أي مراجعة بعد 19 سنة من التنفيذ؟
وضعت أمينة الفلالي، على سن 16 سنة، في شهر مارس 2017، حدا لحياتها لما تم إجبارها على الزواج من مغتصبها. في غشت 2018، اختطفت خديجة أوكارو، وهي بنت 17 سنة، وعذبت واغتصبت من طرف اثني عشر رجلا. في شتنبر 2022، فارقت الحياة مريم، وفي عمرها 14 ربيعا، إثر عملية إجهاض سري بعد اغتصابها. وخلال شهر أبريل الماضي (2023)، اغتصبت سناء، التي لم يتجاوز عمرها 11 سنة، مرات متعددة خلال شهور عدة من طرف ثلاثة رجال. اغتصابات بشعة ارتكبت كلها ضد فتيات قاصرات.
عند كل اغتصاب تتعالى أصوات الإدانة. لكن تكرار هذه الظاهرة يشي بعنف مادي ورمزي ضد النساء، بمختلف أشكاله، مستشري في مجتمعنا وبالنظر الدوني للمرأة في واقعنا. لذا فموضوع الحماية القانونية للنساء ضد العنف يطرح نفسه بقوة. والنص القانوني المعني هنا هو مدونة الأحوال الشخصية، التي عرفت تعديلات متوالية منذ إقرارها سنة 1957.
تم اعتماد هذه المدونة في عهد جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله. وأعد المشروع الأولي السيد عبد الكريم بنجلون التويمي، أول وزير للعدل في المغرب المستقل (حكومة البكاي 19551958). ثم اشتغلت على هذه المسودة لجنة شكلها جلالة الملك مؤلفة من عشرة علماء مع الراحل علال الفاسي مقررا. إلا أن النسخة النهائية اكتفت بتدوين الفقه المالكي السني التقليدي في الموضوع ولم تحتفظ بالأحكام المتقدمة التي اقترحتها وزارة العدل. كما أنها تجاهلت المقترحات “الثورية” للمرحوم علال الفاسي في كتابه “النقد الذاتي”.
في عام 1979، عين جلالة الراحل الحسن الثاني لجنة لمراجعة نص المدونة. وعملت هذه اللجنة لمدة سنة في صمت، قبل أن تسلم مشروعها في 5 مايو 1981. لكن أحداث يونيو 1981 في مدينة الدار البيضاء أدت إلى تأجيل هذه المراجعة.
ولأخد بعين الاعتبار مطالب الناشطات المدافعات عن حقوق المرأة (ولا سيما عريضة المليون توقيع لاتحاد العمل النسائي بقيادة لطيفة جبابدي)، وفي إطار مشروع الإصلاح الدستوري، صرح صاحب الجلالة الحسن الثاني، بمناسبة إحياء ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 أغسطس 1992، أن مسألة مراجعة المدونة “قضية من اختصاصي… كأمير المؤمنين لي صلاحية تطبيق وتفسير الدين”. وألمح للناشطات المدافعات عن حقوق المرأة أن يقدمن “ملاحظتهن، وانتقاداتهن وتظلماتهن” في موضوع مراجعة المدونة للديوان الملكي. وقد تم ذلك بالفعل، حيث تم استقبال وفد من ممثلي الحركات والمنظمات والجمعيات النسوية المغربية في القصر الملكي للصخيرات في 29 سبتمبر 1992.
عقب هذا الاستقبال، عين صاحب الجلالة الراحل الحسن الثاني لجنة استشارية لمراجعة قانون الأسرة. وتكونت هذه اللجنة، التي ترأسها الراحل عبد الهادي بوطالب، مستشار الملك، من علماء وكبار القضاة ووزراء العدل والشؤون الإسلامية.
وفي فاتح مايو 1993، بمناسبة عيد العمال، تم تقديم مشروع المراجعة للمنظمات النسوية وتم اعتماده كظهير. وفيما يلي بعض الأحكام المتقدمة التي تم اعتمادها في هذه المراجعة:
1. حظر الزواج القسري؛
2. منح المرأة الحق في عقد زواجها أو تفويضها الأمر لوال تختاره؛
3. في حالة وفاة الأب أو فقدانه للأهلية القانونية، ينتقل التمثيل القانوني للطفل إلى الأم؛
4. منح المرأة الحق في اشتراط ألا يتزوج عليها زوجها عند إبرام شهادة الزواج؛
5. إنشاء مجلس عائلي لمساعدة القاضي في المسائل الأسرية.
يعكس هذا الإصلاح، الممنوح والمحدود، إرادة صاحب الجلالة الراحل الحسن الثاني في التوفيق بين ضرورة تهدئة التوترات الاجتماعية والحفاظ على قيم وأحكام المذهب المالكي.
بعد تشكيل حكومة التناوب التوافقي في أبريل 1998 سيتم العودة لموضوع مراجعة مدونة الأحوال الشخصية حيث صرح محمد سعيد السعدي (عن حزب التقدم والاشتراكية) الذي عين كاتبا للدولة لدى وزير التنمية الاجتماعية والتضامن والتشغيل والتكوين المهني، مُكلّفاً بالأسرة والطفل: “أن حكومة التناوب التزمت بضرورة إنصاف المرأة ورفع الحيف عنها، خاصة فيما يتعلق بالتشريعات غير المنصفة، بما فيها مدونة الأحوال الشخصية”. وهكذا أعلنت الحكومةُ مشروعاً يحمل اسم “خطة إدماج المرأة في التنمية”، وضعته كتابة الدولة المُكلّفة. تضمّنت هذه الخطة نحو مائتي إجراء للنهوض بأوضاع النساء في مجالات متعددة. وقد أحدثت هذه الخطة انقساما مجتمعيا حادا خاصة فيما يخص 14 تدبيرا يتعلق بقانون الأسرة (سن الزواج، تعدد الزوجات، الطلاق…). وعارض هذا المشروع بشدة وزارة الشؤون الإسلامية والمنظمات والأحزاب المحافظة والإسلامية.
أدت صدمة وفاة صاحب الجلالة الراحل الحسن الثاني إلى توقف مؤقت للتوتر الاجتماعي والجدل حول “خطة إدماج المرأة في التنمية”. لكنه استأنف في وقت لاحق بحدة أكبر، يوم 12 مارس 2000، بمظاهرتين كبيرتين في الرباط للمدافعين عن الخطة وفي الدار البيضاء من قبل الحركات الإسلامية المعارضة للمشروع.
لتخفيف التوتر، عين جلالة الملك محمد السادس لجنة استشارية لمراجعة المدونة في أبريل 2001، برئاسة السيد إدريس الضحاك ثم الراحل محمد بوستة. وضمت اللجنة 15 عضوا، بينهم قضاة ورجال قانون وثلاث نساء (السيدة زهور الحر والسيدة رحمة بورقية والسيدة نزهة جسوس)، إلى جانب العلماء.
بفضل تعدد وتنوع الآراء الممثلة في هذه اللجنة، عرفت مناقشات مكثفة بين أصحاب النظرة المحافظة ومناصري التأويل المنفتح، مما يفسر طول عملها (28 شهرا). وفي النهاية اتخذت اللجنة قراراتها بالإجماع، ورفعت النقط الخلافية إلى نظر جلالة الملك محمد السادس للحسم فيها.
اشتغلت اللجنة لأكثر من عامين ونصف، واجتمعت خلال مئات الساعات، وخصصت جلسات استماع لأكثر من 80 جمعية ومنظمة. وبعد ذلك رفع المشروع للتحكيم الملكي. ويوم 16 يناير 2004 صادق البرلمان بمجلسيه على نص المدونة.
اشتمل هذا النص على أحكام جديدة تنصف المرأة المغربية من بينها: رفع الحد الأدنى القانوني لسن زواج الفتيات من 15 إلى 18 سنة، وضع الأسرة تحت الرعاية والمسؤولية المشتركة للزوجين، تشديد أحكام تعدد الزوجات ووضعه تحت سلطة القضاء… من عهد إلى آخر تغيرت مقاربة الإصلاح وتشكيل وصلاحيات اللجنة المشرفة على المراجعة ومصدر المصادقة على نص المدونة الجديدة. وهكذا بعد أن كان الإصلاح ممنوحا أصبح تشاركيا، وبعد أن كانت اللجنة المكلفة بالمراجعة مكونة حصريا من علماء الدين أصبح تكوينها متعدد الاختصاصات وبمشاركة ثلاثة نساء، وبعد أن كانت المصادقة تتم بظهير ومن الاختصاص الحصري لجلالة الملك، تمت المصادقة عليها من طرف البرلمان بعد تحكيم ملكي.
20042023: ماذا بعد 19 سنة من التنفيذ
في خطاب العرش لسنة 2022، خصص جلالة الملك محمد السادس جزءا معتبرا لورش “النهوض بوضعية المرأة… وإعطائها المكانة التي تستحقها”. وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها يقول صاحب الجلالة “أصبحت غير كافية، لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها”. لذلك يتعين يضيف جلالته: “تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها”. وأكد جلالته على أن يتم ذلك، في إطار احترام مقاصد الشريعة الإسلامية، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.
تشكل هذه التوجيهات الملكية دعوة، على أعلى مستوى في الدولة، إلى مراجعة جديدة وجريئة لمدونة الأسرة ومختلف التشريعات الوطنية التي تؤطر الوضع القانوني للمرأة المغربية، واستجابة للجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة التي تطالب منذ سنة 2014 بإصلاح جديد للمدونة يتدارك ويتجاوز الاختلالات والسلبيات التي أبانت عنها عشر سنوات من تطبيق مدونة 2004. وأمام صمت وتقاعس الطبقة السياسية، تولى جلالة الملك من جديد زمام المبادرة في إطلاق هذا الإصلاح.
ما هي المؤاخذات الأساسية حول مدونة الأسرة؟
أصبحت مدونة الأسرة متجاوزة نطرا للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت في بلادنا منذ قرابة عقدين من الزمن. فقد أضحت تتناقض مع دستور 2011، وخصوصا مع المادة 19 التي تكفل المساواة في الحقوق والحريات بين الرجل والمرأة، ومع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وخاصة “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”.
إلا أن المرأة المغربية لا تزال تتعرض للتمييز على عدة مستويات وفي مجالات متعددة، مما يزيد من شعورها بانعدام الأمن القانوني والقضائي والاقتصادي والاجتماعي، ويكرس وضعيتها الدونية وتبعيتها، مما يؤدي إلى تقييد حرياتها وحقوقها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تنفيذ مقتضيات مدونة 2004 كان يتطلب إخبارا ونشراً واسعاً في المجتمع وتحسيسا خاصاً للمواطنات المغربيات بحقوقهن الجديدة، وهو الشيء الذي لم يتم. وعلى الرغم من أن الأحكام المتعلقة بتعدد الزوجات والوصاية على الأطفال والطلاق شكلت تطورا إيجابيا، إلا أن الاستثناءات العديدة التي كان يمنحها القضاة عاقت كثيرا ترجمة هذا الأثر الإيجابي على أرض الواقع. وفي نهاية المطاف، أدت هذه التأويلات القضائية المحافظة والذكورية إلى انحراف المقتضيات المتقدمة لمدونة الأسرة عن أهدافها.
وأخيرا، لا زالت مراجعة القانون الجنائي، التي كان مقررا أن تصاحب مقتضيات مدونة الأسرة فيما يخص تعزيز حماية النساء والأطفال، تراوح مكانها.
ما هي مطالب المدافعين عن حقوق النساء في مراجعة المدونة؟
رغم أن السن القانونية للزواج بالنسبة للفتيات هو 18 سنة، فإن المادة 20 من قانون الأسرة تمنح حاليا للقاضي إمكانية السماح بالزواج للقاصرة بشروط معينة. لذا يجمع المدافعون عن حقوق النساء على الضرورة الملحة للمنع الكلي لزواج القاصرات وذلك بحذف هذه الصلاحية الممنوحة للقاضي. وفي نفس الموضوع، تطالب الجمعيات النسائية بتنقيح المادة 16 (دعوى الاعتراف بالزواج أمام قاضي الأحوال الشخصية) لمنع الحالات المقنعة لتعدد الزوجات أو زواج القاصرات.
كما تمنح المادة 231 من مدونة الأسرة حق الوصاية على الأطفال تلقائيا للأب، مما يهمش الأم ويحرم الأطفال من حقهم في التعليم والحماية العادلة، لذا فإن المدونة مطالبة بتكريس المساواة في الحقوق بين الأب والأم ليكونا سويا أوصياء على أطفالهما.
وفي موضوع حضانة الأطفال، تُحرم حاليا الأم من حضانة طفلها الذي يزيد عمره عن سبع سنوات بمجرد زواجها. لذلك ينبغي إلغاء هذا المقتضى التمييزي لضمان حقوق الأمهات والأطفال ولتحقيق التوازن بين الوالدين.
إن المراجعة القادمة للمدونة مطالبة كذلك بتوفير آليات لتحديد مبلغ نفقة الزوج، ومبالغ التعويض بعد الطلاق، ووضع حد لصعوبات تنفيذ استخراج النفقة.
علاوة على ذلك، فإن اعتماد اختبارات الحمض النووي لإثبات بنوة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج أمر ضروري لحماية حقوق الأطفال وضمان تكافؤ الفرص وحقوقهم المدنية مع الأطفال الآخرين.
وأخيرا، ينبغي فتح نقاش مجتمعي معمق حول مواضيع حساسة وحاسمة للنهوض بوضعية المرأة، كالمساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، وميراث الأزواج غير المسلمين، وزواج المسلمات من غير المسلمين، والحق في زيارة الأطفال موضوع حضانة… إلخ
كلمة أخيرة
إن حقوق المرأة قضية سياسية بالأساس. ومن ثم، ولكي تتبوأ المرأة المغربية المكانة التي تستحقها في المجتمع، أصبح من الضروري مراجعة كل النصوص التي تؤطر وضعها القانوني (قانون الجنسية، القانون الجنائي، قانون المسطرة الجنائية…)، بما يتفق مع دستور 2011 والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب. لذلك فالأمر يتطلب مقاربة شمولية لتعزيز حقوق المرأة وتمكينها من التمتع بكامل حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
عشرة أشهر بعد خطاب العرش لسنة 2022، وباستثناء المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي أنشأ فريق عمل لإصلاح المدونة، فإن الحكومة (السيدة عواطف حيار، وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة) والأحزاب السياسية لا زالت قابعة في الصمت والانتظارية. وذلك باستثناء السيد عبد اللطيف وهبي، وزير العدل والأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي تطرق للموضوع في مناسبات متعددة ومن بينها مقابلة تلفزيونية على القناة الثانية يوم 4 يناير 2023، حيث صرح أن وزارته أعدت رؤية في موضوع مراجعة مدونة الأسرة وأنه عندما يحين الوقت “سيكون هناك نقاشا وطنيا على ضوء توجيهات جلالة الملك”. كما صرح خلال جلسة عامة للأسئلة الشفوية في مجلس النواب، يوم 17 يناير 2023، أن هذا الإصلاح “يهم العديد من المؤسسات الدستورية المخولة لإبداء رأيها في هذا الموضوع وعلى رأسها جلالة الملك كأمير المؤمنين”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه منذ دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، لا زالت هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز (المادة 19) والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة (المادة 32) تنتظر إحداثهما. وكان بإمكانهما أن يساهما مساهمة بناءة في مسلسل مراجعة مدونة الأسرة، إسوة بجمعيات المجتمع المدني المعنية والأحزاب السياسية.
بعد التوجيهات الملكية التي فتحت ورش مراجعة مدونة الأسرة من جديد، على الحكومة والطبقة السياسية أن ترتقي إلى مستوى مسؤولياتها المجتمعية للمشاركة في بناء مغرب متقدم ومنصف وعادل لكل أبناءه، رجالا ونساء.
المصدر: العمق المغربي