اخبار الكويت

المعز لدين الله الفاطمي صفحات من سيرة القائد التونسي ومؤسس القاهرة بقلم بقلم السفير التونسي لدى البلاد الهاشمي عجيلي

يتنزل حديثنا عن المعز لدين الله الفاطمي في إطار تسليط مزيد من الضوء على هذه الشخصية الوطنية الفذة، وإعادة الاعتبار لجذورها الأصلية، حيث تغافل بعض الباحثين والمؤرخين عن إبراز موطن انتمائه وإنجازاته بالبلاد التونسية، مكتفين بالإشارة حينا إلى المهدية دون تحديد مكانها بدقة والتعميم أحيانا كثيرة باستعمال مصطلح الدولة الفاطمية في الغرب الإسلامي.

وسعيا إلى تحري الدقة والإنصاف وتسمية الأشياء بمسمياتها، وجب التوضيح أن البلاد التونسية كانت مركز «افريقية الإسلامية» وهي منطلق الفتح نحو الأندلس، وأن القيروان سميت بـ «رابعة الثلاث» بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف.

أما المهدية، فهي مدينة ساحلية بوسط البلاد التونسية، تفصلها عن القيروان 100 كم، وكذلك المنصورية، وهما عاصمتان للدولة الفاطمية الأولى التي دامت 63 عاما.

وبما أن أساس الأمور بداياتها، فقد تركز حكم الفاطميين في البلاد التونسية أولا، ثم منها توسع باتجاه بقية بلاد المغاربية وصقلية والحوض المتوسط ومصر وبلاد السودان، تلاهما تمدد ثان في أجزاء من الشام والمشرق العربي.

كما وجب علينا أن نوضح للقارئ أن المعز لدين الله الفاطمي عاش في تونس43 عاما، وأقام في القاهرة 3 سنوات فقط.

إن استعراض مقتطفات من سيرة المعز لدين الله الفاطمي يعود بالأساس إلى مكانته كأحد عظماء تونس على مر التاريخ ومن كبار قادة العالم العربي والإسلامي، وكذلك لما تحلى به من صفات قيادية وعلمية واسعة، ندر أن اجتمعت في شخص غيره.

ولد المعز لدين الله بمدينة المهدية سنة 932 ميلادي ولقب بمعد وكنيته أبو تميم، وكان له بنتان و4 أبناء أشهرهم تميم الشاعر.

تلقى في طفولته تكوينا دينيا وعلميا نوعيا من لدن مفكرين وعلماء بارزين في إفريقية أهمهم المظفر الصقلبي، كما حظي برعاية وتوجيه خاص من قبل جده القائم بأمر الله، الخليفة الفاطمي الثاني (حكم من 935 إلى 945 ميلادي) وأبيه المنصور ابن الطاهر اسماعيل، الخليفة الثالث (امتد حكمه من سنة 945 الى 952).

وتتفق المصادر التاريخية في وصف المعز بأنه منذ كان طفلا تميز على أقرانه بالنجابة والنبوغ، كما تنامت لديه في سنوات قليلة ملكات الاستنباط والابتكار وأقبل على اللغات والعلوم وتبحر في مناهج الفكر والمنطق والمحاججة.

يقول الدكتور السوري عارف ثامر في كتابه «المعز لدين الله الفاطمي: واضع أسس الوحدة العربية الكبرى»، إن المعز كان يتكلم ويجيد عدة لغات في عصره منها الرومية واللاتينية والصقلبية والسودانية ولهجات البربر.

كان المعز طيب القلب حليما ذا صدر رحب، عطوفا على الرعية وعادلا في قضاء شؤونها مكثرا من التواصل مع أفرادها، محسنا لهم ومنصفا لضعيفهم ومظلومهم، وكان يتجول في الأسواق ويرتاد المساجد بدون حرس، الأمر الذي جلب له الكثير من المحبة والتقدير.

امتاز المعز بمهابته ووسامته لدرجة أنه لم يكن باستطاعة أحد التحديق في وجهه وعينيه، يقول «بنقولا» سفير إمبراطور الدولة البيزنطية خلال زيارته لمدينة المنصورية سنة 967 ميلادي «أخطأ الروم حينما أطلقوا عليه اسم ملك المتبربرين، فأنا حينما بعثني إليه نقفور فوكاس رأيت من عظمته في عيني، وكثرة أصحابه ما كدت أموت فيه، وحينما دخلت عليه رأيت فيه نورا غطى بصري وكان على سريره كأنه ملاك هبط من السماء».

بالتوازي مع صفاته الحميدة، أظهر المعز منذ شبابه مؤهلات قيادية كبيرة وتمكن بفضل ذكائه وفطنته وقوة عزيمته أن يوطد حكم الخلافة الفاطمية وأن يتصدى لمخططات خصومه وأعدائه في الداخل والخارج، وأن يمد ملكه انطلاقا من تونس باتجاه مصر وبلاد السودان والشام واليمن، كما كان له تأثير في شبه الجزيرة العربية وبلاد الهند وفارس وآسيا.

قضى المعز 21 عاما على سدة الحكم بالبلاد التونسية، تميزت بتطور العلوم والآداب والفنون، أرسى العدل فيها وبها شيد الحصون والقلاع والجوامع والقصور والأسواق وطور الزراعة والصناعات وازدهرت في فترة حكمه التجارة البرية والبحرية وتعززت الحرف والفنون وخصوصا منها الزخرفة والزليج والسيراميك، التي انتشرت لاحقا في بقية الأصقاع.

للتذكير فإن الحرفيين الفاطميين في تونس تفننوا في توريق الزخارف الإسلامية على قصور مدينتي المهدية والمنصورية ومدارسها وجوامعها وأطلقوا على البلاط تسمية «الزليج» لأن القدم «تنزلج عليه فتنزلق بسرعة» منشئين مدارس حرفية في الغرض تكثف نشاطها في عهد الدولة الصنهاجية وريثة الخلافة الفاطمية، وكلتاهما دولتان مركزهما البلاد التونسية، الشهيرة قديما بفن الفسيفساء وبتقنية النقش على الرخام والجبس والخشب والزليج والسيراميك القرطاجي والروماني.

واشتهر المعز بتبحره في علم الفلك، وهو الذي اشتق اسم عاصمته الجديدة «القاهرة» من كوكب «القاهر» أي «المريخ» تقول بعض الروايات أن يوم تأسيس القاهرة ظهر المريخ في الأفق، فسماها المعز بهذا الاسم، وواظب على تحفيز العلماء وتشجيع الاختراعات وفي عهده صنع أول قلم خازن للحبر في تاريخ البشرية وانتشر بعدها في ربوع العالم.

يوضح القاضي التونسي النعمان ابن حيون في مؤلفه «المجالس والمسايرات» هذه المسألة «قال المعز: نريد أن نعمل قلما يكتب به بلا استمداد من دواة يكون مداده من داخله، فمتى كتب الإنسان كتبا به فأمده بذلك ما شاء ومتى شاء تركه، فارتفع المداد وكان القلم ناشفا فيه، يجعله الكاتب في كمه أو حيث شاء فلا يؤثر ولا يرشح شيء من المداد عنه ولا يكون ذلك إلا عندما يبتغي منه ويراد الكتابة به فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنا سبقنا إليها ودليلا على حكمة بالغة لمن تأملها وعرف وجف المعني فيها..» ويضيف النعمان «قلت ويكون هذا يا مولانا، قال إن شاء الله يكون..».

ثم يضيف القاضي النعمان سرده لهذه المسألة «فما مر بعد ذلك إلا أيام قلائل، حتى جاء الصانع الذي وصف له المعز الصنعة به، معمولا من ذهب فأودعه المداد وكتب به وزاد شيئا من المداد على قدر الحاجة، فأمر بإصلاح شيء منه فأصلحه وجاء به فإذا هو قلم يقلب في اليد ويميل إلى كل ناحية، فلا يبدو شيء من المداد فإذا أخذه الكاتب وكتب، كتب أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثم إذا رفعه عن الكتاب أمسك المداد».

وكان للمعز موقف من «النجامة» أو التنجيم فيقول «من نظر في النجامة ليعلم عدة السنين والحساب ومواقيت الليل والنهار، وليعتبر بذلك قدرة الله جل ذكره، وما في ذلك من الدلائل على توحيده، لا شريك له فقد أحسن وأصاب، ومن تعاطى بذلك علم غيب الله والقضاء بما يكون، فقد أساء وأخطأ…».

كما برع المعز في الفلسفة والأدب ونظم الشعر وله كثير من القصائد والأبيات الشهيرة أبرزها:

لله ما صنعت بنا تلك المحاجر في المعاجر

أمضى وأقضى في النفوس من تلك الخناجر في الحناجر

ولقد تعبت ببينكم تعب المهاجر في الهواجر

وكان المعز عالما بأصول الدين والفقه وتميز عهده بالتسامح الديني، وحرية المذاهب، حيث يرتاد مجلسه يوميا شيوخ وعلماء وقضاة وشعراء من المذهب المالكي والإسماعيلي، وكان شغوفا بمناظرتهم ومحاججتهم.

وبحكم موقعه كإمام للدولة، فقد كانت له إسهامات دينية قيمة، أبرزها خطبه التوعوية ومناجاته الصوفية وأهمها «أدعية الأيام السبع» التي تفنن في نظمها وصياغتها بأسلوب ينم عن معرفة دينية عميقة وسعة علمية واسعة.

فيقول في مطلع أحدها «الحمد لله ذي الأسماء الحسنى والكلمات التامات العليا التي بها نخلص إلى التوحيد، ومنها نستوجب المزيد للتأييد. تعالى أن يقال موصوف، أو لا موصوف، أو يناله نفي، أو إثبات، أو إدراك بحس، أو إيقان بنفس الذي يقال بالتقريب إلى الأفهام، إنه الواحد الذي الخدود لها له، ومنه وبه وإليه. فهو الواحد الصمد الذي منه الأسماء والمدائح التي أظهرها قدما إلى وليه، الأول، السميع البصير بخلقه، الرؤوف بهم بإنفاذ الرسل إليهم، الأول والآخر لأنهما له وبه وإليه، فالق الإصباح، وخالق الأشباح، ومبدع الأرواح والأجسام ذات النواح، البعيد من الجور والظلم، البريء من الفواحش والجرم….».

ثم يضيف في مقام آخر وبلغة بليغة وإيجاز معبر «اللهم إنك أسست دينك على مثال خلقك، ليستدل بخلقك على دينك وبدينك على حدودك وبحدودك على وحدانيتك…».

وبعد أن استتب له الأمر في بلاد المغرب العربي وصقلية وحوض المتوسط، قرر في خطوة جريئة، أن ينتقل إلى الشرق، بهدف الاقتراب من مركز الخلافة العباسية التي كانت تبعد عن العاصمة المهدية بتونس 4500 كلم في حين لا يفصلها عن مدينته الجديدة القاهرة سوى 1700 كلم.

ويقترن ذكر المعز لدين الله الفاطمي بأنه الخليفة الفاطمي الذي فتح بمعية معاونه جوهر الصقلي مصر وضم بلاد السودان، اللتين كانتا خاضعتين لحكم الإخشيديين، وفي عهده تم تأسيس القاهرة وبناء جامع الأزهر الشريف (970 ميلادي) هذا المعلم الإسلامي الخالد الذي ترأسه القاضي التونسي النعمان إبن حيون، كأول إمام له، لكنه توفي بعد فترة قصيرة من حلوله بأرض مصر الشقيقة.

للتذكير فإن الفقيه التونسي النعمان ابن حيون، هو أصيل مدينة القيروان، ويعد من أبرز فقهاء وقضاة الدولة الفاطمية، ألف 13 كتابا أبرزها دعائم الإسلام، والتوحيد، والمجالس والمسايرات، وجلها كتبت بالبلاد التونسية التي كانت تعيش ثراء فقهيا وأدبيا وعلميا وتعرف ازدهارا اقتصاديا وشكلت بيئة محفزة للإبداع والتسامح الديني والتعدد المذهبي والفكري.

كما وجب الإشارة إلى أنه رغم قصر فترة حكم المعز بمصر، إلا أنها كانت حافلة بالإنجازات والآثار، ومثلت دعامة لترسيخ الحكم الفاطمي طيلة 200 سنة إضافية، وفي هذا السياق يقول المفكر المصري «يوسف زيدان» إن الفاطميين «هم من رسخوا اللغة العربية والدين الإسلامي في مصر».

هذا غيض من فيض، سطور من سيرة حافلة، لعزيز تونس الذي أعز القاهرة فاعتزت به وأحبته، هو أحد أبطال البلاد التونسية، هو ثمرة من أرض الخضراء، تنمو بذورها في أي مكان تحل به ويعلو ذكرها أي زمان تطل فيه، تنتج فكرا نيرا فيتوالد، تنشئ معمارا فيخلد، بصمات روادها وبركات مصلحيها، قد نعد بعضها ولا نحصيها كلها…ومسؤوليتنا اليوم أن نذكر بهم إنصافا وعرفانا.

المصدر: جريدة الأنباء الكويتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *