اخبار السودان

ضياء الدين بلال والغرق في أجندة الفلول

رشا عوض

لم يرد الاستاذ ضياء الدين بلال على النقاط التي ذكرتها في معارضة مزاعمه حول الجهات الدولية الغربية التي تريد فرض حكم اقلية انتهازية”متغربة” نسبة الى الغرب عبر اضعاف الجيش لدرجة الاستسلام التام عن القيام باي دور سياسي. وما زال متمسكا بجوهر فكرته المدمرة وهي التمسك بوصاية الجيش على السياسة إذ قال بالحرف الواحد” إبعاد الجيش عن كامل ترتيبات العمليّة السِّياسيَّة في الفترة الانتقالية، ومنح مجموعة سياسيّة لا تمثل إلّا نفسها وواجهاتها الضيِّقة وغير مُفوّضة ولا مُنتخبة سلطات تشكيل المُستقبل بشكل حصري، سيكون بمثابة تكريس لديكتاتورية مدنية (شُفنا مناظرها وعمائلها  وفسادها في لجنة التفكيك وإعادة التمكين لمُناصريها”

وهنا يتبنى ضياء الدين كامل سردية الفلول عن الفترة الانتقالية، وهنا لمصلحة النقاش سوف أسلم جدلا بان هناك دكتاتورية مدنية مثلتها أحزاب الحرية والتغيير في إدارة الانتقال، فهل مواجهة هذه الدكتاتورية تكون باستدعاء العسكر بدباباتهم ومدافعهم الى الملعب السياسي بحجة عدم تركه لأقلية غير مفوضة وغير منتخبة؟ بهذا المنطق الا يحق لنا ان نسأل من الذي انتخب البرهان ومن الذي فوض الجيش لتشكيل المستقبل؟ وما هي المعضلة في التصدي للدكتاتورية المدنية المزعومة بأدوات العمل السياسي المدني وهو امر سهل جدا لان هذه القوى المدنية لا تملك سلاحا ولا سجونا ولا بيوت اشباح ولا زبانية تعذيب! وبأي منطق يفترض ضياء الدين ان دخول الجيش الى الملعب السياسي هو العاصم من الدكتاتورية التي رأى مناظرها وفسادها في لجنة التفكيك؟ ألم ير السيد ضياء مناظر ال 120 شهيدا من شباب في مقتبل العمر سقطوا في عهد انقلاب البرهان واضعافهم من الجرحى واضعاف أضعافهم في الجنينة وكرينك وكل ولايات دارفور ومجازر النيل الأزرق وكل ذلك تصنيعات عسكرية بامتياز ؟ ألم ير مجزرة فض الاعتصام التي ارتكبها العسكر (جيش ودعم سريع ايام كانوا سمن على عسل ومتفقين على الانقلاب على الثورة) وفي ذلك الوقت لم تكن هناك دكتاتورية مدنية ولا لجنة ازالة تمكين بل كان هناك مجلس عسكري صرف يدير شؤون البلاد منفردا؟ ألم ير تصنيع عصابات تسعة طويلة على اعين الاجهزة النظامية ؟ الم ير اكبر مورد للعملة الصعبة وهو الذهب يتم تهريبه من مطار الخرطوم وبورسودان على متن الطائرات المتوجهة الى روسيا وغيرها ومن يقول بغم يصبح في خبر كان؟ ألم ير أكبر تجسيد لهيمنة الاقلية على الأغلبية ممثلا في احتكار الشركات الأمنية والعسكرية لما يزيد عن 80% من موارد البلاد خارج ولاية وزارة المالية؟ الم ير السيد ضياء  في تواطؤ قيادة الجيش مع مخطط الفلول في إغلاق الميناء الرئيس للبلاد بشرق السودان وتخفيض جدواه الاقتصادية لصالح الموانئ المنافسة لمجرد خنق الحكومة المدنية عبثا بالامن القومي واحد مناظر الفساد والاستبداد التي اختزلها في لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو؟!

تفكيك التمكين ضرورة

وطبعا سبب اعتراض السيد ضياء على لجنة إزالة التمكين ليس خطأ بعض ممارساتها في ميزان العدل والنزاهة، بل السبب هو معارضة فكرة ان يكون هناك مشروعا لتفكيك نظام الانقاذ وإزالة تمكينه الممتد لثلاثة عقود، وكأنما مثل هذا المشروع  بدعة منكرة لم تحدث الا في السودان! من شروط أي انتقال ناجح من الدكتاتورية الى الديمقراطية خصوصا ذلك النوع من الدكتاتوريات الفاشية الرعناء ان يتم تفكيك للنظام القديم حتى يكون بالإمكان تدشين نظام جديد، حدث هذا بعد تجارب النازية والفاشية، وحدث في تجارب التحول الديمقراطي في شرق اوروبا وسوف يحدث في السودان  حتما.

السودان بحاجة الى مشروع جاد لتفكيك تمكين النظام الاسلاموي، يمكن ان نختلف حول أداء المؤسسة التي اوكل اليها هذا الامر بعقل نقدي صارم لتجربتها، ولبعض شخوصها، بل  ولمجمل تجربة الانتقال وحكومتها ووزرائها ورئيس وزرائها، ولكن من منصة مدنية ديمقراطية وليس من منصة موالاة العسكر! او الاستنجاد بهم فزعا من “مناظر وعمائل وفساد” منسوب للمدنيين مع إغفال الحقائق الشاخصة عن “مناظر وعمائل وفساد” في ضفة العسكر يفوق بما لا يقاس كل ما هو منسوب للمدنيين سواء بالحق او بالباطل، والكارثة ان فساد العسكر محروس بالدبابات والمدافع وبالسيطرة شبه الكاملة على موارد البلاد، ومحصن بقوانين ونظم الدولة العميقة ذات الصبغة العسكرية وأهله غير مستعدين على الاطلاق لمجرد مناقشته ناهيك عن الاعتراف به وتصحيحه.

“الحرية والتغيير” ليس لها التفويض الشعبي الكافي للانفراد بالمشهد الانتقالي نعم، ولكن لها تفويضا جزئيا ، ومشروعية جزئية فهناك احزاب سياسية حقيقية ومنظمات مدنية تشكل قاعدتها، وجماهير تؤيدها ، وبالتالي فان انقلاب البرهان على الحرية والتغيير ليس سببه الرغبة في توسيع قاعدة الانتقال ومحاربة الاقصاء الى اخر ذلك من (الأردوليات والعسكوريات والتوم هجويات والجاكوميات)،  بل سببه الرغبة في تقليص هذه القاعدة من مساحة اربعة احزاب وعدد من منظمات المجتمع المدني الى جنرالين فقط! كل منهما  يستبطن مشروعا للتخلص من الآخر والحكم منفردا! ومن ورائهما التنظيم الامني العسكري الخاص للفلول الذي يسعى  لابتلاع الرجلين عبر تسليط احدهما على ابتلاع الاخر والعودة الى السلطة (سلطة الاقلية المدججة بالحديد والنار)!

الرد على اشياء لم أقلها

قفز السيد ضياء الدين الى خلاصة ” أنّ مجموع ما يُسمّى على سبيل الوصف الزائف بالقِوى السِّياسيَّة السُّودانيّة يمينية ويسارية تحكمها ثقافة واحدة وطريقة تفكير  مُشتركة، مع اختلافات نسبية مُتعلِّقة بالمدى الزمني للحكم” ولكنه أسس ذلك على كلام انا لم اقله أبدا وهو ” * رد كل مُمارسة سيئة صادرة عن القلة الانتهازية لمرجعية تبريرية مُحالة للمُمارسات الكيزانيّة خلال 30 عاماً”

كل من يتابع كتاباتي في الشأن العام يلاحظ ان ليست لدي ابقار مقدسة، ومنهجي النقدي لم استثن منه احدا، ولكن وفاء للموضوعية والمنطق السليم لا يمكن مساواة من حكم نصف عمر الاستقلال بمن حكم لاربع سنوات وبمن لم يحكم اصلا! لا يمكن مساواة عهد دكتاتوري بعهد ديمقراطي مهما كانت عيوبه، ولا يمكن الزعم  بان الجرائم البشعة التي ارتكبها الكيزان في حق الشعب السوداني والتخريب المنهجي الذي دمروا به الدولة السودانية والنهب المنظم والسرقات التي سرقوها  واللؤم الغليظ الذي يتعاملون به مع غيرهم ، لا يمكن الزعم بان كل ذلك هو من الحتميات السودانية التي لا بد ان تحدث سواء بالكيزان ام بدونهم وبالتالي تتم مصادرة أي مساءلة سياسية او اخلاقية لهم عن فعالهم وتوزيع قبحها بالتساوي على الجميع!

دائما يجد المدافعون عن الكيزان انفسهم في ورطة إذ لا يجدون شيئا لوضعه في ميزان حسنات الكيزان الا مساوئ الاخرين!

اما بخصوص الفترة الحمدوكية التي كان بامكانها تسوية ارضية الملعب السياسي وتصفية تركة فساد النظام السابق بالقانون والعدل ، فليس سرا ان هذه الفترة تم الانقلاب عليها بواسطة العسكر الذين ما زال السيد ضياء يستدعيهم الى الملعب السياسي لضبط إيقاعه ضد الاقليات الانتهازية وفسادها، والانقلاب وقع بمجرد الاقتراب من ملفات تصفية تركة الفساد ممثلة في قضايا تجنيب الايرادات وتهريب الذهب، وبعد ان اقتربت ساعة رئاسة المدنيين لمجلس السيادة، انقلب العسكر لعرقلة تسوية الملعب السياسي بل لاحتلاله بالفلول! ومن خرج ضد ذلك متظاهرا قتلوه او جرحوه او سجنوه!

الغرق في اجندة الفلول

عندما نفكر فيما يمكن ان يحدث بعد هذه الحرب يعتصر قلوبنا الهم والغم لان الباب مفتوح على أسوأ الكوابيس وقمة امانينا هي ان يبقى لنا السودان واحدا ولا نفقد منه جزء او يتفكك الى اجزاء ،اما  السيد ضياء فغاية امانيه  استبعاد خصوم الكيزان إذ يقول  ” بعد هذه الحرب وجودهم التحكمي الطفيلي في مسام ومفاصل الانتقال أتوقّع أن يصبح شبه مُستحيل بقرار القواعد الشعبية رغم رغبة الرافعة الغربية، حيث لم تجد منهم تلك القواعد الشعبية مُساندة ولا نصرة ولا تعاطفاً، وأرواحها تُزهق وديارها تُحتل، وأموالها تُسلب، وعُروضها تُنتهك، بينما تختبئ تلك القِلّة عارية في صندوقها الزجاجي الشفاف وهي ترفع شعارها المخاتل  لا للحرب..!”

وهنا اتوقف عند نقطتين، الاولى ،موضوعيا هل المسؤولية عن إزهاق الارواح وانتهاك الاعراض وسلب الاموال يتحملها من اشعل الحرب وينفخ في تأجيجها ويرفض إيقافها ام يتحملها من يقول لا للحرب! وكيف تستطيع قوى مدنية مساندة ونصرة الشعب ضد قوات مدججة بالسلاح تحتل العاصمة ومداخلها؟ هل هذا واجب المدنيين العزل ام واجب المؤسسة العسكرية والامنية والشرطية التي ظلت على مدى ثلاثة عقود تبتلع ثلاثة ارباع ميزانية الدولة؟ بدلا من التساؤل عن اختباء المدنيين اليس الأجدر إثارة قضية اختباء الشرطة بينما الاحياء تسرق وتنهب! والقاعدة الشعبية التي من المفترض ان تصدر حكم اعدام سياسي على المدنيين لمجرد تقصيرهم في إدانة الجنجويد  فما نوع الحكم الذي يجب ان تصدره هذه القاعدة الشعبية على من صنعوا الدعم السريع وسلحوه ودربوه وحصنوه من المساءلة عن أي جرم عندما كانت الجرائم الاكثر بشاعة وفظاعة ترتكب في دارفور ولكنها كانت تصب في مصلحة نظام الكيزان ؟! ما هو نوع الحكم الذي ستصدره على  الكيزان الذين اشعلوا  الحرب وورطوا  فيها الجيش ولاذوا بفقه ادخار القوة!

 النقطة الثانية هي حكاية الرافعة الغربية

ظلت كتائب الظل الإعلامية تلوك دونما ملل حكايات التدخل الأجنبي وعملاء الغرب من الخونة والمرتزقة ، وهذا الحديث عندما يصدر من الكيزان والعسكر هو مسخرة مثل مسخرة المزايدة بموضوع الانتخابات! عندما باع صلاح قوش الجماعات الجهادية لل CIA   (المخابرات الامريكية) الم يكن ذلك بحثا عن رضا الرافعة الغربية ام كان بحثا عن رضا علي خامئني!

عندما قال وزير خارجية الكيزان “كنا عيون وآذان امريكا في المنطقة” هل كان هذا تقربا الى الرافعة الغربية ام تقربا من الملا عمر!

عندما هرول البرهان الى لقاء نتنياهو هل كان يلاحق بركات الرافعة الغربية ام بركات سيدي الحسن!

هل من رئيس مدني في السودان في العهود الديمقراطية طالب دولة اجنبية ببناء قاعدة عسكرية في البلاد لحماية حكمه كما طالب البشير العسكركوز؟

ختاما: كل مكونات واقعنا السياسي تحتاج للمراجعة والنقد الصارم والتقويم، ولذلك المطلوب ليس توزيع صكوك البراءة المطلقة او الادانة المطلقة على هذا الفصيل السياسي او ذاك بل المطلوب هو ضبط البوصلة السياسية والاخلاقية للوطن باتجاه نظام مدني ديمقراطي تتوفر فيه اليات المراقبة والمحاسبة والتصحيح الذاتي من داخله بعيدا عن استدعاء وصاية العسكر وهي في السياق السوداني معناها استدعاء الكيزان اصحاب اخطر مشروع انقلابي عسكري للحكم.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *