لقد حان الوقت للخروج من حالة النواح و الذهول و العجز إلى فعل إيجابي لملء فراغ القيادة
بكري الجاك
خلاصات وحقائق حول يوميات الحرب
لا أحد يستطيع أن يقلّل من هول الحرب و ما عاشه السودانيون خلال الشهرين الماضيين، و ليس ثمة من شك في أن كل الناس أٌصيبت بحالة من الذهول و الصدمة النفسية الجماعية التي تصاحب مثل هذه الأهوال و تترك أثرا عميقا في المخيال الجمعي. أهوال هذه الحرب بائنة في موت الأعزاء و الأقارب و في رائحة الموت التي أضحت في كل مكان و في فقد الممتلكات التي هي حصاد أعمار الناس، وفي دمار البنية التحتية و في تعطل الحياة و في جرائم احتلال البيوت بواسطة قوات “النهب السريع” و في انتهاكها للعروض و قصص الاغتصابات التي تترى وفي وسرديات المفقودين، كل هذه الفواجع أقل ما تفعله هو أن تنخر في وجداننا و عقلنا الجمعي بشكل مستمر. الحكمة القديمة الصحيحة هي أن الناس ليس بإمكانها أن لا تكترث Humans are incapable of not caring
و في نفس السياق لا أحد يستطيع أن يجزم بأنه يعرف تفاصيل هذه الحرب و خططها و من يقودها، ربما حتى الذين يقودونها لا يعلمون إلى ماذا صارت عليه الأمور، فهي حرب تخاض في الظلام و لا توجد قيادة للدولة و لا لصناع آلة الموت، فهي أيضا حرب ماكينة من البروباغاندا من قبل طرفيها. و رغم ذلك ثمة حقيقتان ماثلتين عن هذه الحرب، أحداهما أن قوات الدعم السريع ستخسر هذه الحرب حتى و ان سيطرت علي كل السودان ناهيك عن العاصمة، إذ لا يوجد ما يمكن أن يفعله الجنرال دقلو أخوان ليكسبه شرعية سياسية و قبول اجتماعي لعدة عوامل أهمها ما تقوم به مليشياته الآن، أما سيطرته على الأرض فأصدق تشبيه لها هو قول صديق لي نقلا عن صديق آخر انها “ مثل الكلب الساكي الحافلة، يعني لو قبضها حيعمل بيها شنو” و لو للرجل اي من الناصحين العقلاء فليذكره أن أقصى ما يستطيع فعله هو الجري وراء هذه حافلة “السلطة” و ان استطاع إخضاع البلاد بالكامل فلن يستطيع أن يؤسس فيها نظام سياسي يقوم على شرعية قانونية و سياسية بقاعدة اجتماعية و مشروع سياسي، و الأسوأ أنه ربما أصبح من المستحيل استعادة وضعية الشريك القوي في أي سلطة قادمة، أما استمرار قواته في القتال كل ما يمكن أن تفعله هو أن تفتح الباب على مصراعيه للحرب الشاملة في البلاد. و الحقيقة الثانية لهذه الحرب هي أن السودانيين الآن يعرفون مدى ضعف قواتهم المسلحة و ما طالها من تخريب جراء التسيس و انشغالها بالتجارة و بتمكٌّن الفساد منها، و أنها غير مؤهلة لحماية التراب و صيانة الحدود و لولا أن كل دول الجور تعاني من مشاكلها الداخلية فيمكن لأي غازي أن يستبيح هذا التراب ربما في غضون ساعات، و هذه عبرة لنا حين نتدبر أمر بناء الدولة و الجمهورية الثانية.
ازّاء هذه الأوضاع وهذه الأهوال الشعور بالعجز وعدم القدرة علي فعل شيء أمر طبيعي و لا يثير الدهشة، بل هو المنطقي، و لكن رغم هذا و في كل الظروف مهما كان سوءها هنالك ثمة ما يمكن فعله لتغيير الأوضاع إيجابا و التاريخ مليء بالعبر والدروس.
ماذا فعل و يفعل الناس؟
بتحليل سريع لمحتوى ما يكتبه السودانيون في وسائط التواصل الاجتماعي يبدو جليا أن الذين عاشوا أهوال الحرب بنفسهم و الذين عايشوها من خلال قصص وحكاوي الآخرين أن التفاعل مع هذه القصص أصبح ضعيفا لسبب بسيط لأنها مكررة و لأن الناس عاجزة عن فعل شيء حيالها خلافا لإبداء التعاطف والشعور بالأسى و ربما التفضل بعبارة من شاكلة “ لا حول و لا قوة الا بالله” وهل هناك أسوأ من احساس الفرد بالعجز؟ لذا ترى الناس الآن لا يتفاعلون و يتجنبون هذه القصص و الروايات. وحتى نعطي الحقوق لأصحابها فحالة النواح حق انساني اصيل و لكل إنسان الحق في أن يروي تجربته في اطار المشاركة الخاصة لكنها لا تقدم جديد للعقل الجمعي و لا تشحذ الخيال علي الفعل.
في المقابل قامت عدة مبادرات في المهجر وفي الوطن، من بينها مجموعة عمل في الدوحة و اطلقوا ورقة اسموها ورقة السياسات لوقف الحرب، كما قامت مجموعة اسمت نفسها الميسرين السودانيين و قدمت مقترح حول مشاركة المدنيين و شروط العملية السياسية القادمة حتى لا تصبح شأن خارجي، و هنالك مجموعة ثالثة أطلقت علي نفسها آلية التحول الديمقراطي ووقف الحرب وإعادة البناء، وهي تتكون من عدة مجموعات و مبادرات سابقة و طرحت فكرة تشكيل حكومة طواريء قبل كل شيء و تكليفها بمهام محددة، و في أمريكا قامت عدة مبادرات جمعت لفيف من المهتمين من كل اصقاع الارض و هنالك آخرون الآن يجتمعون و يتفاكرون وربما يطلقون مبادرات جديدة في أي لحظة. المشتركات بين كل هذه المبادرات التي اضطلعت عليها جميعا يمكن تلخيصها في الآتي:
أن الحرب هي نتيجة اختلالات بنيوية تمثلت في تعدد الجيوش و غياب سلسلة وحدة القيادة والتنافس على السلطة وفشل تجربة الانتقال القصيرة من مخاطبة جذور هذه المشكلة و ربما تعميقها بالصمت على تمدد قوات الدعم السريع و بمباركة القوات المسلحة
الدعوة والعمل على وقف الحرب باستخدام كافة الوسائل الممكنة من حراك مدني و دبلوماسي
العمل على توصيل المساعدات الانسانية للمتضررين و تنسيق جهودها و ضمان ما من شأنه حماية المدنيين
ضمان مشاركة فاعلة للمدنيين تضع البلاد في مسار انتقال يؤسس لسلطة مدنية تشرف على وضع دستور دائم يفتح الطريق لقيام انتخابات عامة
وضع ملف الإصلاح الأمني والعسكري في سلم أولويات أي مرحلة انتقالية تعقب وقف أصوات البنادق
الوصول الي تصورات عملية للإعمار وإعادة البناء عبر جهود محلية و اقليمية و دولية
ثمة غياب للوسائل و الآليات التي عبرها يمكن تحقيق هذه الأهداف في كل المبادرات و اكتفاءها بالتوصيف
لا أعتقد أنه لو قامت ملايين المبادرات ستختلف عن هذه العموميات و السبب أن هذا ما ينادي به الغالبية العظمى من السودانيين بما في ذلك سكان القبور في القبل الأربعة و ربما تنادي به كدايس الخرطوم التي أضحت تحت رحمة قوات النهب السريع. الثابت أن كل هذه المبادرات سوف لن تجيب على سؤال مشروعية التمثيل بشكل موضوعي الذي لا حل له سوى الانتخاب أو التوافق، نحن لسنا في ظرف يسمح لنا بقيام اجسام مدنية تستطيع أن تنتخب قيادة و تطرح تصور متكامل بتفاصيله، أما التوافق العريض فهو ما يجب أن نعمل له و عليه بشكل مستمر، و لكن يجب أن ندرك أننا في وضع حرج و علينا التحرك بسرعة إن لم يكن بالأمس. ففي الوقت الذي تتناسل فيه مبادرات المدنيين يقوم الدعم السريع بارسال مبعوث الى دول الجوار ( أوغندا، و كينيا و جنوب السودان) و الي اوروبا ليقدم تصوره حول تسويق نفسه في ثوب جديد كقوة تحارب الارهاب و تدّعي انها تعمل على قيام سلطة ديمقراطية، ذلك رغم جرائم القتل و النهب في دارفور و احتلالهم بيوت الناس و سيطرتهم على موارد ومقدرات البلاد، و ايضا قام البرهان ( و من خلفه من بقايا النظام السابق) بإيفاد مبعوث لدول الجوار و طرح مشروعه الذي يسعى الى تحقيق اهداف عسكرية عبر التفاوض وتصوير نفسه كممثل للدولة و لسلطة الأمر الواقع. من الذي يتحدث بأسم الاغلبية الساحقة من المدنيين السودانيين الذين اسمعوا طوب الارض ملايين المرات أنهم يطمحون إلى تأسيس نظام ديمقراطي مدني ودولة تقوم على المواطنة المتساوية وصيانة الحقوق الأساسية وتحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة النوعية؟ السودانيين وقدموا من التضحيات ما يكفي للوصول إلى هذه الغايات، فحديث وزير الخارجية الأمريكي عن سلطة مدنية و انتقال ديمقراطي كان أعلى من أصوات السودانيين المنادين بهذه الغايات.
ما العمل إذن في هذا المنعطف؟
في تقديري أنه ليس هنالك وقت للمماحكة والغوص في التفاصيل، فنحن كتبنا ما يكفي من مواثيق و دساتير و أوراق و برامج سياسية و بيانات، ما نحتاجه هو تتقدم قيادة مدنية للصفوف لملء هذا الفراغ المخيف الذي يوطن لحالة العجز، على أن تطلق مشروع عمل طموح في المناطق الآمنة و تعمل على تشكيل زخم شعبي ليس فقط لهزيمة الحرب بل لتأسيس سلطات محلية ذات مشروعية قاعدية، فحالة النواح و عقلية ادارة الكوارث هذي لا تجدي، فقد تطول هذه الحرب لسنوات و لا يمكن التعامل معها بمنطق “التلتيق” ومنهج إطفاء الحرائق، بل أننا نحتاج الى تخطيط و تفكير متأني و إشراك للمجتمعات فى صياغة مصيرها الوطني في كل منطقة حسب حاجاتها وأولوياتها. كما نحتاج أن نبعث بوفود مدنية الى دول الجوار و العالم للتبشير بالدولة التي ينشدها السودانيون و كيف أننا نسعي إلى اقامة وادارة علاقات متوازنة أساسها حسن الجوار و اعلاء مصلحة البلاد مع مراعاة مصالح الآخرين وفق منطق التاريخ و الجغرافيا. لا ازكي نفسي علي أحد لكنني سأقوم بذلك كفرد (و ضمن آخرين) و لا أدعي تمثيل أي جهة وإنما أتحدث بما استشفه في الضمير الجمعي للسودانيين، لكن الأهم هو أنني علي استعداد إلى السير خلف اي شخص أو مجموعة يتوافق حولها الناس لتكون صوتنا في المحافل الدولية و في دول الاقليم و يا ليت أن يكون من بينهم الشباب، طبعا من البديهي أن يكون الذين يتقدمون إلى القيادة على قدر من المسؤولية و المعرفة و الحكمة و الخبرة و القبول لكن الأهم هو الرسالة و المحتوى، و لا أرى مشكلة في تبني منهج قيادة جماعية بالتناوب تكون هي لسان حالنا وصوتنا لتضمن تمثيلنا في أي عملية سياسية قادمة و تضمن أننا من يصمم المستقبل و لسنا فقط “تمومة جرتق” وسط زغاريد الرصاص. اذا لم نفعل فسيأتي ود لباد و غيره من فقير ي الخيال من تجار الأزمات السياسية ببعض من خيالات المآتة و يزعم أنها تمثل القوى المدنية والمجتمع المدني و حينها يجب أن لا نلومن إلا أنفسنا نحن دعاة بناء مشروع وطني تنموي برؤية ديمقراطية ومشاركة شعبية تعبر عن ضمير ثورة ديسمبر، كما يجب أن تتكامل جهود الخارج مع حشد الهمم في الداخل، في ظني هذا الذي يمكن أن يوقف حالة النواح و يخرجنا من مربع العجز.
خلاصة قولي و كما ابتدأت هنالك دوما ما يمكن فعله حتى في اسوأ الاحوال، و لنكف عن المناكفات و ادمان التحليل و القاء اللوم، فالحرب وقعت و الموت و الهلاك واقع معاش و يمكن أن يستمر الهلاك بغض النظر عن صحة تحليل زيد أم عبيد، الواجب الوطني هو التعاطي مع ما حدث أكثر من فهم لماذا حدث ما حدث لأن فهم ما حدث سيظل على الدوام محل تصورات متباينة بتعدد ادوات التحليل و زوايا الشوف. فهلا أتينا الي كلمة سواء و لنترك “ ديل ناس منو” طالما أن الطرح سليم يعبر عن تطلعاتنا.
بكري الجاك
5 يونيو 2023
من طائرة فوق الأطلنطي
المصدر: صحيفة التغيير