السودانية , اخبار السودان
مهدي رابح
لم أجد مصطلحاً اكثر لطفاً لوصف ما يتعرض له الجمهور من استغفال (سواقة بالخلاء) وحيل سياسية من جانبي الحرب البليدة التي انفجرت في الخامس عشر من ابريل الماضي، ضاعف من تأثيرها استغراقهما وداعميهما في حرب اعلامية واسفيرية موازية تغذي العنف والتوحّش علي أرض الواقع وتتغذي منها وتحتشد بالمغالطات والدعاية الكاذبة التي تهدف في الأساس الي التغطية علي الجرائم الشنيعة التي يرتكبانها في حق البشر والوطن والي توفير غطاء من الشرعية للجريمة التي ارتبكتها شبكات فلول النظام السابق في حق الوطن والانسانية والتي لعبت دورا رئيسيا في إشعالها وفي التشجيع علي استمرارها رغم تراكم الادلة التي تشير بما لا يدع مجال للشك ان لا منتصر في هذه الحرب اللعينة وان الجانب الذي يدفع الثمن الحقيقي هم ملايين الضحايا من المواطنات والمواطنين السودانيين المدنيين العزل، لذا كان لزاماً علينا كشف الغطاء عنها لتخرج الي العلن بكل قبحها المتأصّل في جوهر أجندة دعاة الدمار والحرب والخراب بنقولها مجددا: “لا للحرب”.
(1)
لم أجد اكثر استحماراً للمتلقي من محاولة تبرير الدمار الحالي بحجة الضرورة التاريخية للقضاء علي دولة 56 الظالمة الشريرة ومحاولة اضفاء شرعية للإنتقام من أصحاب “الامتيازات”…!
نعم هنالك حاجة لاصلاح الخلل البنيوي للدولة السودانية والذي انتج العنف والظلم والفقر والجهل والمرض والتهميش والفساد والافلات من العقاب والشمولية لكن ذلك يتم عبر عمليات متدرجة متداخلة من الاصلاح والتحول السياسي، الاجتماعي والاقتصادي المدروس والمخطط جيداً وليس عبر ظلم مواطنين آخرين واغتصابهم ونهب ممتلكاتهم الخاصة وتدميرها وتدمير المرافق العامة والبني التحتية وفي منتهي الأمر تمكين المنتصر في هذه الحرب البليدة، اي اما قيادات الجيش او الدعم السريع الفاسدة وحلفائهم المجرمين من فرض سلطتهم المطلقة علي حدود هذه البلاد المنكوبة، فهذا يسمي وببساطة استبدال دولة 56 باللا دولة… اي الغاب وقانونه.
(2)
الاستحمار الثاني، اي الذي يلي حيلة دولة 56 من حيث معايير الجودة والقابلية للتسويق والتصديق هو أن الجيش فوجئ بهجوم الدعم السريع علي مواقعه او العكس، او انها حرب فرضت علي احدهما.
وهي حيلة هدفها التهرّب من تحمّل تبعات هذه الحرب البليدة من دمار وأذي وجرائم ارتكبت في حق المواطنات والمواطنين أو الحق العام.
الحرب ونتائجها يتحمل مسؤوليتها القانونية الجنائية الادبية الاخلاقية والمادية الطرفان بالتساوي، فتتبع الفتيل الذي اشتعل في ال 15 من ابريل 2023م سيؤدي لا محالة الي داخل تلك الغرفة المغلقة المظلمة التي شهدت اتفاق البرهان وحميدتي وحلفائهما للتآمر علي الشعب السوداني والقيام بإنقلاب 25 اكتوبر 2021م لقطع الطريق امام اي فرصة للإصلاح أو للانتقال الديموقراطي.
فكل ما يتعلق بالقرارات التي تؤثر علي الامن وعلي راسها قرار الدخول في حرب كان يجب ان تُتّخذ من قِبَل المدنيين الممثلين للارادة والمصلحة العامة وليس من قِبل بضعة جنرالات قتلة، لصوص، فاسدين ومختطفين لأجهزة الدولة.
وكما قال الرئيس الفرنسي السابق كليمنصو (الطبيب في الأصل)، وهو احد الذين وضعوا الأسس الحالية لرضوخ الجيش الكامل للسلطة السياسية المدنية واعادة تنظيم علاقته بالدولة، وقاد بلاده للفوز بالحرب العالمية الأولى، وهي من اشرس ما شهدته البشرية من حروب وأكثرها ترويعاً:
” إنّ الحرب هي شأنٌ اكبر وأخطر مِن أن يُترَك في يد عسكريين.”
« La guerre ! C’est une chose trop grave pour la confier à des militaires. »
Georges CLEMENCEAU (18411929)
(3)
الاستحمار الثالث من حيث قابلية التصديق هو ما عملت عليه آلة التضليل الاعلامي التابعة للجهة الوحيدة المستفيدة من الكارثة الحالية، اي فلول النظام السابق، منذ ما قبل اندلاع الحرب في مرحلة الإعداد لها وتأجيج الفتنة، بتصوير الجيش السوداني وكأنه كيان مقدس والدعم السريع وكأنه كيان مدنّس أتي فجأة من الفضاء الخارجي، في محاولة لاستدراج المدنيين لمعركة لا تخصّهم عبر استبدال الابتزاز العاطفي باستخدام الدين الي الجيش و بذلك أضعاف المجتمع المدني بتقسيمه الي وطنيين داعمين للجيش (في الحيلة السابقة كانوا يصنفون كمؤمنين) أو خائنين وعملاء غير داعمين للجيش (في الحيلة السابقة كانوا يصنفون ككفار) في محاولة لتسوّل تعاطف الجمهور وتخطي واقع ان الشعب السوداني قد لفظهم الي الأبد وان لا شئ سيمحي من ذاكرتهم الجرائم المروِّعة التي ارتكبوها منذ 1989م، والاهم من ذلك متخطين بتذاكي (ابو واحد جنيه) الحقائق الموضوعية الامبريقية التالية:
اولا: الجيش في اي دولة هو مؤسسة حكومية مملوكة للشعب ويدير دولاب عملها موظفين محترفين، وتقوم، مثلها واجهزة اخري كوزارة الصحة او الهيئة القومية للطرق والجسور مثلا بمهام تنبع قدسيتها من انها تحقق مصلحة الشعب، وتوفر لهم خدمة لا غني عنها لحياةٍ طبيعية، وفي حال الجيش فهي تتمثل في حماية الدستور والحدود وتوفير سلعة الامن للمواطن كفاعل رئيسي في القطاع الامني، وبما ان الجيش عجز عن تحقيق ذلك بدليل الخراب الحالي والمستمر اذا فهو جهاز معطوب، بل أنه لعب دورا رئيسيا في ما يتعرض له المواطن اليوم من قتل واغتصاب وتشريد ونهب وتدمير ممتلكات، ذلك ان جنرالاته هم من استنوا منهج تكوين المليشيات القبلية ذات التاريخ العريق في الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، وعلي راسها الدعم السريع وهم من مكّنوها لأهداف سياسية تتعلق بالاستمرار في السلطة بأي ثمن واقتسموا مع قياداتها العوائد المادية وفوضوها بكثير من واجبات الجيش الاساسية بل سلموها مواقع استراتيجية وذهبوا الي ابعد من ذلك حين تنازلوا لها عن 30٪ من التصنيع الحربي، هذا بالطبع إذا تجاوزنا تاريخ طويل حمل فيه الجيش السوداني الرقم القياسي في عدد المحاولات الانقلابية في أفريقيا، وقاد الحكم الديكتاتوري العسكري ل 55 عاما من مجموع 67 هو عمر السودان الحديث وتاريخ مروع من الخروقات والانتهاكات في حروب جلها ودون استثناء داخلية، من جنوب السودان الي دارفور، جنوب كردفان والنيل الأزرق.
اي ان هنالك خلل اساسي وعميق وخطير في هذه المؤسسة يجعل منها احد مصادر الازمات الرئيسية والعامل المشترك في ما وصل اليه السودان اليوم، والسبب ببساطة هو أنها مؤسسة قابلة للاستغلال من قبل قلة من النخب التي تسعي لتحقيق مصلحتها الخاصة والبعيدة عن الغايات الوطنية والمصلحة العامة.
الحرب الحالية هي صراع داخلي بين قيادات هذه النخبة/النقابة الاجرامية (الكارتيل) التي كانت متحالفة ومختطفة للقطاع الامني والعسكري حتي الأمس القريب وقادت سويّا وبدعم بعض المدنيين الانتهازيين مؤامرة انقلاب 25 اكتوبر 2021م ، فمن جانب هنالك البرهان وجنرالاته الفاسدين وعناصر النظام السابق بقيادة كرتي ومن الجانب الاخر حميدتي وعائلته وبعض المكونات القبلية، بينما الانتهازيين مقسمين بين المعسكرين حسب ما تنتجه معادلة العرض والطلب والثمن المقبوض المناسب.
باختصار شديد، الجيش ليس مقدسا لكن مهمته هي كذلك وهو لم ينجح في القيام بها.
ثانيا: لا يمكن اختزال الجيش السوداني في مجموع الجنرالات الفاسدين الذين يقودونه الي حتفه اليوم والي انهيار دولة السودان وتشظيها، فكلّنا يعلم ان صفوفه تعج بآلاف الجنود والضباط المهنيين النزيهين والوطنيين الأوفياء، والتفريق هنا في غاية الأهمية، اي بين عصابة الجنرالات والمؤسسة العسكرية، لان مستقبل البلد ومستقبل التحول المدني الديموقراطي يعتمد علي توحيد الجيش والقضاء علي ظاهرة المليشيات الخبيثة وتعدد الجيوش والانقلابات العسكرية علي الدستور كما علي تحويله الي جهاز محترف، قومي وغير مسيس وهذا لن يكون ممكنا دون تقديم القيادات الحالية للقضاء العادل وتطهير صفوفه من عناصر النظام السابق ورضوخه التام والكامل للسلطة السياسية المدنية.
(4)
الاستحمار الرابع وآخر ما ساتطرق اليه رغم تعدُّدها في جو التوحّش والالتباس والتضليل الاعلامي هذا، والذي عملت عليه بصورة رئيسة شبكات فلول النظام السابق جيدة التمويل، وبإحترافية عالية، وركبت موجته ايضاً شخصيات وقوي وتيارات سياسية اخري مجانا ودون ان تدفع ثمن تذكرة قطار التضليل الجهنمي ، ويتمثل هذه المرة في رمي مسؤولية الحرب علي الاتفاق السياسي والكيانات والشخصيات التي لعبت دوراً رئيسيا في تصميمه ودفعه قدما وإيصاله الي مرحلة ما قبل التوقيع الاخير، ونجاحها عبر الادوات السياسية السلمية في اقناع البرهان وحميدتي على التوقيع علي الاتفاق الاطاري يوم 5 ديسمبر 2022م ثم علي اسس ومبادئ الاصلاح الأمني والعسكري يوم 15 مارس 2023م، وكليهما يتضمن خطوات لانهاء انقلاب 25 اكتوبر واستعادة مسار الانتقال الديموقراطي وحل الدعم السريع ودمجه في الجيش واصلاح الأخير وتقييم اتفاق جوبا ومراجعته وتدشين أعمال العدالة الانتقالية وحل مشكلة الشرق واعادة تفكيك النظام السابق وتدشين الاصلاح الاقتصادي والاعداد لانتخابات تعبر عن إرادة الجمهور وتنقل البلاد الي شرعية انتخابية ودستورية تمكنها من الخروج الآمن من الازمة المستفحلة الي افاق التقدم والتنمية.
نعم، ومهما تكن لا معقوليتها فقد صدق البعض السردية التي اطلقها الفلول وروّجوا لها، نعم اولائك الذين كانوا يدعون علانية وأمام الميكروفون والكاميرات الي قطع الطريق امام العملية السياسية بإعلان الحرب، نعم الفلول أنفسهم الذين اسسوا الدعم السريع ومكنوه واستخدموه كجهاز قمعي متوحش للاستمرار في السلطة وكمصدر للمال الملطخ بدماء الشباب السوداني في عمليات الارتزاق في اليمن وليبيا وغيرها، نعم نفس هؤلاء الفلول التي تشارك كتائب ظلهم في الحرب البليدة يتهمون اليوم القوي التي عملت حتي الساعات الأولي من صباح يوم 15 ابريل لنزع الفتيل المشتعل منذ 2020م ولإقناع أميري الحرب بعدم الانجرار الي المواجهة، والتي لم تألُ جهدا للتحذير من مغبة الحرب ومآلاتها وراجحية خروجها عن السيطرة وتحولها لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، نعم القوي التي كانت تعلم جيدا ان اندلاع الحرب سيؤدي الي إجهاض كل جهودها و انهيار مشروعها السياسي للتحول السلمي المتدرج، نعم اتهم رؤوس الفتنة هذه القوي ليس فقط بإشعال الحرب بل بالتحالف مع قوات الدعم السريع، ربيبتهم واداة قمعهم المدللة والمفضلة خلال حرب دارفور الشنيعة ومعارك جبال النوبة والنيل الأزرق ومجزرة سبتمبر 2013م ومجزرة اعتصام القيادة 2019م وغيرها.
نعم تلك القوي التي تم اتهامها بالهبوط الناعم لأربعة اعوام متتالية أصبحت، وفي غفلة من المنطق ومن معطيات التاريخ المثبتة، وبفضل مزيج آلة التضليل الاعلامي وضعف الوعي السياسي وغياب العقل النقدي والكسل الذهني وسهولة الانزلاق الي التخيّز الأعمى، أصبحت علي حين غرة المتسبب الاول في الحرب، واللاعب المركزي في الحل الجذري أو الهبوط الخشن الذي نعيشه اليوم حربا ضارية، بكل آلامها وشجونها التي أصابت ارواحنا جميعا بالعَطب.
وكما قال مُحِقّاً الراحل صلاح عبد الصبور :
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك !
#مدنية
#لاللحرب
#ستنجو_بلادنا_وسنعيد_بناءها
المصدر: صحيفة التغيير