الاعتداء على الأئمة.. ماذا بعد؟
الاعتداء على أيّ إنسان ولو كان هو ذاته من أعتى المجرمين! حرام ومنكر وظلم مبين، فلا يجوز الاعتداء على أيّ كان ظلمًا وعدوانًا؛ لأن الإنسان مصون في دمه وماله وعرضه، ما لم يجترح جناية يستحق بها العقاب والمجازاة وِفق أحكام معلومة وقوانين مسنونة. قلت: حتى أعتى المجرمين هو مصون في دمه وماله وعرضه فيحرم الاعتداء عليه، وإنما يعاقب على جرائمه بحسبها، وإجرامه لا يبيح للناس الاعتداء عليه وظلمه!.. فكيف بالاعتداء على الأبرياء؟!، فكيف بالاعتداء على أصحاب الوظائف النبيلة والمقامات الشريفة؟، فكيف بالاعتداء على هؤلاء في الأماكن المقدسة كالمساجد والمدارس والمستشفيات وهلم جرا؟!.
إن الجرائم قد استشرت في مجتمعنا للأسف الشديد، ولذلك أسبابه المتعددة والمعقدة، وآثاره الوخيمة القريبة والبعيدة، والاستهانة بأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم صارت مصيبة طامة وظاهرة عامة، استباح بها بعضنا دماء بعض وأعراضهم وأموالهم، والجُرأة على حدود الله تبارك وتعالى ومحرمات دينه والمجاهرة بالمعاصي والفواحش أطلت برأسها وافتخر بها مقترفوها!، وقيم المجتمع الجزائري المنبثقة عن إسلامه وإيمانه تتآكل وتحارب من طرف نخبة وهمية مصنعة قِبْلَتُها باريس ولندن وواشنطن! وتحلّ محلها قيم غربية مادية تقتل الروح وتقسي القلب وتميت الضمير!، وما الارتفاع المجنون لحوادث المرور إلا نتيجة من نتائج هذه الاستهانة والاستباحة والجرأة والمجاهرة وتبدل القيم، وما الارتفاع المرعب لمعدلات الجريمة بكل أشكالها إلا نتيجة من نتائج هذه الاستهانة والاستباحة والجرأة والمجاهرة وتبدل القيم، وما وصول الجرائم إلى حِمى المساجد وساحات المدارس والجامعات وباحات المستشفيات إلا نتيجة مرة كريهة من نتائج هذه الاستهانة والاستباحة والجرأة والمجاهرة وتبدل القيم!، وإن الوضع سيزداد سوءًا وفُحشا إن لم يعالج معالجة جذرية، معالجة تهتم بمعالجة الأسباب والأمراض لا بمعالجة النتائج والأعراض كما نفعل عادة.
إنه لم يوجد ولن يوجد مجتمع خال من الجرائم تماما، هذا أمر يقيني قطعي، فلم تخلُ حياة الناس قط من جرائم ومجرمين، فهذه طبيعة هذه الحياة الدنيا، التي ما هي إلا دار ابتلاء وامتحان، يتمايز فيها الناس ويتفاوتون إحسانا وإساءة، خطأً وإصابة، عدلا وظلما، طيبة وسوءا… وما أُنزل شرع الله ودينه إلا ضبطا للناس وتربية لهم وتزكية؛ ليسلكوا طريق الإحسان والعدل والخير، ورَدعًا لهم وزجرًا عن اقتراف الإساءة والظلم والمنكر، ترغيبا وترهيبا، فما شُرعت الحدود والتعازير والعقوبات، وما وضعت القوانين إلا تقويما وردعا لمن ندّ عن الصراط المستقيم فاعتدى على غيره، وزجرا لغيره حتى لا يفعلوا فعله ولا يرتكبوا جُرمه؛ ولو لا احتمال سقوط بعض الناس في أوحال الجريمة لما كان لشرع تلك الحدود والتعازير وسنّ تلك القوانين معنى، فوجود الجرائم والمجرمين أمر وارد بل واقع.
بِيد أن تجاوز الجرائم معدلاتها الطبيعية كمًا وكيفًا، عددا ونوعا، هو أمر خطير ومرفوض ومقلق للعقلاء ومنغص لحياة الناس. كظاهرة الاعتداءات المتكررة على الأئمة، ذلك أن الإمام هو بشر كأحد من الناس، قد يتعرض للاعتداء كما قد يتعرض غيره، لكن الوظيفة التي يقوم بها لها رمزيتها ومكانتها ودلالتها، فأن يصل الأمر إلى طعنه في مسجده أو محرابه أو أثناء صلاته بالناس فهذا مؤشر خطير، وحين يتكرر الأمر مع عدد من الأئمة في مناطق مختلفة من البلد فهنا المؤشر أخطر بكثير. والذي يقلق أكثر هو تعامل السلطات وعامة الناس مع الظاهرة، حيث تختصر دائما بأن الفاعل مختل عقليا، وتمر مرّ السلام وكأن شيئا لم يحدث!، وتصوروا فقط لو أن لاعب كرة قدم أو ممثل (سكاتشات وكاميرا كاشي) أو مغنٍ فاشل أو مغنية ساقطة أو غيرهم من ممثلي نظام السخافة والتفاهة تعرض للطعن كيف ستقوم الدنيا ولا تقعد!، وكيف ستسخر كل وسائل الإعلام الثقيلة لتغطية الحدث!، وكيف ستنفجر مواقع التواصل الاجتماعي بالتفاعل والتعليقات!.. لا شك أن الاعتداء على هؤلاء مُدان ومرفوض مطلقا مثله مثل الاعتداء على أي إنسان بريء، وإنما أردت التنبيه على اختلال الموازين والقيم، وهوان مقام الإمام عند كثير من الناس مع أن الله تعالى رفعه وقدّره. مما يستدعي الاهتمام الجاد بهذه القضية واتخاذ التدابير اللازمة لحماية الإمام، فهذا حقه القانوني، فالإمام موظف ويستحق الحماية مثله مثل باقي الموظفين؛ لأن الاعتداء عليه في مسجده وأثناء أداء وظيفته مثله مثل الاعتداء على ضابط جيش أو ضابط أمن أو عون إداري أو موظف في مؤسسة عمومية.. هؤلاء كلهم موظفون رسميون ويستحقون الحماية كلهم دون تفريق ولا تفضيل.
وأحسب أن الكلام على هذه الظاهرة الممقوتة فرصة للتأكيد على ضرورة إعادة النظر في وضع الأئمة اجتماعيا ووظيفيا عملا على تحسينها وتطويرها، وضرورة إعادة النظر في تقدير الإسهام الكبير والخدمات الجليلة التي يؤديها الإمام للمجتمع توعية وتعليما وتوجيها وإصلاحا وخدمات اجتماعية.. فتعظيم رسالة المسجد من تعظيم حرمات الله: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، وإكرام الأئمة من إجلال الله تعالى، ففي الحديث الصحيح: «إن من إجلال الله إكرام.. حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه»، والأئمة هم من حملة القرآن العظيم قطعًا.
طبعا، لا أنفي وجود (أئمة) ليسوا في مستوى المقام الذي تبوؤه، ولا يشرّفون العمل الذي تقلّدوه، بل بعضهم يستحق الصفع قبل الفصل، ولكن هذا نادر وشاذ والشاذ يُحفَظ ولا يقاس عليه، وحتى من حاله كذلك لا يجوز الاعتداء عليهم بحال. ثم إن حماية المنبر والمسجد من أن يتسلط عليه ضعيفو المستوى قليلو الأخلاق هو مسؤولية الإدارة الوصية، التي يجب عليها أن تراجع شروط التوظيف، وتضع برامج جادة للتكوين المتواصل لمن يوظف إماما حتى يبقى مستواه في ارتفاع وتحسن، وأن تعمل على حفظ مقام الإمامة عظيما في نفوس الناس، عظيما في المجتمع، عظيم النفع والأثر.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة