اخبار السودان

خواطر حزن وأمل وعيدية تشبه قسوة المجرمين

خواطر حزن وأمل وعيدية تشبه قسوة المجرمين

هادية حسب الله

نهار يوم الوقوف بعرفة لم أجد ما أفعله لأول مرة منذ أن وعيت على الدنيا، لم يكن على إنجاز شىء يخص البيت ولا قمت بمتابعة “الشربوت”، ولا تجهيز “الشطة” والمخلل. لم أقم بتغيير الستائر ولم أضع حلواي بغرفة أمي الكبيرة ولم أجهز الفوط والملايات للتعريشة. بل الأهم لم أجهز بلحاً وموزاً وبسكويت مفرمة أو منين لزيارة المقابر.

لم أفعل أي شئ سوى إعادة تنظيم غرفتنا الوحيدة التي استأجرناها بولاية أكثر أماناً وقرباً للخرطوم. لا يوجد الكثير لأفعله. في غرفتنا الوحيدة تقبع ثلاجة صغيرة لم تنجُ من محاولاتي لنظافتها.

بحثت عن انشغال ما يجعلني بمناخ العيد. للأسف باءت كل محاولاتي بالفشل. أفطرت فقد كنت صائمة بصحن سلطة بالجبنة ليس لدينا مطبخ فتبدو السلطة كوجبة أكثر “بيتية” قياساً بالسندوتشات. تصفحت عشرات التهاني المختلطة بحزن نخجل من الافصاح عنه “فالدنيا عيد” نمت باكراً.

لأصحو الآن عند انقطاع الكهرباء حوالي الثانية فجراً. أفقد شهية متابعة الأخبار فإعلان التعبئة العامة كان عيدية تشبه قسوة المجرمين. أنصت  لأصوات بعيدة مختلفة. صوت شخير بالغرفة الملتصقة. شخير غير منتظم لشيخ كبير أخرجته وأسرة ابنه الحرب. لم يتمكنوا من الحصول على فيزا دخول لمصر فقفلوا راجعين. شخير عالٍ ومتنوع. يبدو واضحاً أنه لا يجد راحة بالتنفس كحالنا جميعا يجثم على صدورنا حجر ثقيل. عشرات الأعياد تحلق أمام نومه بخرافها بعافيته بصوته الزاعق مع الضباح ومناوشات الأحفاد.. ومرحب بالضيف.

يأتيني كذلك صوت عربات تمخر الشارع الرئيسي السفري عجلى محملة بالهاربين والهاربات من شوارع الموت بالخرطوم. يمتطيها بالغالب شباب عاندوا الأهل بالخروج فأخرجتهم توسلات الأمهات الباكية. يسافرون وهم يعدون بعضهم أنها سفرية قصيرة للعيد وسنعود. وبداخلهم شك كبير بهذا. تسابق عجلات البصات أذان العيد تنوء بحمل بيوت بكاملها. أحزان ثقيلة. يدنو صوتها مني فكأني أسمع نشيجها.

من غرفة قريبة وضع أحدهم تلفونه بقربه ونام.. فاتجول مع اليوتيوب من سورة يس إلى تكبيرات العيد. إلى سور أخرى أكاد أميز بها صوت  المقرىء عبد الباسط عبد الصمد، أتتني آيات من سورة يوسف أحبها وأرددها كثيراً. فجأة قطعت صمت الليل واااضحة كأنما تخاطب يأسي وضيقي: (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

تسللت إلى النعم المدسوسة وسط هذا الحزن. شعرت ببعض الهدوء وأنا اتذكر رسالة صوتية لشاب من الثوار. وصلتني ظهراً. حكى لي فيها بصوت به صبر كبير أنه لازال موجوداً بالخرطوم. متطوعاً بخدمة الذين لم يتمكنوا من المغادرة. الذين اختاروا البقاء تحت القصف وإيمان عظيم يصبرهم بالنجاة. حكى لي أنه قد حاول الذهاب لمنزلي للاطمئنان عليه وإغلاقه إن وجده مفتوحاً.. ولكن الوجود الكثيف لقوات الدعم بالشوارع أرجعه دون أن يصل منزلي. غمرتني المحبة والرعاية.

أتاني دفق من الهدوء.

فجأة تذكرت صاحب “قدرة” الفول الذي مددت له بالإناء الوحيد معي لشراء فول فقال لي هذا الإناء صغير. أخبرته أنني لا أملك سواه فأنا قادمة من الخرطوم.. فهز رأسه بحزن ورفض أن يأخذ ثمن الفول عندما أصريت اقتسم معي المبلغ. شكرته والعبرة تملأ حلقي. عندما جلست رفعت نظري لأدقق بملامحه كي أعاوده. فرأيته يمسح عرقه بطرف قميصه وينظرنا بتعاطف كبير التقت نظراتنا حاول أن يرسم ابتسامة فاشلة. فسالت دمعتي.

تذكرت أمس الأول بائع “الطعمية” قلت له ممازحة (لا تعطيني سوى طعمية طازجة من الصاج فأنا عادة لا اشتري الطعمية من الطريق ولكني الآن نازحة) رفع نظره بحزن وقال لي بشبه غضب لا أنت في بلدك. واعتذر عن سلوك تجار الحرب معنا. قال لي بحزن غالب هذه الاستثمارات لا تخص سكان المنطقة والله لو كانت ملكنا كانت ستكون مفتوحة ترحيباً بكم. حكى لي عن استضافته لأكثر من أربعين شخصاً بمنزله. أصدرت صوتاً مستنكراً “لاحولا” فرد لي بفرح. عمروا بيتي وزادوا رزقي… الضيف رزق. وكعادة البسطاء بهذه المدينة رفض أن يأخذ نقوده إلا بعد “ملاواة”.

فكرت بارتياح في زيارة عم صديقتي وزوجها الذين أتوا إلينا من مشوار ليس بالقريب. أصروا على أن يأخذونا معهم لقضاء العيد ولم يقتنعوا بالذهاب دوننا إلا بعد وعد قوي بأننا سنحضر مبكراً. سالت دموعي وأنا أشكر العم وأنا أحاول وداعهم بدون أن يمتلكني نشيج البكاء نظرت إلى العم فوجدت دموعه تملأ عيونه التي أحمرت سريعاً وردد دعوتي بأن يرجعنا الله لبيوتنا سريعاً. ربتت دمعته على غربتي وقالت لي لسنا غرباء.

فجأة تنبهت أن العيد الماضي لم يكن هو مثل تلك الأعياد المثالية التي استدعيها منذ الصباح.

في العيد الماضي لم استحم صباحاً وأكاد أكون ميزت يوم العيد. كنا راقدين بالأرض وأسرة أخ زوجي معنا نتبادل تطمينات كذوبة. وصوت المدافع حولنا.. إننا أحياء. صحيح الأرواح معلقة بالخرطوم إلا أننا لازلنا هنا. فشكرت الله.

كل هذه اللحظات بدت لي كنعم متفرقة. لحظات من التواصل الإنساني لا تتوفر كثيراً.

بدأ العيد يستأذن الدخول. انا بعض حمد كثير. بعض رجاء وحسن ظن. انا بعض عشم في رحمة الله لهذا الشعب المميز.

كل عام وشعبي يزيح يأسي ويبدد حزني. ويصنع أعيادي.

ألف رحمة ونور على الشهداء وقلبي مع كل الأمهات الفاقدات، سلاماً من هنا إلى قبور أحبابي المنتظرين لزيارتي أبي العزيز وجداتي وخالي الوحيد وخالتي.

وإلى قبر أمي التي أزورها كل جمعة ومن المؤكد قد شق عليها غيابي.

عذرا أمي لغيابي عن زيارة قبرك صباح العيد بيني وبينك كان الهواء ثقيلاً برائحة الموت. ورائحة عشرات الجثث المحترقة.

بيني وبينك كانت الرصاصة تدفن الحيوات ولا يوقفها صراخ الفجيعة.

بيني وبينك كانت أبواب المستشفيات المغلقة بحزن كوادرها العاجزين/ات.

بيني وبينك كان صبر الأمهات العظيم وهن يرتبن بيوتهن لمرة أخيرة. نازحات عنها ولا يعلمن متى سيعدن للبيوت التي أسسوها وعشقوا كل تفاصيلها.

بيني وبينك كان طمع المجرمين وشهوة الطامعين باستعادة حكمهم الذين أراقوا الدماء كما يتغنون (فلترق كل الدماء).

بيني وبينك خوف كبير كشف قبح بعضنا ولكنه كشف كذلك عظمة وروعة  الكثيرين.

سلاماً حملته إلى ابن أخيك الذي أرسل لى مطمئناً وسط الرصاص: أعلم أن أكثر ما يوجعك الآن أنه لن يكون هناك من سيزورها ولكنني سأزورها وسأدعو لها. فسلاماً لروحك هناك، محزونة اتخيلك وأكاد أسمع نواحك. وتوصيفك. أم تراك تشاهدين آخر هذا النفق وترين أن ثمة أمل وخير هناك؟

يا رب لطفك. وأعياداً قادمات أزوركم فيها برحمته بإذن الله.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *