نوافذ السحر الجميل في مجموعة (ما كنت أراه من النافذة) اليوم 24
د.أحمد رزيق
هي غواية السرد إذن، تستأثر باهتمام الكاتبة فضيلة الوزاني التهامي، وتلح عليها في الإبحار من جديد في مغامرة سردية جديدة، ضمن مجموعة قصصية قصيرة (ما كنت أراه من النافذة) الصادرة في طبعتها الأولى (2023) عن مكتبة سلمى الثقافية بتطوان تتألف من خمسَ عشْرةَ قصة قصيرة، لم تترك أمامي من خيار وأنا أقرأ نصها الأول المعنون بـ(ماكنت أراه من النافذة)، إلا خيار الإقبال عليها بِنَهَمِ الرَّاغِبِ في إدراك المزيد من المتعة والجمال، لا أقول ذلك مجاملة ولا استدراجا للقارئ حتى يُقبل على قراءة قصص المجموعة، ولكن هو شعور تملكني وأنا أقرأ النصوص القصصية، وآمل أن يكون الشعورُ نفسُه الذي سيتملك قارئ قصص الكاتبة فضيلة الوزاني التهامي. ولعل مرد هذا السحر الجميل الذي يجعل القارئ يتابع بشغف إقباله على المجموعة، ما اتسمت به النصوص القصصية من سمات، أوجز الإشارة إليها في بضع نقط:
أولا: القدرة على الإمساك بتلابيب القارئ وتوريطه في بناء احتمالات تخييلية ممكنة، والقدرة على تثوير الأسئلة في ذهن القارئ وجعله يبحث لها عن إجابات معينة، مما يجعل قارئ النصوص القصصية القصيرة قارئا إيجابيا، يبحث بما راكمه من مقروءات سابقة، وبما يمتلكه من أدوات قرائية عن ملء العديد من نقط الفراغ المتعمدة التي تعتور النصوص القصصية، بما ينسجم والسياق الدلالي للنص، وعن اقتراح إجابات معينة تذهب غُلَّةَ السؤال وإلحاحه. فما دلالة الأفعى ونحن نقرأ بدايات نص (ما كنت أراه من النافذة)؟ ولم تصر الأم على أن تبقى النافذة مغلقة دوما؟
ثانيا: قدرة مميزة (التوليد التخييلي)، فالكاتب المبدع من يمتلك القدرة على دحرجة إحساس صغير، أو حدث لا يكاد يدرك أو يُؤْبَهُ به، عبر مسارات تخييلية متعرجة وجميلة إلى أن يستوي قصة قصيرة أو رواية، وذاك ما أفلحت فيه فضيلة الوزاني التهامي في أكثر من نص قصصي، ففي قصة الزقاق، تنسج الكاتبة حول (السواح)، وهو الداء الذي يصيب العينين، مجموعة من المواقف والأحداث، وتجعل (السواح) نواة دلالية تتناسل عنها بنيات حكائية كثيرة، تشكل نسقا تخييليا يكشف عما أشرنا إليه من قدرة على التحويل والتوليد.
ثالثا: حسن الإصغاء لنبض الشارع؛ إذ تحمل القصص نبض العمق الشعبي وتتقن الإنصات إليه بشكل جيد، حتى أن القارئ ليكاد يشم بين أسطرها رائحة العتاقة التي تنبعث من جدران وأزقة ودروب المدينة القديمة بتطوان، نفس ما يحس به القارئ تماما وهو يقرأ المصري للسي محمد أنقار رحمه الله أو غيرها من أعماله القصصية، بما تحمله هذه العتاقة من عمق حضاري، ومن هموم اجتماعية وهمهمات ذوات العوالم السفلية، حيث لا أحد يمكنه التقاطها إلا مبدعةٌ موسومةٌ برهافة حسها الاجتماعي ونبل الإنساني فيها. ويمكن للقارئ تتبع ذلك في جل نصوص المجموعة القصصية، وخاصة منها قصة (سيدي بولعلام)، حيث تقضي زينة المرأة الحامل تحت أرجل نساء تزاحمن بساحة ضريح سيدي بولعلام، وكلهن لهفة على الانقضاض على حصتهن من المعونة التي توزعها الجمعية في المواسم بضريح سيدي بولعلام.
رابعا: الشغف بالوصف بل والقدرة المميزة عل إبداع مقاطع وصفية وظيفية تكشف عن تمكن الكاتبة فضيلة الوزاني التهامي من تقنية الوصف في مجال السرد، واستثماره وظيفيا ليرفد النص القصصي بما يغديه دلاليا وجماليا.
خامسا: الرغبة في الانفلات من الجاهز والمألوف من خلال تجريب مجموعة من الاختيارات الجمالية، وتمثل قصة (جسد معياري)، نموذج القصة التي تسعى من خلالها الكاتبة فضيلة الوازاني إلى تجريب مجموعة من المداخل الجمالية في أفق بناء نص جديد، ومن هذه المداخل التي اعتمدتها الكاتبة في القصة:
إدراج أبيات شعرية، وصل عددها في النص القصصي إلى ثلاثة أبيات منها ما تم التصريح بصاحبه؛ وبيتان آخران لم تصرح الكاتبة باسمي صاحبيهما، أوردتهما في سياق وصفها للمرأة/ الفنانة التي جمع جسدها كل المحاسن.
التعديلات المقصودة لصيغ الوصف؛ إذ تتدخل الذات الساردة بين الفينة والأخرى فتعدل اختيارا وصفيا تراه لا يفي بالمطلوب، ولا يعطي العنصر الموصوف حقه من الوصف، أو أنه غير دقيق، وهو ما يكشف سياقيا عن انبهار جماعي بالجسد المعياري “قبل أن يظهر الجسد كاملا، لم يكن مجرد جسد كامل، كان جسدا صارخ الأنوثة؛ والحقيقة أن “صارخ الأنوثة” لا تمنح الجسد حقه من الجمال، كان ممشوقا، رشيقا، أهيف، بأفخاذ طويلة لكن ممتلئة وملساء، ربما الأصح أن نقول ناعمة من غير شوائب” (جسد معياري) ” وكان من الطبيعي أن يتلعثم وقد ارتطم رأسه بالصدر، وإن كان فعل “ارتطم” ليس في مكانه الصحيح”
استحضار المتلقي/ القارئ، الذي يفترض السارد أن أنفاسه تتلاحق وهو يتابع المقاطع السردية المشكلة لقصة (جسد معياري)، وهو ما يضفي حوارية على النص تتجاوز بنيته الداخلية إلى تحقيق تفاعل خارجي؛ ” بأفخاذ طويلة لكن ممتلئة وملساء، ربما الأصح أن نقول ناعمة من غير شوائب. فهمتم معنى شوائب هنا دون شك” (جسد معياري).
هذا غيض من فيض ما يمكن أن يخرج به القارئ للمجموعة القصصية الثانية للكاتبة فضيلة الوزاني التهامي، وأترك لك أيها القارئ فرصة السفر في نصوص المجموعة وأنا على يقين تام أنها ستوفر لك ما تبتغيه من متعة وفائدة.