اخبار المغرب

طلب 300 ألف سائح أسبوعيا بالمغرب .. رحلة موسيقية من الحقل إلى المدينة

تلقيت دعوة لحضور ندوة صحافية لمهرجان موسيقي في كازابلانكا في منطقة القطب المالي للمدينة. ذهبت لأرى هل يختلف الأمر عن ندوات الأدب والسينما، ولأجرب أساليب كتابة فنية جديدة. إن عشاق الأغاني المصورة أكبر من متابعي الأفلام. يمكن للفرد مشاهدة فيلم مرتين في حياته والاستماع إلى مقطع موسيقي عشر مرات يوميا و300 مرة في الشهر. ليس صدفة أن يحقق “فيديو كليب” مليون مشاهدة في نصف يوم.

وصلت إلى حديقة آنفا. الأمر هنا مختلف تماما. نغمات الساكسوفون والقيثارة ساحرة. المنصة مشغولة والفرق تعزف قبل بدء الندوة الصحافية.

يجري الحدث في حديقة عصرية كبيرة في الحي المالي للدار البيضاء، حيث تنتشر عمارات كبيرة فاخرة متباعدة في شرفات شققها حدائق خضراء.

لا توجد هنا مائة عمارة ملتصقة وصفر مناطق خضراء. لقد ركبت من محطة الترام محمد زفزاف ونزلت في محطة الترام حديقة أنفا. قطعت عشرين كيلومترا. المكان هنا يتحدث عن نفسه. أدون هذا بهدف ملاحظة الاختلافات وبصفر حقد طبقي. الخضرة في كل مكان. الفضاء نظيف جدا. من لم يصدق ليذهب لكي يصوّر سيلفي.

أتدرب على التفكير بمنطق المكان والزمان. لست هنا للدعاية ولكن لتناول اللاعدالة المجالية في المدن المغربية.

في وسط الحديقة منصة عليها مكبرات صوت فاخرة يتناوب عليها عازفون وعازفات شابات. بعد ساعة التحق الجميع بقاعة فيها شاشة عملاقة تعرض صورا من الدورة السابقة للمهرجان، ولقطات للفرق الموسيقية التي ستشارك في الدورة القادمة من مهرجان “كازابلانكا جاز” 22 يونيو 2023.

أدخل أجواء غير مألوفة، وهذا ضروري لأني حسب الكاتبة الأمريكية صاحبة رواية جاز “عشت طويلا، ربما أطول مما ينبغي، في رحاب خواطري، ويقول الناس إنني ينبغي أن أخرج على نحو أكبر من عزلتي، وأختلط بالآخرين”، توني موريسون. جاز. ص 16.

أنا الآن وسط الآخرين.

رحب مدير المهرجان بالحضور بالفرنسية وعبر عن سعادته لأن جمهور المهرجان في الدورة السابقة اعتبر أن “كازابلانكا صارت مثل نيويورك”.

الصوت واضح. الميكروفون صغير جيد والصوت صاف وليس فيه صفير أو شخير كما حصل في ندوات صحافية ثقافية تقليدية كثيرة حضرتها. تذكير: نحن في الحي المالي لكازابلانكا.. ثمن بطاقة الدخول للحفلات يبدأ بحوالي ستين دولارا.

بعد كلمة قصيرة لمدير المهرجان عاد العازفون للمنصة. في ندوة للموسيقى ليس هناك الكثير لقوله لأن الإيقاعات أبلغ من الكلمات… لذلك فالتغطية الإعلامية ستكون مصورة لا مكتوبة. وحدي أحمل قلما وأوراقا وأبحث عن سر المكان.

أدخل أجواء غير مألوفة، هذا فضاء خاص له صحافته الملائمة، رقمية وغير ورقية غالبا. يكفي ميكروفون وكاميرا لتسجيل الاستجوابات في سؤال “ما رأيك؟”.

نحن في حضارة الصورة وكل المجالات ستغير نهجها في التواصل. الكتابة سلوك عتيق.

بينما تقدم العصائر والحلويات الفاخرة سلمت على مدير المهرجان وسألته بالفرنسية:

ما الذي تفعلونه؟.

نقدم مهرجانا للموسيقى بمنظور جديد يستجيب لتطلعات المدينة.

أنا جئت من موسيقى الحقل.

أجاب فورا: وأنا ولدت مع موسيقى المدينة ولم يكن هذا اختياري.

التقط التلميح إلى حكاية إيسوب عن فأر الحقل وفأر المدينة.

بالنسبة لي، هذه نقلة ذوق من موسيقى الحقل إلى موسيقى المدينة، من موسيقى الشيوخ إلى موسيقى الشبيبة المتمردة. تساعد مقارنة الأمكنة والإيقاعات على فهم السياقات.

لقد انتقلت من معايشة الموسيقى الشعبية المتجذرة في تربة المغرب إلى الإصغاء إلى موسيقى أمريكية تستعيد جذورها الإفريقية في جاز كازابلانكا.

قلت للسيد المدير:

أنت تتكلم العربية إذن.

مرة في العام.

وأنا أتكلم الفرنسية مرة في العام.

ضحكنا من مفارقات المكان واللغة.

قلت: هل يحتاج المغرب مهرجانا جديدا؟.

يستقبل المغرب عام 2023 بين 250 ألفا و300 ألف سائح أسبوعيا.. كيف سيفيدهم المغرب ويمتعهم بعد شمس البحر وشمس الجبل ووجبات الطاجين؟.

ليس لدي جواب.

300 ألف سائح أسبوعيا كم من مهرجان يحتاجون وكم من نشاط ثقافي يطلبون؟.

هذا الطلب زاد بعد نجاحات المغرب في مونديال قطر.

هل فكر منظمو المهرجانات القائمة في نوع وكم الترفيه الذي يطلبه هؤلاء الـ 300 ألف؟.

لا يمكن للمهرجانات التطوعية والهاوية أن تستجيب لكل هذا الطلب. لا بد من مهرجانات محترفة. تنظيم المهرجانات عمل يدرّس.

ـ هذه مشكلة كبيرة تحتاج تخطيطا. هل من حل؟.

هناك مشكل آخر، يتجمع جل هؤلاء السياح حول مراكش حيث تقل المهرجانات.

قلت: فعلا لا يطابق التوزيع الجغرافي للسياح التوزيع الجغرافي للمهرجانات.

قال مدير المهرجان الذي ألتقيه أول مرة: لذلك يجب علينا زيادة جاذبية كازابلانكا سياحيا. بل يجب زيادة جاذبية مناطق مغربية كثيرة لم يسلط الضوء بعد عليها.

بعد ذلك تشعب الحديث مع السيد أحمد العلمي، مدير مهرجان “جاز كازابلانكا”، وهو رجل أعمال يشتغل على خصائص سوق الفرجة في زمن العولمة.. تحدث عن الصناعة الثقافية في سوق التسلية والتخطيط على المدى البعيد.

لدى مدير المهرجان نظرة ليبرالية للثقافة وهذا مقلق لشخص مثلي يخاف من السوق. أثبت الواقع أنه دون سوق كل شيء يموت في النهاية… لقد انتقل العالم من اقتصاد “الهبة” حسب مارسيل موس إلى اقتصاد “خذ وهات”، لكن الحقل الثقافي لم يهجر مارسيل موس بعد. وهذا يظهر في أسئلتي، قلت:

وهل الجاز يناسب ذوق الجمهور؟.

استمعتَ للمعزوفات، نحن نقدم موسيقى محلية وعالمية. لدينا فرق محلية وأجنبية. بين النغم المحلي والعالمي. الموسيقى لغة كونية.

“كازابلانكا صارت مثل نيويورك”. هذا مبهج لرجال الأعمال ولشباب الحي الراقي، لكن هذا شعار مزعج لأي مثقف قومي تقليدي مناهض للاستعمار يؤمن بأن الثقافة فعل تطوعي.

ضبطتُ نفسي أتحدث مثل معمر القذافي. سيصطدم رجل الأعمال المتصل بالسوق بهذا الخطاب في تعامله مع أعضاء المجلس البلدي للدار البيضاء الذين فشلوا في منع العربات التي تجرها الحمير من التجول في كازابلانكا.

أقف الآن في فضاء عصري يقطع مع العالم الفلاحي ومع الهبة، يقطع مع التطوع لكي يحول التسلية إلى سوق له شروطه ويعرف منافسة عالمية مدوية.

لقد هيمن التطوع على الإنتاج الثقافي المغربي لزمن طويل… إنتاج ثقافي يجري ضمن جمعيات وأحزاب مناضلة تراجع دورها فظهرت مساحات فراغ كبيرة.

والآن؟.

جاء زمن الأجواء غير النضالية وغير التطوعية…لا بد من التفكير في العمل الفني بمنطق السوق… هكذا سيعيش الفنانون المغاربة بعائدات أعمالهم بدلا من أن ينتظروا الدعم المؤقت والإعانات المؤقتة ويموتون فقراء كما يحصل للكثيرين حاليا.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *