اخبار السودان

لا للحرب من راحة الضمير إلى محاولة التأثير

 

لا للحرب من راحة الضمير إلى محاولة التأثير

محمد حسبو

 

في إعلان مشروب البيبسي يسأل أحدهم: بتحبوا البيبسي قبل الأكل أم أثناءه أم بعده، ليختار المشاركون بين هذه الخيارات دون أن يتاح لهم القول: لا نحب البيبسي، أو حتى: نحب البيبسي لكن لا يرتبط شربنا له بالأكل..

وهو عين ما يحدث إزاء الحرب بين الجيش والدعم السريع، لتصبح مهمة السؤال إلهاءنا عن ابتناء المخرج (الذي نريده) من كارثة الحرب، وعن فحص دوافع الحرب لدى أطرافها، ومنطلقات المواقف المتباينة منها.

 

(١) الدعم السريع، عنف “همج” البادية..

يجوز النظر للأغلبية العظمى من مقاتلي الدعم السريع بوصفهم المعادل “الإثني” للبروليتاريا الرثّة، أو التجلّي المعاصر لمليشيا الهمج (من دولة الفونج)، ممن يرون في حميدتي القائد والمخلّص الذي سيمكنهم من وراثة “السنانير الجدد” وسلب أملاكهم غنائم حرب، إن احتلال البيوت وأعمال النهب التي ترتكبها هذه القوات ليست عرضًا للحرب أو collateral damage، بل هي جوهر الحافز الاقتصادي الاجتماعي لهؤلاء المقاتلين، وهي أصداء هتافات جنود أبو لكيلك: “يا سنار جاكي النار” تدوّي بعد ٢٥٠ عامًا، بلهجة لابسي الكدمول. لكن من نافلة القول، إنّ تدمير دولة البحر وتجريفها ديموغرافيًا لمصلحة مكوِّن إثني/ جهوي، يسير في الاتجاه المعاكس للمفهوم المدني عن تحطيم الدولة القديمة واستبدالها بدولة كل السودانيين، فالدعم السريع لم يطرح يومًا برنامجًا سياسيًا لتفكيك الدولة القديمة وعلاقاتها، لكونه بالأساس ربيب سلطة المركز، عبد المنزل الذي لطالما استُخدِم للفتك بعبيد الحقل، قبل أن يتحول هو ذاته، قيادته على الأقل، إلى أحد سادة البيت والمتربص لطرد السادة الآخرين والمضي في مشروع توسعي لا يقبل الشراكة، ناهيك عن غشامة الدمج.. فالذي على المحك لدى قيادة الدعم هو تأسيس سلطنة الكدمول على الحزام الممتد من البحر وحتى المحيط، وهو طموح يلتقي مع وتمت تغذيته وتوظيفه عبر مصالح كلية استراتيجية لحلفاء إقليميين ودوليين يشغلهم وضع اليد على ثروات هذا الحزام حتى لو كان ذلك، أو بالأحرى حبّذا، تحت أطناب الفوضى، ثم فتحه من بعد إن استتب لهم الأمر كطريق مختصر وأقل كلفة للتبادل التجاري بين الشرق والغرب..

 

(٢) مساندة الجيش للحفاظ على الدولة (أي دولة؟)..

لو قبلنا صياغة السؤال بطريقة إعلان البيبسي إياه فإن الإجابة السهلة والمباشرة هي تفضيل انتصار “مؤسسة” القوات المسلحة والحفاظ على الدولة.. ولكن أي دولة؟.

يموِّه موقف دعم مؤسسة الجيش للحفاظ على “الدولة” (ومن ثم مواصلة العمل على إصلاحها؟)، يموِّه ويغلِّف انحيازات طبقية واجتماعية تشي بمكنون لاوعي الفئات الاجتماعية التي تفضِّل استعادة الدولة “كما تعرفها” على أن تذرو امتيازاتها همجيّة الجنجويد وهم يقيمون إمبراطورية مرابطيهم على أنقاض أندلس السودان القديم، انحيازات لم يستطع مقاومتها حتى أصحاب إدعاءات ثورية نزعوا أقنعتهم ليتحولوا من فورهم إلى إصلاحيين (مثلما ارتدّت، مجموعات كانت تنادي بالإصلاح المتدرِّج، وتندد بالثورة، إلى أدعياء حرب).

السند غير المشروط للجيش بذريعة الانتصار “للدولة”، وإن جرى تسويقه (أحيانًا) كتكتيك مرحلي، يعني، في التحليل الأخير، استعادة الدولة القديمة في أشرس نسخها بل وأكثر ردة، فالجيوش التي تخرج منتصرة من الحرب يسكرها إحساسها بالاستحقاق وقلّما تقدم “التنازلات” كما يتوهّم المُرجئة والمتحذلقين..

يتعامى الانحياز غير المشروط للجيش عن أن ثورة شعبية يناهز صمودها الخمس سنوات إنما قامت لتفكيك دولة ما بعد الاستعمار، وليس لتكريسها بذريعة الحرب، وبذا فإن الأوفق، لمن ينتسبون لهذه الثورة ومشروعها للتغيير، إعطاء الأولوية لاستعادة الثورة وأهدافها وليس لاستعادة دولة تعمل هي، بالأصل، على تفكيكها..

هذا الانحياز يجسِّد عمق حالة اللامبالاة تجاه ضحايا عنف الدولة المنحلّة وجيشها، ويحاول طمس تاريخ جهاز الدولة السودانية وبالأخص جيشها كأداة قمع وإخضاع، إنه لحظة افتضاح نفاق السودان القديم وهو يدوس، في لحظة ذعر، على إدعاءاته المنمقة باستعداده لإعادة توزيع امتيازاته المتوارثة لصالح دولة كل السودانيين.

إذا كان البشير ونظامه مسؤولين عن صناعة المليشيا وفرض وجودها فإن القيادة الحالية للجيش (والقوى المدنية التي شاركتها قيادة الفترة الانتقالية) هي المسؤولة عن تنامي عدة وعتاد الدعم السريع وغضّت النظر عن إعادة تمركزه وعن تمدده خارجيًا بالدرجة التي رفعت كلفة الحرب الحالية أضعافًا مضاعفة، الدعم الشعبي لذات بنية الجيش يعني أن يدفع الشعب من غالي تضحياته ودامي مآسيه ثمنًا باهظًا لهم مرتين، مرة لتربية الحيّات ومرة لمحاولة قتلها، بهدم بيته هو، عليها وعليه..

تحتاج قوى ثورة ديسمبر أن تستمسك أكثر من أي وقت مضى بشعاراتها: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، واعتبار الحرب مرحلة ضمن مسار الثورة، والفصل على الدوام بين تطلعاتها لاستعادة ثورتها ومواصلة مشروعها، وبين تطلعات التأييد المتحايل للجيش من أجل استعادة الدولة الفاسدة..

 

(٣) لا للحرب، من راحة الضمير إلى عنت محاولة التأثير..

والحديث هنا حصرًا مع وعن الفئة التي تتمسك بموقف رفض الحرب من منطلق مبدئي، وليس تلك المجموعة التي ترفع مصاحف (لا للحرب) من باب التقيّة والتذاكي المكشوف، فهؤلاء ستبدي لهم الأيام أنهم كالمستجير من الرمضاء بالنارِ..

 

الفئة المعنية ممن يطالبون بوقف الحرب كموقف جاد ومبدئي، ولئن كانت تتحلى بسلامة الحس إلا أنها ما تزال تفتقر للرؤية وخافتة الصوت، فموقف لا للحرب يستوجب تطويره، وعلى الفور، من موقف إنساني وأخلاقي إلى مشروع سياسي له أسس واضحة وتدعمه حركة جماهيرية نشطة واسعة تلتف حول إجابة سؤالين مرتبطين عضويًا هما: (١) كيف نوقف الحرب؟ و(٢)ماذا بعدها؟. ذلك أنّ السيناريوهات التقليدية لإنهاء الحرب (انتصار أحد أطرافها الحل التفاوضي بين طرفيها أو عبر التدخل الدولي) تشترك في كونها تقصي الإرادة الشعبية أو ستقوم بتزويرها عبر مشاركة شكلية مالم تبلور هذه الإرادة رؤيتها ومنصاتها. فما هي إذن الصيغة التي يمكن أن يطرحها شعار #لا_للحرب أو #لازم_تقيف؟

يجب أن يخاطب المشروع السياسي لـ”لا للحرب” دوافع الحرب ويجرّدها من مشروعيتها، وتُفعّل حوله التعبئة الجماهيرية بكل أشكال عملها ودعايتها خصوصًا خارج مناطق الاشتباك بامتداد البلاد وباستنهاض فعاليات جالياتنا خارجها، إنه المشروع الذي يعبِّر عن مرحلة جديدة من مسيرة ديسمبر وأبرز النقاط التي يجب أن يعالجها مضمونه هي:

 

١ وقف الحرب يعني فتح المجال السياسي لواقع جديد يستكمل مسار ثورة ديسمبر ومطالبها في التحول الديمقراطي، تصفية نظام المؤتمر الوطني، العدالة والمحاسبة، السلام الشامل..

٢ وقف الحرب يجب أن يؤدي إلى بناء جيش قومي مهني واحد وفق عقيدة وقيادة جديدتين بأجل زمني متوافق عليه..

٣ شعار حل مليشيا الدعم السريع يجب أن يكون في قلب المشروع السياسي لإنهاء الحرب، لنزع وإبطال أي مشروعية لإدعاءات الدعم السريع بخوض الحرب من أجل التحول الديمقراطي.

٤ وقف الحرب يقود إلى تفكيك علاقات السلطة للدولة القديمة وتؤسس لذلك عملية سلام شامل في قلبها حركتي عبد العزيز الحلو وعبد الواحد النور من خلال الحرص على مشاركتهم الطليعية في إعداد وثيقة هذا المشروع وليس إلحاقهم بها..

٥ يتضمن المشروع السياسي لوقف الحرب، وبعيدًا عن مربعي العمالة والانكفاء، رسائل محفزة للدول صاحبة المصلحة في وقف الحرب وتعهدات بتضمين هذه الحوافز في خطط ومشروعات الإعمار ما بعد الحرب لتتناسب طرديًا مع ما يمارسونه من ضغوط على أطرافها. كما يتضمن المناشدات المطلوبة للمجتمع الدولي للضغط على رعاة هذه الحرب والتضييق عليهم..

٦ جهود الإعمار المار ذكرها، ومثلما يجب أن تكون أداة تفاوض مع المصالح الدولية، يجب أن تكون أداة معالجة وإنصاف للبناء على أساس التنمية المتوازنة واللا مركزية، وليست لـ”إعادة” إعمار/ إنتاج ذات الدولة القديمة التي تركزت مقدراتها في دائرة قطرها عشرة كيلومتر، ولتكون مشاريع الإعمار بهذا المعنى مدخلًا بذاتها لإنهاء المظالم التاريخية.

 

لا جدال أن كلمة القوى المدنية اليوم خفيفة في الميزان، لكن كل يوم يمر في غياب مشروع شعبي للحل سيضاعف أُسِيًّا فاتورة الحرب ويدفعها صوب هاوية من الاقتتال الأهلي ليس لها قرار، بينما يستطيع مثل هذا المشروع، إن تسلّح بالتجرّد والعمل الجاد، أن يحوِّل توازن الضعف بين طرفي النزاع وتآكل قوتيهما إلى فرصة انتصار، أو أقلّه، سيسجل له التاريخ أنه لم يخسر قضية أرضه ووجوده دون مرافعة لائقة ضد ما يُراد إلحاقه بها من دمار..

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *