسسات المسلحة التابعة لهما او المرتبطة بهما وشبكات داعميهم بدأت تظهر ملامحها منذ عام 2020م ووصلت قمتها في يونيو 2021م حين نجحت جهود القوي السياسية المدنية في نزع فتيل ازمة مستفحلة بين الجنرالين كادت ان تتحول الي مواجهة عسكرية, والذي بدأت تتجلي للجمهور في ظهور حوائط صد ترابية ضخمة حول مقر القيادة العامة للجيش في تلك الفترة , ورغم وصولهما لنوع من التوافق عقب تلك الازمة وتأكيدهما ان الجيش والدعم السريع هما روح واحدة في جسدين ثم تامرهما لاحقا علي الشركاء المدنيين وتنفيذ انقلاب الخامس عشر من أكتوبر 2021م استمر السور حول القيادة في الارتفاع و التمدد لكن هذه المرة تحول الي سور صلد من الخرسانة المسلحة.
التوتر بين معسكري الجنرالين تصاعد بوتيرة كبيرة عقب الانقلاب عندما اتضح بما لا يدع مجالا للشك لجوء البرهان, الفاقد لاي سند داخلي او خارجي الي الاستعانة بعناصر النظام السابق من الاسلامويين, المتغلغلين في كافة مؤسسات الدولة وعلي راسها الجيش والمخابرات ( تجدر الإشارة الي ان البرهان وفر الحماية الشخصية لقائد الاسلامويين المتشدد علي كرتي منذ سقوط نظام البشير مما مكنه من تجنب مصير زملائة في السجن ووفر له مساحة حركة واسعة مكنته من إعادة ترتيب صفوف تنظيمهم بما فيها الكتائب المسلحة السرية او ما يسمي بكتائب الظل، المشاركين بفاعلية بجانب الجيش في معاركها منذ 15 ابريل 2023م).
ادي فشل الانقلابيين من إيجاد صيغة توافقية الي استقلال مركزي القوي بشكل شبه كلي وتآكل عمل الدولة المؤسسي وتحول السوق السياسي الي ما يسمي بالسوق الحر وهو مرحلة مرتبطة بحكم المليشيات ذو الطابع العنيف, الفوضوي وغير المستقر.
كما ادي تربص كل منهما بالآخر متزامنا مع فشلهما في فك عزلتهما الداخلية والخارجية او تكوين حكومة مكتملة الأركان الي اضطرارهما الدخول في العملية السياسية المصممة والمقترحة من تحالف الحرية والتغيير والتوقيع علي الاتفاق السياسي الاطاري يوم 5 ديسمبر 2023م و علي اتفاق مبادئ واسس الإصلاح الأمني والعسكري ودمج الدعم السريع في الجيش يوم 15 مارس 2023م بل كان الطرفان علي بعد خطوات قليلة من التوقيع علي الاتفاق النهائي الذي كان سينهي الانقلاب ويعيد البلاد الي مسار انتقال سياسي ديموقراطي.
لا احد في العالم بما فيه حميدتي شخصيا يصدق دعواه بنيته العمل علي تحقيق التحول المدني الديموقراطي او انه يحارب اليوم من اجل ذلك او تصريحات البرهان بنية جنرالات الجيش الانسحاب من الحياة السياسية وتسليم السلطة للمدنيين اوانه يحارب اليوم من اجل الكرامة الوطنية كما يدعي, والكل كان علي يقين انهما كانا يناوران منذ سقوط رئيسهم السابق البشير كلٍّ لتحقيق مشروعه السياسي الشمولي الخاص لكن العملية السياسية التي اجبرتهم عديد العوامل الموضوعية على الرضوخ لها كانت ستجعل هامش حركة برهان وداعميه الإسلاميين محدودة واضيق بكثير من تلك المتوافرة لحميدتي الذي يمتلك جيشه الخاص وحواضن اجتماعية اكبر وأكثر تمساكا, فالنسبة للإسلاميين, والذين اعلنوا صراحة نيتهم إراقة الدماء من اجل عرقلة العملية السياسية ومهما يكن الثمن , فان قضية تحقيق العدالة وتفكيك النظام السابق وإصلاح الجيش وغيرها من القضايا التي تضمنها الاتفاق السياسي تعني خروج منظومتهم والي الابد من الحياة السياسية والاهم من ذلك تعني تهديد مكتسباتهم ومصالحهم وامتيازاتهم بصورة مباشرة وهذا هو الجوهر الحقيقي للحرب الدائرة الان, فهي ليست حرب تحول ديمقراطي ولا كرامة وطنية .. هي حرب قميئة من اجل امتيازات ومصالح مركزها الجنرالات الفاسدين وعناصر النظام السابق من الاسلامويين.
……………………………………………
في عين الورقة المشار اليها أعلاه وفي افتتاحيتها يذكر الخبير ان المعضلة الرئيسية التي تواجه حكام السودان اليوم (ذلك كان في أغسطس 2019م) هي وبغض النظر ان كانوا عسكريين او شبه عسكريين ( يشير الي الدعم السريع) او مدنيين تكنوقراط او سياسيين هو ان الامر لا يقتصر فقط علي انهم لا يمتلكون الموارد المادية الكافية او الكفاءة الفنية لادارة سوق سياسي يتسم باعتماده علي الارتزاق المليشيوي والرأسمالية الطفيلية الفاسدة بل يتعدى ذلك الي افتقادهم للأدوات التي تمكنّهم من تغييره.
يتبع …
#مدنية
#لاللحرب
#ستنجو_بلادنا_وسنعيد_بناءها

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *