الباحث المغربي كزّو يرحل إلى عوالِم ديكارت
صدر هذا الشهر عن دار الآن ناشرون وموزعون بعمان/الأردن 2023م، الطبعة الأولى من الإصدار الثاني للكاتب الباحث محمد كزّو، من الحجم المتوسط في 164 صفحة، تحت عنوان رئيس: “رحلة ميدانية في عوالم ديكارت” وعنوان فرعي: “حول تعثر الحداثة عربيا”، حيث جاء العنوان هذه المرة فريدا، من الشكل وكذا من حيث المضمون، على اعتبار أن مزاوجة آداب الرحلة مع الفكر الفلسفي شيء متميّز، وكذا الغوص في إشكالية الحداثة التي أرّقت الإنسان الغربي نفسه، قبل العَربي، وهو ما تجلى في قوة العنوان الفرعي بتعثر الحداثة على مستوى العالَم العربي.
احتوى الكتاب على مقدمة، وتسعة محاور، وخاتمة، وضَم من حيث الدراسة والتحليل الفكر الديكارتي من خلال أعمدته الفكرية التي تجلَّت في كُتبه الهامة، سواء أكانت العِلمية كـ “العالَم أو كتاب النور”، أو كانت فلسفية كـ “تأملات ميتافزيقية في الفلسفة الأولى” أو كتاب “مقال عن المنهج”، واللمسة الاستثنائية هي الزيارة الميدانية التي قام بها الكاتب لمنزل ولادة رونيه ديكارت غرب فرنسا، فكان محور كامل يشمل هذه الصور بتعليقات عليها.
فبعد المقدّمة التي تناولت حيثيات الزيارة، وكيف جاءت فكرة الكتاب، كان المحور الأوّل تحت عنوان: “حديثي مع موظّفة رونيه ديكارت”، وهو محور تضمن حديثا سريعا، كان الكاتب قد أجراه مع موظفة البيت “بوليكان سيلڤي”، كاتبة وروائيّة ومؤرّخة فرنسيّة، حاصلة على الماستر في الآداب بعنوان: “الجينات في أدب القرون الوسطى في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر”، وحاصلة على الدّكتوراه في الآداب والتّاريخ والحضارات من مركز الدّراسات العليا في عصر النّهضة، تحت عنوان: “اضطراب الشّباب والأحداث في القرنين الرّابع عشر والخامس عشر”. كانت أمينة مكتبة كلّية “فرانسوا رابليه” في المعهد الفرنسيّ، ثمّ مسؤولة لسنوات عن مكتبة بلديّة “سان بيير دي كور”، وتعمل حاليًّا مسؤولة ومديرة “منزلمتحف رونيه ديكارت” غرب فرنسا في منطقة “تورين” منذ 2006، وإلى الآن. وأما المحور الثّاني بعنوان: كيف قطف ديكارت ثمار العِلم والفلسفة؟ كان حول الأسباب التي جعلت رونيه ديكارت يُكمل مشروعه العلمي الفلسفي رغم كونه من المدافعين عن مركزية الشمس التي أودت بحياة جوردانوا برونو بالحرق حيا أمام الملأ سنة 1600م، وكذلك زَجّت بجاليليو جاليلي في السجن المؤبد سنة 1633م، فكان ديكارت ذكيا بحيث استعمل منهجا عظيما بالوصل بين الفكر والعِلم، حتى أنهى أركان مشروعه.
فيما كان المحور الثّالث بعنوان: “كتاب العالَم أو كتاب النّور” ألَّفَهُ سنة 1633م (نُشر سنة 1664م)، ظهر الكتاب بعد موته لأنّه خاف مصير المُحاكمة التي تعرّض لها جاليليو جاليلي في روما بسبب دوران الأرض، وهي الفكرة الكوبيرنيكيّة التي غيّرت الفَلَك؛ فعاصر ديكارت جاليليو الذي كان في أوج فتراته البحثيّة والعِلميّة وكان يكبُر ديكارت بحوالي عقدين مِن الزّمن، وتصله الأخبار أوّلًا بأوّل فخاف مصيرَه، وهكذا تناول الكِتاب الصّياغة الفلسفيّة للدّوران، وقدّمها بشكل صريح وواضح، وهي فكرة القصور الذاتيّ بشكل فلسفيّ، فحيثما خاف الكنيسة أَجَّلَ أوراق هذا الكتاب.
أما المحور الرّابع فجاء بعنوان: “كتاب مقال عن المنهج” نُشر أول مرة سنة 1637م، أقرَّه مقدّمة لدراسة عِلميّة تشمل: البصريّات أو مبحث انكسار الضّوء، والأرصاد الجوّيّة، والهندسة؛ فلمّا أَجَّلَ كِتاب “العالَم أو النّور” انشغل في الدّراسات الفيزيائيّة العِلميّة بالأساس، وتشكَّل هذا الكِتاب مقدّمة لتلك الدّراسات، بل ويُعتبر بحقّ سيرة ذاتيّة ذهنيّة، بدقيق العبارة، لمنهج ديكارت العِلميّ الذي سيُفَرِّغه لاحقًا في “التّأملات” إرضاء للكنيسة واتّقاء شرّها، وفي الوقت نفسه تمرير مبادئ فلسفته وعِلمه، اللّذان يناقضان فلسفة وعِلم أرسطو المُتبنّى مِن قِبل الكنيسة، فالمواجهة مواجهة عِلم لعِلم، وليس كما يشاع مواجهة الكنيسة للعِلم. فالكِتاب “مقال عن المنهج”، تأكيدًا لكتابه “العالَم” من جهة، وتمهيدًا لكتابه “التّأمّلات” الذي سيصدر بعده مباشرة من جهة أخرى، وبداية عهد الفلسفة بعد عهد العِلم في حياته طبعًا، وهي العقد الأخير منها. وقد اشتمل الكتاب على ستة أقسام هي: القِسم الأوّل: أنظار في العلوم المختلفة القِسم الثّاني: أصول القواعد للمنهج الذي بحث عنه القِسم الثّالث: الأخلاق الدّيكارتيّة بين العقل النّظريّ والعقل العَمليّ القِسم الرّابع: تأمّلات ديكارت في ألمانيا القِسم الخامس: الطّبيعة والعِلم الجديد القِسم السّادس: الأسباب الحقيقيّة وراء إخفاء الكتاب وإظهار فقط بعض أفكاره.
في حين كان المحور الخامس بعنوان: “كتاب تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى” نُشر أول مرة سنة 1641م، وهو كِتاب معتمد، إلى الآن، في أغلب جامعات العالَم بما يشمله من تفكير فلسفيّ جديد قام على أسس متينة، فكان هاجس ديكارت التّأسيس الفلسفيّ للعِلم النّاشئ آنذاك، وليس دفاعًا عن اللّاهوت الكلاسيكيّ كما ظهر للجميع، إلّا أنّ مهادنة الكنيسة أصبح ضروريًّا، فأهداها هذا الكِتاب، وأوصى رجالها بالحفاظ عليه ونشره ضدّ الكافرين، وإن ضمّ أفكارًا منافية، في حقيقة الأمر، لِما تتبنّاه، الكنيسة نفسها، من فكر أرسطيّ شارح للكتاب المقدّس، ولا يحقّ لأيّ شخص الخروج عن هذا الشّرح والتّفسير؛ فهو سمّ في دسمٍ، إذ ضرب ضربته القويّة عالية الذّكاء، وسار في دربه آمنًا وقتًا كافيًا من الزّمن، وَشَمِل الكتاب ستة تأملات هي: التّأمّل الأوّل: في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشّكّ التّأمّل الثّاني: في طبيعة النّفس الإنسانيّة وأنّ معرفتها أيسر من معرفة الجسم التّأمّل الثّالث: في الله وأنّه موجود التّأمّل الرّابع: في الصّواب والخطأ التّأمّل الخامس: في ماهيّة الأشياء المادّيّة والعودة إلى الله ووجوده التّأمّل السّادس: في وجود الأشياء المادّيّة وفي التّمييز الحقيقيّ بين نفس الإنسان وبدنه.
بينما كان المحور السّادس تحت عنوان: “كتاب “المبادئ الفلسفيّة” نشره ديكارت سنة 1644م، فبعد التّأمّلات ومكانتها العظيمة التي تركتها في النّفوس، انبرى لتأسيس مبادئ فلسفته الفكريّة والعِلميّة، فأنجز “مبادئ الفلسفة” كتابًا تعليميًّا بامتياز، حاول خلاله تعويض ما يُدرّس في المدارس من فكر أرسطيّ قديم، لا يجيب عن تساؤلات العصر، وتمنّى أن تتبنّاه المدارس لأنّه أيسر وأسهل. فتطرّق لكلّ أفكاره العِلميّة والفلسفيّة نقطة بنقطة، بالشّرح الوجيز والواضح في الوقت نفسه، وبتسلسل الأفكار وانسيابها بشكل مترابط أيّما ترابط.
تلاه المحور السّابع بعنوان: “كتاب محاورة ديكارت البحث عن الحقيقة بواسطة النّور الطّبيعيّ” كُتب سنة 1650م ونُشِر سنة 1701م، ثمّ توّج هذا المسار الطّويل من البحث والتّأليف بمحاورة هدفها تبيان أنّ الله بداخلنا ولا نحتاج لواسطة، فمعرفة الحقيقة تبدأ مِن الذّات لا الموضوع، مِن الأنا أنطلق للعالَم وليس العكس؛ فالله خَلَق فينا نورًا طبيعيًّا أصيلًا، ويكفي استخدام عقولنا في التّفكير للوصول إلى الحقيقة، فرَبط بين النّفس والجسد بشكل ولا أروع؛ وهي محاورة تشبه كثيرًا محاورة جاليليو حول النّظامين الكونِـيّين، التي مَثَل بسببها أمام محكمة التّفتيش في روما، بحيث استعمل كلاهما ثلاث شخصيّات في الحوار الخياليّ، وتقمّص كلًّا منهما دورًا رئيسيًّا أثناء الحوار، يدافع من خلاله عن أطارحه وقناعاته الجديدة.
وفي السياق ذاته بعدما لامس الكاتب محمد كزّو المتن الديكارتي كما أسلفنا من خلال أبرز كتبه، جاء المحور الثامن بعنوان “الفلسفة الديكارتية بعيون عربية”، وهو المحور الذي يهتم بتعاطي المجتمع العربي مع “الحداثة” الغربية، وما شكَّلَتْه من تحدٍّ كبير، أدى بالمجتمعات غير الغربية عامة في مواجهة الحداثة الطارئة بأشكال مختلفة، إذ ركّز الكاتب على نماذج قوية من الفكر العربي الإسلامي، التي اهتمت بالفكر الديكارتي، واستطاع من خلاله أن يُبيِّن مدى اختلاف زاوية المقاربة الديكارتية نظرا لاختلاف الأهداف التي سعت المدرسة العربية تحقيقها. إذ يخلص إلى أن المشكلة تكمن في الأخذ بالنتائج الحداثية، لا بالأسباب، وكون الفلاسفة العرب وزعوا الفكر الحداثي الديكارتي بمعزل عن سياقه، كما أعطى الكاتب نماذج ألّفت في الموضوع وناقشها واحدا تلو الآخر، إلى أن خَلُص إلى نتيجة مهمة، تستحق العناية.
بينما جاءت الخاتمة تحمل جدوى دراسة ديكارت من جديد، مع أهم الاستنتاجات الكبرى التي تمخّض عنها الكتاب.
يُذكر أن الكاتب محمد كزّو، أستاذ باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة، له عشرات المقالات الفكرية والإسلامية، في مجلات محلية وعربية، كما صدر له سنة 2021م، كتاب أول بعنوان: “عقيدة الحقيقتين”.
المصدر: هسبريس