الراهن والانتهاكات.. «أكسح وأمسح» أو البوكو السوداني
بقلم : محمد بدوي
لعل التساؤل الرئيسي منذ اندلاع الحرب في السودان عن أسباب ودوافع السرقات الاعتداءات الجنسية والاختفاء القسري كجزء من أشكال الانتهاكات التي يتسع نطاقها بشكل مستمر، لم أقصي حالات القتل لكنها لا تحتاج إلي بحث عن الأسباب فغالبها ناتج من إختيار طرفي الصراع الإشتباك داخل المدن، هذا مع حالات إصابات مميته مباشرة لبعض الضحايا سواء أثناء حالات السرقة أو في الشارع العام .
قبل الخوض التفصيلي عن الأسباب لابد من النظر إلي الإطار المرتبط بدور القوات النظامية في حفظ الأمن الداخلي كالشرطة، وارتباط القوات المسلحة بصراعات داخلية كسجل جعلها بعيدة عن الحروب الخارجية منذ الاستقلال، هذا يجعلنا ننفذ إلي الأسباب بشكلها الارتباطي للإجابة على مصدر ودوافع الانتهاكات المشار إليها .
عرف السودان حرب البروكسي منذ منتصف الثمانينات لمواجهة الصراعات ذات الطبيعة السياسية، عقب وقت قصير من تدشين الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة الراحل الدكتور جون قرنق دمبيور الكفاح المسلح في ١٩٨٣، لجأت الجيش في ١٩٨٤ إلي عسكرة بعض المجتمعات من الجانبين على الشريط الحدودي بين إقليمي شمال وجنوب السودان لمساندة الجيش، فأوكلت إليها مهام تنفيذ سياسة الأرض المحروقة في مواجهة المجموعات التي تقطن في مقترح مسار القوات كتوطئة لتأمين مرور آمن، في مهمة آخري فقد قامت بحراسة وتأمين محيط مسار القطار المتجه إلي مدينة أويل حيث فرضت ظروف الحرب سيره ببطء، لإنجاز هذه المهام فالخطوة الأولي هي التسليح وهو أمر بديهي لكن يطل السؤال عن المقابل؟ الإجابة أن سياسة الأرض المحروقة تخرج الحق في الحياة والكرامة خارج نطاق المحرمات، فالقتل والحرق للقري شكلتا الممارسات التي اعقبها، استرقاق الناجين من الرجال لأخذهم للعمل في الزراعة و اتخاذ الناجيات من النساء والصبيات كخليلات بل في أحسن الفروض زوجات ثوان أما الأطفال من النوعين إلي السخرة في الرعي والأعمال المنزلية، ولنكون أكثر دقة فقد برزت حالات لأعمال السخرة للأطفال من قبل بعض الضباط الذين شاركوا في الحرب الأهلية بفصل الأطفال من أسرهم وإحضارهم عقب انتهاء الخدمة بالحرب إلي الخدمة المنزلية .
نتيجة للضغوط الدولية في ٣٠ يناير ٢٠٠٢ انشأت لجنة سيواك ” لجنة محاربة اختطاف النساء والاطفال” التي تمكنت من اعادة الالاف الي أسرهم المنحدرة من اقليم جنوب السودان ، واصلت اللجنة جهودها حتي بعد انفصال جنوب السودان العام ٢٠١٣ فتمكنت من لم شكل حوالي ١٢٧ شخص آخرين .
إذن هذه الانتهاكات لها سجل سابق ارتبط بالعلاقة بين الجيش والمليشيات، واعتماد سياسة الأرض المحروقة في الصراعات والتي ظلت ظل هدفها العقاب الجماعي للمجتمعات التي ينحدر أو تنحدر منها قادة المجموعات التي حملت السلاح، ظلت فكرة الحصانة من المحاسبة للمليشيات بشكلها الشفهي أو المنصوص عليه بموجب مراسيم رئاسية كما برز في ٢٠٠٤ حينما اصدر الرئيس المخلوع عمر البشير مرسوما منح بموجبه حصانات لحرس الحدود تمثل الركيزة الأساسية لاستمرارها وللإفلات من العقاب تاريخيا وحتى الراهن.
الحل العسكري للصراعات السياسية نمط لازم الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وسارت فيها الحركة الإسلامية السودانية، فكم هو مثيرا للدهشة والحيرة معا، اندلاع صراع دارفور في ٢٠٠٣ ٢٠٠٤ في توقيت كانت الخرطوم والحركة الشعبية في سلسلة من التفاوض للوصول إلي اتفاق سلام، بل عقب فترة قصيرة جدا من تنفيذ ما نتج عن الاستفتاء عن تقرير المصير كأحد نصوص اتفاق السلام الشامل ٢٠٠٥ وانفصال جنوب السودان انتقل الصراع المسلح في حرب جديدة في المنطقتين جبال النوبة والنيل الأزرق في ٢٠١١، فتكررت ذات أنماط الانتهاكات من القتل، الحريق، الاغتصاب، السرقة، الاختفاء القسري، وغيرها وذلك لتكرار النمط المرتبط بسياسة الأرض المحروقة والعقاب الجماعي، ونفس الأدوات من استدعاء المليشيات، القصف الجوي، بعض المصادر ترجح اختفاء حوالي ٧٠٠ قربة من خارطة غرب دارفور عقب بدء الحرب حتى ٢٠٠٤
دور المليشيات والقوات المسلحة يثير حالة مستمرة من الاستغراب فالنزوح واللجوء شكلا نتاجا لانخراطهما ، لكن بالمقابل ظل دور الدولة يكاد يكون غائبا من معالجة الآثار أو تقديم الخدمات لضحايا العقاب الجماعي وسياسة الأرض المحروقة، فيشهد الواقع على ذلك بكنابي السلام ١٩٨٣، للناجين من الحرب في جبال النوبة، والمعسكرات حول المدن الكبيرة التي صارت جزء منها في الراهن، والتي تحول بعض سكانها إلي لاجئي المدن عقب انفصال الجنوب، غياب الخدمات تاريخيا والانتهاكات التي نفذها نظام الحركة الإسلامية من تضيق على العمل اليدوي عبر حملات الجبايات والحملات الشرطية والتضييق على حريات الدينية في تلك المناطق يشكل أحدي النماذج التي تداخل فيها الأثر السياسي والأيدلوجية في تشكيل حالة مركبة من غياب الخدمات والعدالة الاجتماعية المرتبطة بالتمتع بالحقوق والخدمات .
السخرة ظلت سمه داخل سباق ممارسات بعض أجهزة الدولة مثل بعض المؤسسات العقابية التي رسخت السيطرة السياسية لتناميها في ظل غياب إرادة الاصلاح، فقد شهدت فترة الاسلاميين السودانيين تبديل فترة السجن لعسر سنوات مقابل القتال لعام عقب تديين الحرب الأهلية، أما الاغتصاب فقد تفرع ليترسخ داخل المؤسسات الامنية والأمنية والمكلفة بتنفيذ القانون في مواجهة المعتقلين تعسفيا قبل أن تشكل حزم قوانيين النظام العام مناخا لاتساع نطاقه استنادا على استغلال السلطات المطلقة ذات النفوذ السياسي، كما أشرت أن الاغتصاب ارتبط بالصراعات المسلحة الي ان صارت احدي الادوات للقهر، شجع غياب المحاسبة وتعزيز الافلات من العقاب الي تناميها بشكل لم يستثن الجنسين طيلة فترة الاسلاميبن بما يكشف الاسباب التي جعلت الحالة تستمر حتى الراهن.
استمرت ذهنية الحلول العسكرية ففي ١٩٨٦ىنتجية للجفاف والتصحر وصراعات دول الجوار برزت ظاهرة النهب المسلح بدارفور بدلا من معالجتها اقتصاديا تم محاربوها بوحدة شرطية عرفت بمكافحة النهب المسلح .
السياسات الاقتصادية مثل عدم التوازن التاريخي في دعم القطاعات الانتاجية حيث التركيز على القطاع الرعوي في غرب السودان والزراعي الالي فدفي شرق السودان وفق لمساهمتهم في الميزانية العامة خلق التمييز المحوري في السياسات الاقتصادية تاريخيا، هذا قاد الي ظاهرة الاستقطاب في الصراعات للمجتمعات، اصافة الي توسيع دائرة الهوة المرتبطة بالإقصاء الاجتماعي الناتج من اسباب متعددة اهمها الغباب الواسع لدور الدولة في الوفاء بعلاقات المواطنة المتمثلة في الخدمات الاساسية
غياب العدالة تاريخيا ولا سيما استمرار اغفالها حتى في مسودان العدالة الإنتقالية التي تمت صياغة مسوداتها في ٢٠٢٠ بان ركزت على النظر في النكاف الزمني من ١٩٨٩ دون استصحاب ان هنالك تأسيس تاريخي للمظالم مرتبطة بمحركات في ظل استمرار تكوين المليشيات ..
التطورات التي برزت في عهد سيطرة الاسلاميين من تبديد الموارد في الحروب في حرب دارفور من النفط المكتشف في ١٩٩٧ وقبله بدا ظاهرة التصرف في الاراضي الاستثمارية منذ ١٩٩٣ كمورد مالي للدولة مستخدمة في تنفيذ سياسات السلكة وليست المصلحة العامة ، ارتباط الامر بالفساد الناجم من تركيبة السلطة و صراعاتها قاد الي فقدان الموارد مع انفصال الجنوب حتى بدا الاستغلال الممنهج للذهب كمورد لسد الفجوات الاقتصادية وعجز الدولة من توفير فرص العمل والخدمات ، لتبرز القروض الدولية التي سقطت في فخ الفساد، وهنا سيطرت المليشيا والقوات النظامية على الذهب كمورد شكل احدي مداخل تعزيز القوة كمرحلة داعمة للتفكير في السلطة
كما اشرت للعوامل منها غياب العدالة الاجتماعية والحلول العسكرية للصراعات السياسية قادت الي حالات نزوح نتج عنها التحام المعسكرات بالمدن بحثا عن الامن والخدمات لكنها ظلت ترزح تحت فقر الخدمات والعمل اليدوي كمصادر الدخل، أضف سياسية التمكين شجع على التوجه نحو البحث عن فرص عمل في واقع لم يعد متاحا فيه سوي القطاع غير النظامي وغير المقيد بشروط الترخيص والضرائب كعمليات الوساطة او السمسرة والمضاربة .
بروز الذهب بشكل فاق تصور سلطة البشير للدرجة التي لم يتم التفكير فيه لسد الا زمة الاقتصادية في ٢٠١٧ التي كانت بحاجة ل٨ مليار دولار فقط، هذا شجع على ان يصبح الذهب مصدر ثروات اول في ذهن للأفراد او المجموعات العسكرية وهو ما يفسر النهب الذي يستهدف الذهب والمنقولات مثل السيارات أولا وذلك لارتباط آخر هو أن صارت البلاد ٢٠١٤ سوقا للسيارات العابرة للحدود من المتوسطة الصنع المستخدمة” المتخلص منها ” في دول اخري وهى في الاصل على ارتباط بعلاقة اقتصاد المليشيا والصراعات فيها، السياسات الحكومية المتخبطة بإرباك الجمارك والترخيص والرسوم المحلية الغير مسنودة بالقانون جعل الالتفات اليها كمورد يصعد الي قائمة المنهوبات أو المسروقات، حالات نهب وتخريب مقار بعثة اليونامد بدارفور هي لا تخرج من الصراع الحالي في سياق سعي الاطراف لحرمان الاخر من استغلالها لمقار عسكرية في حال الصراعات،اما النمط العنيف في التخريب والسلب لا ينفك من التأثير بالمشاركة في الصراعات خارج الحدود في ليبيا وغيرها لأنها تمثل تركيزا على المنقولات وهو ما يكشف ما يجري الان ولماذا .
الفساد خلال فترة الحركة الاسلامية وسياسة التمكين والكسب المرتبط بالمخدرات بما وصل دخوله بالحاويات قبل بدء تصنيعه داخليا قاد الي ترسيخ غياب المحاسبة في الاذهان تجاه الممتلكات العامة بشكل رئيس اما الخاصة فسقطت تحت مغانم الحرب والاموال التي يصعب تعقبها او قد تخضع لمتغيرات تحول دون ذلك استنادا على ما تم تجاه الغاء قرارات لجنة محاربو الفساد والتمكين عقب انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ الذي اعاد الحال الي ما كان عليه في فترة سيطرة المؤتمر الوطني المحلول.
ما يجري هو نتاح ذوبان فكرة الدولة وارتقاء الحصانات وارتباط الفساد بأشكال متعددة منها بالصراعات والسلطة السباسية وفساد الاجهزة المنوط بها تحقيق العدالة والمحاسبة اضافة الي الاستدعاء التاريخي للتجارب التي ما تطل فترة سباسية تذهب فكرة العدالة ادراج الريح، فضلا عن تراجع مريع في فكرة دور الدولة والكسب المرتبط بالقوانيين واللوائح كعلاقة المواطنة والضرائب وعلاقة الضرائب بالمنفعة المكتسبة .
حينما يردد العالم متحسرا على تبديد موارد السودان المتعددة فهو ينظر إلي مسالتي الإدارة والحكم الراشد، لكن تجدر الإشارة إلي الصراعات السياسية ومواجهتها بالانتهاكات والمواجهات العسكرية إلي جانب خلف من ضحايا الإ أنه حرمهم والدولة من المساهمة في العملية الإقتصادية سواء على مستوي الاكتفاء الذاتي أو التمتع بالرفاهية المرتبطة بممارسة الحق في العمل وتطوير القدرات .
فما يحدث اليوم من انتهاكات ليست سوي استدعاء لسجل الانتهاكات الذي ظل يتراكم نتاج الصراعات المسلحة في دولة ما بعد الاستقلال، دور سلطة الحركة الاسلامية التي ساهمت بتغذيتها بعسكرة المجتمعات والافقار الممنهج مقابل التكوين المستمر للمليشيات، وعنف الدولة الممنهج الذي تغذي بأشكال مفرطة على نسق ” أكسح وأمسح”، وكذلك من جراء اتساع المشاركة في حروب البروكسي في دول الجوار وغيرها، وعلى ذات فتح حدود البلاد لموارد الدول التي تشهد الصراعات مثل السيارات ” البوكو” وغيرها فهل يتكرر المشهد بشكل معاكس
المصدر: صحيفة التغيير