الفلاح و”تَمَارَا”
يحيل مفهوم “تمارا” في الحقل الاستعمال الاجتماعي بالمجتمع القروي، حرفيا للمعنى أو للدلالة على المشقة في العمل، حيث يبدل الانسان مجهودا، يجهده بدنيا ونفسيا من أجل كسب قوته للعيش. ومن أوجه العمل التي تتباين فيها حدة مشاهد الأعمال الشاقة الميدان الفلاحي، عند الفلاحين الصغار الذين لا تسمح لهم ملكيتهم العقاريةصغيرة الحجم، من أن تكون عندهم الآلات، والمعدات الحديث التي تحييد عملية الأعمال الشاقة، فما تزال هذه الشريحة في جوف عملية الإنتاج، يعتمدون على سواعد أيدهم في عملية الحرث، والزرع، والحصاد، وتربية الماشية… إلخ. وفي الأوساط القروية، تكاد تكون كلمة فلاح و”تمارا” عملة واحدة بوجهين.
المعاناة والشقاء في حياة الفلاح، سواء من يملك أرضه الصغيرة التي يراهن عليها من أجل كسب عيشه، أو العامل في الفلاحة الذي يشتغل عند صاحب أرضيتكلف بمسؤولية بعض الاشغال الشاقة، كالحرث والحصاد…إلخ؛ متعددة في الميدان الفلاحي، فلا يوازي مشقة العمل في هذا الميدان، إلا من يعملون في أوراش تجهيزات البناء قبل أن تدخل المكننة في أوراش البناء لتحمل جزءا من الاثقال عن عمال البناء، وتملي القوانين بعضا من القوانين التي تحد من حيف الأعمال الشاقة في عالم الأوراش والبناء.
أما في الفلاحة، فالانسان الفلاح، وخصوصا الفلاح الصغير، يعانق “تمارا” من بابها الواسع، فكل الطرق تؤدي إليها وما عليه إلا أن يستقبلها بصدر رحب؛ في كل فصل يعانق الظروف وتقلب المواسم، كيف ما كانت طبيعتها، وسط إملاءاتها يعمل من أجل سد رمق الجوع، فلا خيار متاح له إلا الصمود والمواجهة.
في زمن الشقاء السرمدي الذي يمتد على الفلاح من بداية موسم الحرث إلى بداية موسم آخر، دوامة من تمارا، أو قل زمن تمارا السرمدي، يستمر عقب تعاقب الفصول، والمواسم فمن الحرث إلى الزرع، ومن الزرع إلى الحصاد، ومنه عود على بدء، وما يتخلل ذلك من مطبات العمل الموازية المتعلقة بتربية الماشية، ونحوها من امور الزراعة والحصاد.. إلخ.
دوامة تمارا لا تتوقف في زمن الفلاح، وبالخصوص مع سرعة الحياة في الزمن الراهن، ومتطلباته المادية، فممتهن الفلح، في كل يوم، من شأن لشأن آخر، كل يوم وهذا الفلاح على مقصلة “تمارا”، تجلده جلدا، لا يتوقف ذلك الجلد إلا: في حالة المرض أو الشيخوخة أو الموت.
من مفارقات عالم الفلاحين الصغار، أو قل الفلاحين الفقراء؛ يعيشون بدون حساب زمن العمل، ومردوديته، ولا عد الأشخاص المشاركين فيه؛ الرجل، الزوجة، الأبناء، الأخت.. عمل جماعي لا تتطبق عليه مقولة “مدونة العمل” الكل عليه أن يقاوم مع الاسرة من أجل العيش. ليس العمل من أجل المال، والمردودية وفقط، هو عمل بطعم الهوية والقتال في سبيل العقيدة.. وعقيدة الفقراء الخبز الحلال. ومن هنا يستمد الفلاح قوته من أجل المرور الصعب، من يوم إلى يوم في دوامة “تمارا” بدون توقف، ولا كلل ولا ملل، وكأنه الليل السرمدي ارخى سدوله على هذا الإنسان، وفطم عليه هذا الفلاح، الذي ورث الشقاء منذ أن كانت الطبيعة تملي شروطها على الانسان وتقهره.
الفلاح الصغير وأسرته جزء من “المعذبين في الأرض”، يمخر الفلاح الفقير أمواج الشقاء كخشبة متخشبة في وسط البحر الميت، من موجة لموجة، ومن عاصفة لعاصفة.. عالم من تلاطم الأمواج الصعاب في حياة هذا الإنسان، لاسيما الذي تخشب وتخشن من جراء يوميات الشقاء. قد يغدره الموت في دوامة الشقاء كمحارب يذود عن الوطن.
ملامح الشقاء أو قل “تمارا” هي واضحة المعالم، وجوه الفلاحين كالملائكة، نحثها الزمن بكثرة شقائه، ورسم عليها تجاعيد الفناء في العمل، وأيادي تشققت من جراء المداومة على العمل… الحر والقر وتعاقب النهوض في الصباح الباكر، كل مطارق تنهال على ملح الأرض(=الفلاح).
في سرديات الامثلة الفلاحية والشعبية، “يد الفلاح نقية”، نعم؛ هي نقية من جراء الحركة والعمل وملامسة التراب ووجعه، هذا النقاء ينتشر في البدن، ومنه يتسرب للصميم القلب عبر العروق المنتفخة من ضغط الحياة.
الفلاح هو الفلاح، قسى على نفسه ركن حب الحياة البارد، وأقبل على حب الحياة الساخن. لا شيء من غير يمر من مرئه من غير جبين عرقه، ولو كان قليلا، مسترشدا بالحكمة الشعبية “قليل ومداوم ولا كثير امقطوع”، حياة كلها كفاف، وعيش تحت إيمان المطلق برحمة الله الواسعة، الدنيا فانية والأخيرة هي الأهم يقول الفلاح…ونعم بالله.
يكابر الفلاح، جراء كل ضربة جفاف تلحق به أضرارا مادية ومعنوية، يشكو لله وحده، من كان وراء تقلب المناخ، وفي إيمانه الشكوى لغير الله مضيعة للوقت. يكون الضرر بليغا وعميقا أكثر على هذا الإنسان الذي خشبته ضربات الجفاف، حينما يصطدم مع حقيقة طلبات الحياة؛ يطلب منه أحد أبنائه، مطلب لا يمكن تحقيقه له، فالسنة هي سنة جفاف، عجفاء، هذا الوضع يغرب الفلاح، ويهوي به، ليئن في صمت منقطع النظير، ويجعله يتآكل من الداخل، ويمشي مطأطأ الرأس برغم من مقاومته الباسلة، لكن الهزيمة هي الهزيمة، كجندي حارب بكل بسالة وخسر الحرب، وتبقى الخسارة خسارة والجفاف جفاف.
طموحات، وأحلاما راودت أطفال الفلاح، وهم تحت شجرة التين، وشجرة الزيتون.. مستلقون في حضرة ابيهم وأمهم، ينتظرون أن يفرغ اباهم من غدائه، تحت ظل الأشجار في يوم من ايام الصيف العابر، تتعالى الأحلام بغد أفضل، بتحسن الأوضاع، بعام يعيد المجد لعام “الصابا”. آه.. آه.. تكبر الأحلام، وتلتطم مع صخرة الواقع… فلاحون بلا أرض، ولا إهتمام.
أمل وراء أمل، وأحلام وراء أحلام، و أنشودة تلو أنشودة، خير الأنشودات والسنفونيات في وجدان الفلاحين الصغار، والفقراء، أنشودة المطر، وصدى صوت الهزيم(=صوت المطر الشديد)، يغازل بها أرضه وحظه وأحلام أسرته.
من يمعن النظر، في تفاصيل حياة الفلاح الصغير والفقراء عموما، تحرق مقلته، وتنطفئ عينه من هول “تمارا”. لا ضير من كل هذا، الذي يقتل الفلاح مئة يوم في اليوم، هو من يسرق حقوقهم. قصارى القول، “على هذه الأرض من يستحق الحياة”.
المصدر: العمق المغربي