المؤمن بين امتحانات الدنيا وامتحان الآخرة
نعيش هذه الأيام موسم الامتحانات الدراسية، وندعو بالمناسبة لأبنائنا الطلبة بالتوفيق والنجاح وتحصيل العلامات المأمولة، كي يفرحوا وتفرح أسرهم وتكلل جهودهم وتعبهم بالفوز الكبير.
وبهذه المناسبة؛ تجد القلوب وَجِلة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلا لم تعلن فيه حالة الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر.
إن الإنسان المؤمن العاقل يتذكر بامتحان الدنيا امتحان الآخرة، وشتان ما بين الامتحانين، فامتحان الدنيا يمكنك أن تعيده مرة ومرتين إذا رسبتَ فيه، أما امتحان الآخرة إذا رسب فيه العبد فقد خسر خسارة عظيمة؛ إنها خسارة النفسِ والأَهلِ، قال تعالى: {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}.
ولأن هذه الأيام أيام سؤال وجواب، فيجب علينا أن ننظر في بعض ما سيسأل العبد عنه في حساب القيامة حينما يوقف الناس للعرض حفاة عراة غرلا، كما قال تعالى: {ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهورِكم}. وسوف يسأل العبد عن عمله في الدنيا، كما قال تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون}، ويسأل العبد عن صلاته ومدى إتقانه لها، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه فيما فعل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟”.
وأعظم سؤال يُسأله الإنسان يوم القيامة عن رعيته، هل أدى الأمانة فيهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
إن حياة الأفراد والأمم في الحياة الدنيا كلها سلسلة من الامتحانات، ولا ينقضي واحد منها حتى يبدأ الآخر. يمتحن المرء في ماله فتصيبه جائحة تذهب بما ملك، فيختبر عزمه وحزمه، أيستأنف جهاده من جديد ليعوِّض ما ذهب، أم تشل الجائحة حركته فيقعد قانطا؟ ويمتحن المرء في خلقه، فيتعرض لمواقف كثيرةٍ، ومغريات كثيرة، تختبر فيها استقامته في سلوكه وأمانته، أينتصر على نفسه، أم تنتصر عليه نفسه ويطغى عليه هواه.
ويمتحن المرء في دينه، أمام الفتن الآسرة، والشهوات الفاجرة، أيرغب عن ذلك اعتصاما بدينه، ويذكر قوله سبحانه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}، أم يسقط عند التجربة الأولى ويتمرغ في الأوحال.
وتمتحن الأمم أيضا حين ينزل بها بلاء أو تفتك بها مجاعة، فتختبر في صبرها وصمودها، وتعاونها وإيثارها. وأقسى الامتحانات التي تتعرض لها الأمم إنما تكون حين يعدو على حرماتها عدو باغ، ويحتل ديارها دخيل طاغ، فعند ذلك يكون الاختبار الكبير. وبمقدار نجاح المؤمن في امتحانات الدنيا، يكون فلاحه وفوزه ونجاحه في امتحان الآخرة.
وإذا كان في حساب هذه الأيام خاسر ورابح، فخسارة الحساب غدا أفدح وفوزه أعظم، فالعاقل من يقيس وجل الناس وقلقهم من أسئلة حساب هذه الأيام على الوجل الأعظم والقلق الأكبر الذي سيحصل يوم القيامة، ومن فعل ذلك قاده للجد والاجتهاد في العبادة والمسارعة في الخيرات، واغتنام العمر قبل فواته، فكما أن من جد واجتهد خلال هذا العام سيجني ثمرة جده وتعبه هذه الأيام، ومن ضيّع وفرّط سيجد ذلك في النتيجة وسوف يندم، فكذلك حساب القيامة أشدّ الندم فيها أعظم، وسيندم المحسنون على أن لم يزدادوا إحسانا، وسيندم المفرطون على أنهم لم يحسنوا، لاسيما أنه ليست هناك فرصة أخرى للتعويض وتدارك ما فات، كما هو الحال في امتحان الدنيا.
ولكن من المأسوف له جدا أننا نهتم لامتحان الدنيا ونحسب له أكبر حساب، أكثر من الاهتمام لامتحان الآخرة، ونحرص على نجاح أولادنا في الدنيا أكثر من حرصنا على نجاحهم في الآخرة، ونحزن إذا تخلف الولد في دروسه في الدنيا، ولا نحزن ولا نهتم إذا ضيّع أوقاته بشيء عن طاعة الله.
ولتكن نظرتنا للامتحانات نظرة متزنة معتدلة، فإن الفوز الحقيقي ليس في امتحانات الدنيا رغم أهميتها بل هناك عندما تزفُّ ملائكة الرحمن المؤمن إلى الجنة، قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.