الراهن وذاكرة الوجع السودانية , اخبار السودان
بقلم: محمد بدوي
الحرب التي انطلقت رصاصتها الأولي في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، مثلث إحدى حلقات دورة صراعات السلطة عمدت الحكومات المركزية لما بعد الاستقلال مواجهتها بالسلاح، دورتها الجغرافية ظلت تتقلص من الأطراف نحو مركز إدارة الدولة السياسية في سياق مرتبط بطبيعتها وماهيتها، دون الخوض التفصيلي لكن ظلت حالتي النزوح واللجوء مستمرتان إلي أن التحمت بعض المعسكرات بالمدن، ومتفصلة في حالة الكنابي، فيما ظلت أخري شواهد على الأزمة التي مع تطاول للأمد، ظل التضامن والمناصرة للحالة تصعد وتهبط متأثرة بتراجع تكوين الهوية والسياسات التي تمثلت في تجذر تراجع الدولة في تقديم الخدمات كمفصل لتعزيز المواطنة والحقوق وسياسات الرقابة التي ارتفعت ترساناتها لحجب التضامن، في ظل هذا برزت جهود قادها مثقفون سودانيون في مجالات عديدة استطاعت التصدي للرقابة سواء عبر التعبير والتعريف بالحالات ومناصرتها على مستويات مختلفة ، والمطالبة بالمحاسبة والتنبيه لضرورة العدالة الاجتماعية، بالمقابل هنالك جانب آخر تخندق فيه المثقف بعيدا عن دوره المرتبط بالشأن الوطني والعام بالرغم من الفرص الواسعة للعب الدور المنوط عبر الفرص اتاحتها الشارع السوداني عبر ثوراته المتطلعة للديمقراطية، وهاهو حرب ١٥ ابريل ٢٠٢٣ تعيد سؤال دور المثقف في الراهن الذي يكاد الفشل فيه يتمظهر في اعلان أو تنسيق موقف موحد ضد الحرب رغم الاتفاق السائد على .لا للحرب، في هذا المقال أحاول تتبع بعض مما قد يمكن من تقصي مسار العلاقة من مجمل الراهن الذي اكتملت فيه حلقات نضج الأزمة.
بما أن وسائل الاعلام تمثل منصة البحث عن ما يرتبط بموضوع المقال، جاءت الحالة الاولي باطلاعي على منشور نشر منصة الفيس بوك لاكاديمي وسياسي، عبر فيه مرور ثلاثة أسابيع منذ أن فارق مسكن أسرته بإحدى مدن الخرطوم، عبر المنشور عن بوح خاص في منصة عامة، ففتح جدل الحق في التعبير، حساسية المحتوي، يدفع إلي استدعاء العام بان آخرين لا زالوا يرزحون تحت ذات عقدين أو أكثر جراء حرب أخري داخل الوطن .
المنشور الثاني إختار أيضا الفيس بوك كمنصة نشر، محتواه سرد لمعانة السفر إلي وادي حلفا أو معبر أرقين، تفاصيل قضاء أفراد الأسرة الليل في الشارع، النوم الخلال في عناقريب حافية مستأجرة وتفاصيل لم تخرج من سياق المعاناة، يمكن اختصاره في الكشف عن الالم الشخصي في خصم الراهن، فدفع نحو المقاربة بين روح النص وحال لفاقدي السند من ضحايا الحروب المستمرة منذ عقود في البلاد.
المنشور الثالث هو مبادرة لوقف الحرب حملت عنوان ” مبادرة منتدي أبناء اقليم دارفور” وهي مناشدة دولية، اقليمية لوقف الحرب والعودة للمسار السلمي، حمل إمضاء العشرات من المثقفين، لعل المشهد الراهن به عدد من المبادرات تتطابق في الهدف الاساسي لكنها تختلف في العنوان، نطاق الحرب الراهنة، وعنوان المبادرة الذي يبدو أنه حمل ذات عنوان مجموعة تفاعلية على أحدي منصات التواصل الاجتماعي ربما قد أكون مخطئا لك دفعني للتفكير أنه رغم كونية نطاق وسائل التواصل لكن يمكن أن لذاكرة ما أن تخضعها لحدود وأن جاءت تحمل محتوي يخص السلم ونداءات وقف الحرب .
ربما يتسع المجال لالتقاط مشاهد إضافية لكن اكتفيت بهذه النماذج لعدة أسباب هي أن المنشورات الثلاثة تعبر عن من يحتمل أن نطلق عليهم وصف المثقف بناء على خلفياتهم، المحتوي عبر عن موقف المثقف وذاكرتي الوجع الخاصة والعامة والتعبير من منصة الشوف المباشرة عن ماهية المعاناة بعد الوقوع في محيطها أو عندما يمر المشهد امامنا ويحملنا معه قسرا كشهود وناجيين والمثقف وذاكرة الوجع العام المسورة بالجغرافيا، كل هذا يدفع الي سؤال دور المثقف والعلاقة مع المجتمع في كونه يمثل قوة دفع تتولي القيادة بين السلطة والمجتمعات،، يرتقي هذا الدور بادراكه لدوره في المراحل المختلفة سواء في السلم او التحولات السياسية الناعمة والعنيفة فالدور الطليعي يرتبط بالمساهمة الفاعلة الايجابية ولعب الدور المنوط به، والذي يتطلب توظيف المعارف وكسر الجمود واحداث الاختراق لأنه يمتلك قدرات معرفية تؤهله لذلك وهذا لا ينفي من وجود المثقف الكسول الذي قد يتحصن في دوائره الشخصية متجاهلا عدا ذلك و غير آبه باللمام بالواقع وحركته والانتباه للتحولات والقضايا المفصلية وتأثيراتها.
هذه التراجيديا تحيل الي سؤال مرتبط بدور المثقف والوجع العام وهو سؤال التضامن، وحساسية المفردات وتوقيت النشر، وجدل ممارسة الحق في التعبير بشكل عام، وللمثقف بشكل خاص عندما يكون الوجع الخاص جزء من المشهد العام، فبالنسبة للدور قد يعتبر الامتناع عن ممارسة الحق حين يتطلب المشهد ذلك وبمنهج يتسق والحالة بمثابة ضبابية أو تجاهل أو تقصير متعمد أو ناتج عن عدم الإدراك ، وهذا يدفع الي سؤال الرقابة الذاتية التي قد يفرضها بإرادته وعلاقتها بممارسة التعبير حينما يحتشد المشهد بين “الوجع العام والخاص” ، تدفع نحو التفكير الرقابة الذاتية و ضمير المواطنة.
لعل الخروج من هذه الحالة قد تتأتي بالنظر قوة الدفع العامة لاعادة ترتيب نقاط القوة وتعزيز الادوار، حيث يمكن ببساطة التفكير في محور للانطلاق في سجل التجربة التي يقف فيها الشارع كملهم ومعلم فقد يدفع إلي بصيرة تجبر الوجعين.
” نتعلم من الشوارع ونعلمها”، إلهام يفتح لدور المثقف وسيرة الوجع حول المنهج والالتقاط الحي، فرغم كل ما يحدث الآن ظل شارع ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨ ” مرتاد الثريا”، فجيل الثورة الذين لم يعاصر اغلبهم عمرا أو وعيا سجل الصراعات المسلحة الحرب الاهلية، دارفور، جبال النوبة والنيل الازرق، لكنهم رددوا شعارات عابرة في الوعي، كشفت عن ذاكرة تقف على منهج تفكير مركزية لم يكن بحاجة لمعاصرة الاحداث بقدر ما ارتكز على علاقة السببية التي قادت الي تلك الماسي وهي متعددة لكنهم اكتفوا بترديد ” يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور “هو شعار زمري سابق في شوفه وبصيرته في كونه يحتمل الابدال فكل البلد “الجنوب، الشرق والشمال والخرطوم الآن”، عمليا تمت ترجمة الشعار بإعادة لحمة التضامن التي سورها النظام السابق بالرقابة عندما تلاحموا في اعتصام نيرتتي بوسط دارفور فكان الامر تعبيرا عن ديالكتيك بدأ باعتصام لقاوة في ٢٠١٤ ثم القيادة العامة في ٢٠١٩إلي آخر الاعتصامات في ذاكرة ما قبل أبريل ٢٠٢٣.
الوجع العام متجدد الالم والنسق، لكن رد الفعل الموازي ظل نسبيا مرتبط بنحن وهم، فانتهز المساحة العمياء فنما على نسق الطحالب ممتدا وممتدا ومتشابكا ومتكاثرا والذاكرة تخال أن صقر الجديان ذكرا لا يمكنه أن يتكاثر دون شريك، لكن الحال أجاب بان التهجين فعل غاب عن الاحتمالات وان المقذوفات القاتلة ليست حصرا على البراميل التي تلقيها طائرات الانتوف، الغرق الطوعي في سؤال مع أو ضد في مناصرة أطراف الصراع أو في تخوين الاجابات بلا أو نعم، ووصم الامتناع بالحياد، كل ذلك لأننا لم نلقي بال للنظر الي الوجع مجردا بعين الضمير قبل حشد الشبكية، النظر إلي المشهد من ١٥أبريل ٢٠٢٣ دون استيعاب / تجاهل / إغفال/ معرفة لسجل الأحداث من نقطة الاسئلة الحقيقة، كيف، متي،لماذا، اين ؟ الاجابة من الراجح ستقود إلي نقطة إلتقاء الخاص والعام، وإزاحة الريبة ونظرية المؤامرة من سياق المشهد إلي ترجيح السببية لأن لكل أدواته، لأن ما يحدث لا يحتمل الجدل على نسق الصوم بتحري رؤية الهلال بالعين المجردة لإبراء الذمة أو الالتزام ، ولا الانطلاق من ميس جغرافي الي مركز تبادل الرصاص فليس هنالك فرق حينما تصل الأزمة مرحلة النضج ولن يتوج وقف الحرب بانتصار جهد مجموعة ما دون الاخري.
الخلاصة: رغم أن محركات الصراعات والحروب في دولة ما بعد الاستقلال تتشارك أرومة واحدة، لكن نجح النظام السابق في فرض الرقابة على التضامن بين السودانيات والسودانيين في حالة، هذا ما جزء النظر والمقاومة لما ظل يحدث حتى وصلت الي شمولها الراهن، بما يجعل توزيع الجهود حتى في النظر للوجع او نداء وقف الحرب يمضي في رهن مركز الشوف والمقاومة لذاكرة الرقابة السابقة في تعارض مع دور المثقف الذي يمضي منحازا الي تقسيمات ذهنية وجغرافية اقصر من احتمال المشهد لأن المثقف يجدر به أن يقود ويساهم في قيادة التحولات عبر أدواته، وفي ظل الراهن السوداني منذ ديسمبر ٢٠١٨ صار هنالك التزام مهد له الشارع السوداني عبر بالنظر نحو مخاطبة وقيادة الحالة عبر ادوات اكثر شمولا وابداعا وموضوعية تتسق ونطاق وتشابكات الحالة ورسم خارطة الطريق للمجتمعات للعب أدوراها، وهذا لا يتأتى الي بالخروج من الخاص الي العام و من الجغرافيا الي الوطن .
المصدر: صحيفة التغيير