أزمة الأمم في نفوس أبنائها!
إن الإنسان يرتاح لما يتنصل من مسؤوليته ويحملها غيره، وهو بهذا يهرب من الحقيقة التي تبقى تطارده!. ولكن القرآن الكريم يُربّي المسلم على مواجهة الحقيقة وتحمل نتائج أعماله وأخطائه. فأكثر الناس إذا ما دَهَته داهية أو حلت به مصيبة يذهب بعيدا ليبحث عن أسبابها، ويذهب أبعد في تفسيرها وتعليلها!. ويغفل البحث في المجال الأقرب، الذي هو نفسه وأفعاله وقراراته واختياراته ومساراته… غير أن العاقل من يبدأ بنفسه، ويبدأ بتقييم أعماله ومواقفه، وهذا ما يرشدنا إليه القرآن العظيم ويؤكد عليه.
يقول الحق سبحانه: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه لكل مكلف من أمته كما هو معلوم، ويقول عز شأنه: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
وليس هذا الأمر خاصًا بالأفراد بل حتى الأمم والمجتمعات حال تخلفها تسير هذا السبيل، فترمي تخلفها على كاهل عدوها، وتفسر نكساتها ونكباتها بمؤامرات شياطين الظلام التي لا تنتهي ولا تنقضي!. وكثيرًا ما يكون هذا المتآمر هو نفس هذا المجتمع ونفس هذه الأمة حين تضل طريقها؛ فتهدر طاقاتها فيما لا يفيد، وتضيّع أوقاتها فيما لا يجدي، وتفتح أبوابها لعدوها، وتبسط له رأسها ليدوس عليه، ثم تشتكي الآلام والذل والهوان!. وتغرق في الفساد والتيه والانحلال!.
والقرآن الكريم فند هذا التفكير السقيم وأبطل هذا المنطق العليل، فقال الله جلت حكمته: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}، وقال جلت قدرته: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}، وما أعظم حاجتنا في هذا الزمان، وفي كل زمان ومكان إلى فهم هذا المعنى الجليل فإننا كثيرا ما نقصر في حق الله وفي حق أنفسنا وفي حق غيرنا، ولا نباشر الأسباب التي تحقق النتائج المرجوة، ولا نحصل الأسباب التي شرعها الله للوصول إلى النصر.. بل نبني حياتنا على الغرور والإهمال، ونغترّ بالأوهام، ونلتذ بالأحلام، ونخادع أنفسنا بشقاشق الكلام، فإذا ما أصابتنا الهزيمة مسحنا عيوبنا في القضاء والقدر، أو في غيرنا من الناس، أو في المؤامرات السرية!، لغفلتنا عن أن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا.
فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله، ومن أعرض عنها حرمه الله تعالى من عونه ورعايته. يقول سيد رحمه الله: “لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سُنّة الله. وسُنّة الله لا تحابي أحدا.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس [والقوانين التي جعلها الله حاكمة على حياة الناس]”.
فهي حقيقة بيّنة إذن: الانهزام يبدأ من النفوس، ولانحراف يبدأ منها، والانهيار يبدأ منها، والأزمة تبدأ منها!. فالاستعمار لم يكن ليحصل لولا القابلية للاستعمار!، والاستبداد لم يكن ليتسلط لولا القابلية للاستبداد، والفساد لم يكن لينتشر لولا القابلية للفساد، والمجون لم يكن ليستعلي لولا القابلية للمجون، والتقليد الأعمى للغرب لم يكن ليقع لولا القابلية للتقليد… وهلم جرا. فإذا أردنا أن نقضي أو نقلل من هذه الموبقات، فعلينا أن نخرج القابلية لها من نفوسنا، ونطهر منها حياتنا.