أبعاد الانتخابات التركية وأسباب تراجع العدالة والتنمية في حوار مع إدريس بوانو الخبير في الشأن التركي
ما هي ملاحظاتكم الأولية حول الانتخابات التركية الأخيرة التي جرت في 14 ماي 2023 ؟
أول ملاحظة هي أنه تم تسجيل نسبة عالية من مشاركة الناخبين الأتراك، وهي نسبة لم تسجل في أعرق الديمقراطيات الغربية أو غيرها. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الوعي السياسي العالي للناخب التركي وإدراكه لأهمية صوته في التغيير والإصلاح السياسي.
ثانيا، لقد أعطت العملية الانتخابية التي جرت بتركيا أمس نموذجا للممارسة السياسية التي يمكن أن تشكل مدخلا للإصلاح والتغيير، بحيث إن العملية مرت بسلاسة عالية جدا لم يسجل معها أي انزلاق أو انفلات أمني.
فتركيا بممارستها الديمقراطية قدمت درسا بليغا للعالم أجمع، وعلى رأسه العالم الغربي والعالم العربي.
ثالثا، الآن صار بإمكان العالم الإسلامي أن يفتخر بممارسة سياسية نموذجية ولم يعد هذا الأمر حكرا على جهات معينة.
وإذا كان الغرب إلى وقت قريب يستطيع أن يسوق نموذجه الديمقراطي ويدعو العالم إلى الاحتذاء به والنمذجة على سلوكه الاقتصادي والسياسي، فاليوم برزت تركيا نموذجا أكثر قوة وأكثر صلابة من الناحية الديمقراطية.
(ادريس بوانو باحث وأكاديمي مغربي مهتم بالشأن التركي)
ما الذي يميز الانتخابات الجارية اليوم في تركيا؟
الانتخابات التي جرت أشواطها الأولى في تركيا، يوم أمس، تميزت بكونها مرت في ظروف إقليمية ودولية مطبوعة بالاستقطاب الدولي بين روسيا والغرب من جهة وبين الصين والغرب من جهة ثانية.
كما تميزت بكونها مرت في ظل اقتصاد عالمي مضطرب وقلق.
وعلى مستوى الداخل التركي مرت الانتخابات على إيقاع استقطاب حاد بين عدة أطراف داخل الساحة السياسية التركية انعكس على مستوى الخارج أيضا.
لقد تابعنا التكتل الغربي الداعم لأحد المكونات السياسية التركية في مقابل التضامن غير المسبوق مع التكتل الثاني الذي يمثله تحالف أردوغان.
وليس هذا الاستقطاب وليد هذه الانتخابات الحالية بل هو ميزة طبعت الحياة السياسية التركية منذ إسقاط الخلافة العثمانية سنة 1923 وما تلا ذلك من تقاطبات.
فلعلكم تذكرون جمعية الاتحاد والترقي التي حشد لها الغرب كل قواه من أجل أن تساهم في إبعاد السلطان عبد الحميد. فمن يقرأ تلك المرحلة يستطيع أن يجد بعض تمثلاتها فيما حصل في الانتخابات التركية أمس.
لذلك أؤكد أن ما ميز الانتخابات التركية إضافة إلى ما ذكرت أعلاه هو كونها تجسد قدرا من الصراع بين الإيديولوجية الغربية القائمة على ضرورة إبقاء تركيا طرفا تابعا لها، وبين إيديولوجية التحرر والاستقلالية والندية التي ما فتئت تركيا أردوغان تسعى إليها، وقد حققت جزءا كبيرا وبقيت أجزاء أخرى.
أيضا هناك تاريخ 2023 الذي يؤشر على مرور 100 سنة من معاهدة لوزان وشروطها المجحفة والمكبلة لأي بروز لدولة تركيا، فقد انتهت بنود هذه الاتفاقية خلال هذه السنة أي سنة 2023. وأكيد سيكون متاحا للدولة التركية أن تستفيد من عدة أشياء حيث كانت يدها مكبلة بسبب هذه المعاهدة.
لوحظ تقارب في الأصوات وتقرر اللجوء للدور الثاني؟ ما رأيك؟
أعتقد أن حدة الاستقطاب بين الأطراف السياسية والتعبئة السياسية القوية التي رافقت الدعاية الانتخابية التي قام بها كل طرف قد أدت إلى هذا التقارب، وأضف لذلك قدرة كل طرف على اختراق جبهة الطرف الآخر وحجم الدعم المادي والمعنوي الداخلي والخارجي الذي تلقاه كل طرف واستثمره في زيادة التسويق والدعاية والتعبئة.
لماذا تراجع حزب العدالة والتنمية التركي في عدد من معاقله؟
لقد كان لافتا للنظر أن الانتخابات التي جرت أمس غيرت كثيرا من المعادلات، ولعل من أبرزها اختراق كل طرف لمعاقل الآخر، وتبقى عوامل أخرى وراء تراجع حزب العدالة والتنمية في أبرز المدن الكبرى، ومن أبرز تلك الأسباب وجود حزب العدالة والتنمية لأكثر من عشرين عاما في السّلطة حتّى وإن كانت إنجازاته كبيرة ولا يمكن إنكارها. فالسلطة تستهلك أصحابها مع مرور الزّمن وتجعل إمكانية التّجديد متعذّرة. وهذا ينطبق على أية قوة سياسية، وهو شيء ملاحظ في العالم كله. بل قد نستغرب قدرة حزب العدالة والتنمية على البقاء في السلطة بعد كلّ هذه السنين وما فيها من تحديات جسيمة.
أيضا هناك الأزمة الاقتصاديّة الحادة التي تمر بها تركيا، وهي أزمة عالمية شاملة، بسبب الحرب الروسية الأوكرانيّة، وتدني قيمة الليرة التي فقدت الكثير من قيمتها في وقت قياسي، وضُعف الرّواتب.
كما أن هناك مشكل ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطن التركي، الشيء الذي جعل قسما كبيرا منه يفكر بدرجة أولى في ظروفه الاقتصادية، ولا يلقي بالاً للإنجازات الأخرى التي حققتها الحكومة في المجالات العلمية والتكنولوجية والبنية التحتية والحريات العامة.
ويمكن الإشارة إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل حاد، وخصوصًا في المدن الكبرى، وتحميل الحكومة المسؤولية في ذلك، خصوصا بعد فتح الباب للتجنيس من خلال شراء العقارات، وهو ما مكن الآلاف من العرب من شراء أعداد هائلة من العقارات، فتسبب ذلك في ارتفاع الأسعار. والمعارضة الحالية رفعت شعار توقيف هذا التوجه، وسحب الجنسيّات الممنوحة.
وهناك سبب آخر يتصل بلجوء أعداد كبيرة من العرب وخصوصًا السّوريين للاستقرار في تركيا، ما اعتبره مواطنون أتراك سببا في تناقص فرص العمل بالنسبة إليهم، خاصة وأن هؤلاء اللاجئين يعملون بأجور متدنية لا يقبل بها الأتراك، ثم إن السوريين لهم قدرة كبيرة على الاندماج وصناعة فرص للعمل وبعث مشاريع (مطاعم وغيرها) بأسعار مناسبة، ما اضطر كثيرًا من الأتراك لغلق محلاتهم.
ويمكن أن نشير أيضا إلى الحساسية المفرطة التي تكونت لدى فئات من الأتراك من اللاّجئين عمومًا بسبب الأخبار التي تُنشر في وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعي تتّهم هؤلاء اللاّجئين بارتكاب أفعال مشينة وإساءة الأدب، بل وارتكاب جرائم أخلاقية.
هل لعبت المعارضة على ورقة اللاجئين؟
نعم، لقد وعدت المعارضة بترحيل اللاجئين إلى بلدانهم، ووقف منح الجنسيّة للأجانب على أساس شراء العقار أو الاستثمار، بل وسحب الجنسيات الممنُوحة خلال المرحلة الماضية، ما جعل فئات من الأتراك الذين تأثّرت حياتهم سلبًا يتحوّلون ويمنحون أصواتهم للمعارضة.
أيضا هناك رغبة فئات واسعة من الشّباب التركي، خصوصا من ينتخبون لأوّل مرّة في إحداث تغيير في المشهد السّياسي. وهؤلاء نوعان تقريبا: شباب يطلبون التغيير لمجرّد التغيير لأنهم ولدوا ولم يعرفوا في حياتهم رئيسا غير أردوغان، وهم يعتقدون أنّه حان الوقت لتغيير الوجوه، وفئة أخرى تعتقد أنّ سياسة الرئيس أردوغان تحرمهم من العيش الحرّ بعيدا عن أية ضوابط أخلاقيّة. وهؤلاء الشباب ليست لديهم صورة عن تركيا ما قبل العدالة والتنمية.