سأعود وأحكي عن النجاة المجيدة لشعب عظيم
سأعود وأحكي عن النجاة المجيدة لشعب عظيم
هادية حسب الله
شهران من الغضب والحزن الكبير، توسدنا صوت المدفعية وتيقظنا على صوت طيارات الميج، والانتنوف، وأحياناً السوخوى. صرنا نميز طائرة الاستكشاف ونتراهن حول الجهة التي ستنطلق منها مضادات الطيران. تعلمنا أن نميز اتجاهات قنابل الهاون ونعلم الفرق بين صوت المدفعيات المختلفة.
تحملنا كل الأصوات المفزعة إلا أننا فزعنا ونحن نستمع لصوت تهشيم أقفال بيوت الجيران، ذلك الصوت الذي سلبنا كرامتنا وعزز شعورنا بقلة حيلتنا. تهامسنا خوفاً داخل بيوتنا من أن يكتشفوا تواجدنا ولم نتمكن من ردعهم عن البيوت. فبكينا.
تسللنا لسطوح منزلنا بحثا عن إشارة لشبكة الإنترنت فتعز علينا في الأغلب رغم مخاطرة الرصاص المتناثر حولنا. احتفظنا بمياه غسيل الأواني وقمنا بتصفيتها لنعيد استعمالها لتمرير الحمامات. لم نكن نستطيع الاستحمام غالب الوقت فالماء القادم بصعوبة من آبار بعيدة لا يكفي أكثر من غسل الأواني واستخدامات الحمام التي اختصرناها في غسل الوجه وأحيانا تشطيف الأيدي والأرجل. أما الوضوء فكانت أحجار التيمم بديلاً له غالب الوقت. (غسلت شعري مرتين فقط طوال الشهرين. اكتفيت بتعطيره عندما كانت تفوح منه رائحة تزعجني).
قمنا بغلي المياه التي نجلبها من الآبار فزادت ملوحتها، كل فترة وأخرى يصاب أحدنا بوجع بالكلى أو بالقارديا بسبب الماء الملوث. اكتفينا بأكل المكرونة والرز بل سعدنا بعمل خبز منزلي. تقلصت وجباتنا لوجبة وحيدة بعد العصر نحاول فيها الابقاء على حيواتنا وعافيتنا.
انقطعت الكهرباء ففقدنا كل مخزوننا من أجبان أو لحوم. ولم تعد هناك أي خيارات. كانت النهارات قااائظة الحر والليالي طويلة بباعوضها وعرقها ودموعها وصوت معاركها المجنونة التي لا تنام. عشنا بالظلام غالب هذه المدة، كانت أعظم النعم لمبة تشحن بالطاقة الشمسية كان كل منا هو الأحرص على رفعها صباحاً لشحنها بالشمس فدونها ستقتلنا كآبة الظلام. نتحلق حولها ونستمع لأخبار الحرب من أحدنا الذي لازال هاتفه يعمل، أو الذي كان محظوظاً بشحنه من بطارية العربات. تلك البطاريات التي حافظنا على حياتها بالمغامرة بحياتنا. إذ كنا نقوم بتشغيل العربات تحت رقابة مشددة ونتوسلها ألا تصدر صوتاً عالياً يكشف عن وجودنا. كان لابد من وجود ثلاثة منا: اثنان للمراقبة وآخر للتشغيل. نقف نراقب من السطوح ونحن منكسي الرؤوس هامسين. ونلقي بحصاة إذا اقتربوا منا فنصمت نحن وعرباتنا.
شهران ما شعرنا فيها بسوء وضعنا لأن سوء حال البلد أكبر. لم نستسلم لألم جسدي فوجعتنا أعمق. شعرنا أن وجودنا داخل منزلنا هو شكل من أشكال المقاومة وكان هذا به تطبيب لجرح عجزنا الشديد.
للأسف اضطررنا لترك منزلنا بعد كل هذا الوقت، عندما صارت المدافع أكثر من البيوت. إذ كنا البيت الأخير بشارعنا المأهول. وصار وجودنا مستحيلاً عندما نضبت البئر قربنا. وهجر البيوت آخر شباب لجنة المقاومة الصامدين والذين كانوا يعينوننا على توفير مياه الشرب.
أخرجنا من بيوتنا عنوة وطعم أكثر ملوحة من ماء البئر يملأ فمنا. وشعور بالغضب والإذلال.
لم نبكِ لما تركناه من كل ممتلكات ونحن نعلم يقيناً أنها ستنهب فقد شهدنا على النهب ورأينا خلف نوافذنا الكثير.
ولكنا بكينا ونحن نكتشف أننا كنا في تل من الدمار الذي لا يوصف، جثث محترقة ومنهوشة من قبل الكلاب. بيوت محترقة وعربات ومحلات منهوبة لم تسلم زريبة حطب ولا دكان بصل فقير. كل البضائع بالأرض. كل البيوت منتهكة مفتوحة الأبواب. خرجنا من مدينة بحري ونحن نشعر بمهانة عظيمة، شعر بها آلاف الذين سبقونا للخروج الحزين.
ستظل هذه الشهور هي الأسوأ بذاكرتنا ولن يمحو قبحها إلا الرجوع الجميل المنتصر للأفضل فينا. ومحاسبة المجرمين والقتلة خلف هذا الدمار.
دون أن اشعر فقدت كل تماسكي ودخلت بهستيريا بكاء ونحن بأطراف بحري. فجر بكائي شاب لطيف أشار لنا بيديه الاثنتين بالدعاء (تصلوا بالسلامة الله يحفظكم) ريفى بسيط ينتظر بالطريق توصيلة لا يعرفنا ولا نعرفه ولكنه طيب كغالب شعبنا المحب “لدرب السلامة” المتفائل أن درب السلامة للحول (للعام) قريب. فمهما طال الأذى ستنقذنا هذه الطيبة الاستثنائية.
ستنجو الخرطوم وسنعود.
وسأعود لزيارة قبر أمي وأحكي لها عن النجاة المجيدة لشعبنا العظيم.
المصدر: صحيفة التغيير