أحكام الاعتكاف
شهر رمضان هو الشّهر الّذي جمع فيه الله تعالى عبادات كثيرة تفرّقت فيما سواه، فهو شهر القرآن والصّيام والصّدقة والتّراويح وغيرها من القُرب، ومنها ومن أعظمها عبادة الاعتكاف، فما هو الاعتكاف وما أحكامه؟
الاعتكاف في اللّغة: هو لزوم الشّيء وحبس النّفس عليه بِرًّا كان أو غيره، قال تعالى: {مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي ملازمون. أمّا الاعتكاف في الشّرع فهو: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في وضع مخصوص، ولمّا كان المعتكف ملازمًا للعمل بطاعة الله مدّة اعتكافه لزمه هذا الاسم.
أمّا حكم الاعتكاف فهو سُنّة فعلها النبي صلّى الله عليه وسلم وفعلها صحابته وزوجاته معه وبعده، ويكون الاعتكاف فرضًا إذا ألزم به الصّائم نفسه أي إذا كان نُذُرًا فيصبح فرضًا عليه، لقوله عليه الصّلاة والسّلام: “من نذر أن يعبد الله فليعبُده” أي من ألزم نفسه عبادة معيّنة فليؤدّها وجوبًا. ولمّا كان الاعتكاف عبارة عن عبادة يخلو فيها المعتكف بربّه سبحانه لزمه أن يؤدّيها في المسجد لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وأن لا يخرج منه إلّا للضّرورة، قالت عائشة رضي الله عنها: “السُّنّة للمعتكف ألّا يخرج من معتكفه إلّا لما لا بدّ منه”، وما لا بدّ منه هو قضاء الحاجة وما في معناه من الأكل والشّرب إذا لم يوجد من يأتيه به، إلّا أن يشترط في اعتكافه أن يخرج للجنازة وعيادة المريض. ويشترط في الاعتكاف الصّوم عند مالك وأبي حنيفة، وهو الصّحيح لأنّه لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه اعتكف وهو غير صائم لأنّ اعتكافه كان في رمضان. والمعتكف في خُلْوَة مع الله تعالى فينبغي له أن ينشغل بالعبادة من صلاة وصيام وذِكر وقراءة قرآن وتفكُّر، ونجنّب اللّغو وكثرة الكلام والجدال والمراء وغير ذلك من فضول الكلام، رغم أنّ ذلك لا يبطل اعتكافه وإنّما استُحِبّ له اجتناب هذه الأمور لينشغل بما اعتكف لأجله من طاعة الله واجتناب لمعاصيه. ويفسد الاعتكاف بالمباشرة للزّوجة لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، ولا قضاء على مَن فسد اعتكافه إلّا أن يكون اعتكاف نذر أي واجبًا فيقضيه. واختلف العلماء في المسجد الّذي يصحّ الاعتكاف فيه، فذهب بعضهم إلى أنّه خاص بالمساجد الثلاثة الّتي تُشَدّ لها الرّحال، المسجد الحرام ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، واستدلّوا بحديث: “لا تُشَدُّ الرّحال…”، وذهب آخرون إلى أنّه لا اعتكاف إلّا في المساجد الّتي تجمع فيها الجماعة، وذهب الجمهور إلى أنّه يجوز في كلّ المساجد لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وهذا هو الصّحيح لأنّ الآية لم تعيّن مسجدًا بخصوصه فيبقى اللّفظ على عمومه.
ومن نذر أن يعتكف في مسجد بعينه فله أن يعتكف في أيّ مسجد لأنّ المساجد كلّها في الفضل سواء، إلّا إذا نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة الّتي تُشَدّ لها الرّحال فإنّه يلزمه ذلك ولا يجزئه أن يعتكف في غيرها، ولكن إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام فلا يجزئه أن يعتكف في مسجد رسول الله لأنّ المسجد الحرام أفضل منه، ولكن إذا نذر أن يعتكف في المسجد النّبويّ فله أن يعتكف في المسجد الحرام لأنّه أفضل وهكذا بالنّسبة للمسجد الأقصى المبارك. والمرأة أيضًا يجوز لها أن تعتكف مثلها في ذلك مثل الرّجل، وفي المسجد أيضًا وليس في بيتها، لأنّ الاعتكاف لا يجوز إلّا في المسجد كما سبق ذكره ولكن بعض الفقهاء أجازوا لها الاعتكاف في بيتها.
وأمّا شروط المعتكف فهي: الإسلام والتّمييز والطّهارة من الجنابة والحيض والنّفاس، فلا يصحّ الاعتكاف من كافر ولا من صبي غير مميّز ولا من جنب ولا حائض ولا نفساء. وليس للاعتكاف وقت محدود، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعتكف عشرة أيّام بلياليها، وفي رمضان الأخير قبل وفاته صلّى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يومًا، وجوَّز العلماء الاعتكاف أقلّ من ذلك ولو يومًا واحدًا فقط، هذا في اعتكاف التّطوّع، أمّا اعتكاف النّذر فلا بدّ أن يفي المعتكف بالمدّة الّتي نذرها كاملة.
والمعتكف يجوز له أن يقطع اعتكافه بعد الدخول فيه متى شاء قبل انقضاء المدّة الّتي نواها، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف مرّة فأمر ببنائه أن يضرب (أي المكان الّذي يعتكف فيه) فلمّا علمت زوجاته بذلك أمرن ببنائهنّ أن يضرب أيضًا، فلمّا رأى ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، أمر ببنائه فقوّض، يعني ألغى الاعتكاف الّذي كان قد نواه، وكذلك فعلت نساؤه اقتداء به.
بقيت مسألة أخيرة متعلّقة بموضوع الاعتكاف وهي متى يدخل المعتكف معتكفه، فالعلماء كلّهم قالوا إنّ الدّخول يكون قبل غروب الشّمس فإنّه أوّل النّهار، وتنتهي المدّة بغروب الشّمس من آخر يوم نواه، وإن كان نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فالأفضل البقاء في معتكفه حتّى يخرج إلى صلاة العيد.